تمخضت سنتا الحراك الشعبي الأردني، 2010 ــ 2011 عن لوحة اجتماعية سياسية، ونسب جديدة للقوى في البلاد. فبينما كان القصر يحتلّ مقدمة المشهد الأردني، بمشاركة جانبية من أجهزة الدولة من جهة والإخوان المسلمين من جهة أخرى، نلاحظ اليوم تغييراً عميقاً ومعقداً في ذلك المشهد الذي أصبح مفتوح الاحتمالات. أظهرت تطوّرات الصراع الداخلي ـــ المتصل بالطبع، بالصراعات الإقليمية والدولية ـــ وجود أربع قوى رئيسية في البلاد؛ منها قوتان متداخلتان، تشكلان معاً قوة النظام السياسي، وهما القصر، بما هو ممثل لمصالح العائلة المالكة وصلاتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية، وحاشيتها من عائلات الإقطاع السياسي والنخب الكمبرادورية، مضافاً إليها نخبة نيوليبرالية أنشأها وعززها الملك عبد الله الثاني، وأجهزة الدولة الإدارية والأمنية التي أظهرت الأحداث أنّ ولاءها للعرش لا يلغي حيثيتها المستقلة كنهج وحركة وآليات.
وتنتظم هذه القوة في البيروقراطية الأردنية التقليدية وامتداداتها في جيش القطاع العام من العاملين والمتقاعدين والقيادات العشائرية التقليدية. ويُشار إلى هذه القوة، تعريضاً بها، بمسميات منها «الحرس القديم» و«قوى الشدّ العكسي» و«الليكود الأردني»، وهي مسميات يستخدمها الجناح النيوليبرالي، وأحياناً الملك نفسه، إعراباً منه عن ضيقه من بيروقراطية الدولة المسيّسة التي تعارض التوجهات النيوليبرالية في الاقتصاد والليبرالية في السياسة، بما في ذلك مساعي التجنيس والتوطين السياسي للفلسطينيين.
اللاعب الرئيسي الثالث في الأردن يتمثّل في الإخوان المسلمين الذين يشكلون مركز المعارضة السياسية الليبرالية (المطالبة بتعديلات دستورية تحد من صلاحيات الملك ونظام انتخابي يسمح بتمثيل أكبر للأردنيين من أصل فلسطيني وممثلي البورجوازية الليبرالية المستقلة وحكومة برلمانية الخ). وحول المركز الإخواني، تنتظم عناصر المعارضة الليبرالية ـــ والمطالبة بـ«الحقوق المنقوصة» والمحاصصة على أساس الأصول السكانية ـــ من بين تيارات عديدة مختلفة، من القوميين حتى النشطاء المرتبطين بالتمويل الأجنبي.
تستند هذه القوة إلى نفوذ واسع في صفوف الفئات البورجوازية والبورجوازية المتوسطة والصغيرة، وكذلك بين أوساط الأردنيين من أصل فلسطيني.
القوة الرابعة التي ظهّرها الحراك الشعبي وحوّلها إلى عامل سياسي رئيسي في البلاد، تتمثل في الحركات الاجتماعية والعمالية والشعبية، وخصوصاً من عمال القطاع العام والشركات المخصخصة والمعلمين والمتقاعدين العسكريين، وتجمعات المعارضة العشائرية الجديدة في المحافظات والعناصر اليسارية الشابة التي تتخطى في خطابها وتكوينها الانشقاق السكاني، وتدمج مناضلين من المحافظات والأصول الفلسطينية معاً. ويمكن القول إنّ كلّ هذه المكوّنات تنطوي تحت مسمى عريض هو الحركة الوطنية الاجتماعية. وتتركز مطالبها حول الحريات، ولا سيما حريتي التعبير والتنظيم النقابي، والدفاع عن المصالح القطاعية والمحلية. وعلى المستوى الوطني تفكيك مؤسسة الفساد واستعادة القطاع العام وتنمية المحافظات وتوفير فرص العمل.
خلال عامي 2010 و2011، تصارعت هذه القوى الأربع، وتشابكت أحياناً في تقاطعات بين البيروقراطية وتوجهات مؤسسات الدولة من جهة، والحركة الوطنية الاجتماعية وخطابها من جهة أخرى، في مواقف مثل التصدي لتعاظم نفوذ الإخوان المسلمين، أو الحد من سيطرة النيوليبراليين، أو عرقلة مشاريع التجنيس السياسي، أو عرقلة عودة قيادة وتنظيم «حماس» إلى الأردن. لكن الفريقين تصارعا ويتصارعان، بشدة، حول قضايا ومواقف أخرى أساسية، أهمها قضية الحريات، وقضية تصفية ملفات الفساد، والموقف من اتجاهات السياسة الخارجية، وخصوصاً العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وأخيراً الموقف من العرش الذي اتجهت عناصر من الحراك الشعبي إلى مهاجمته في تصعيد غير مسبوق، ما أغضب البيروقراطية التي تريد الضغط على العرش لتعديل مساراته السياسية، وليس مهاجمته أو كسر هيبته أو إسقاطه.
طوال الربع الأول من 2011، وتحت تأثير الأحداث في تونس ومصر، تقاربت الحركة الوطنية الاجتماعية مع الإخوان المسلمين في سلسلة من النشاطات الجماهيرية التي هزت أركان النظام، وخلقت القناعة بأنّ التغيير على الأبواب. لكن، منذ 24 آذار من العام نفسه، حدث انشقاق وصراع بين الفريقين، أولاً بسبب ظهور الخلاف في الأولويات بينهما. فبينما ألحت قوى الحركة الوطنية الاجتماعية، وما تزال، على أولوية القضايا الاجتماعية، ألحّ الإخوان المسلمون المستعجلون على تسلم الحكم على أولوية الإصلاح السياسي. السبب الثاني للصراع هو تبني الإخوان برنامج التجنيس السياسي والمحاصصة، والموقف من الأحداث في سوريا.
حين كلف الملك عبد الله، العضو الأردني في محكمة العدل الدولية، عون الخصاونة، في خريف 2011، بتشكيل حكومة ذات صلاحيات، بديلاً من حكومة البيروقراطي معروف البخيت، كان القصر واقعاً تحت نوعين من الضغوط الثقيلة، أولهما حراك شعبي متصاعد الشعارات ومتسع المشاركة في المحافظات المعتبرة، تقليدياً، قواعد له، لكنّها تحولت إلى التمرد. وثانيهما تنامي قوة الإخوان المسلمين، وسط «تشجيع» أميركي لدمجهم في أطر النظام، وضغوط قَطرية لاستضافة قيادة حماس في الأردن، وأخرى، بمشاركة السعودية، للتدخّل في سوريا التي بدا وقتذاك أنّها تترنح تحت ثقل المعارضة الإسلامية.
ربما كانت حكومة عون الخصاونة ـــ الذي كان غائباً عن البلاد منذ 12 عاماً في لاهاي ـــ مناورة ملكية، وربما كانت مسعى جاداً منه لملاقاة الضغوط في منتصف الطريق. فالخصاونة، رغم ضعف صلاته المحلية، تبنى مقاربة التحالف مع «الإخوان» كحل استراتيجي لأزمة النظام الأردني، وبدا أنّه رجل المرحلة، بصفته قادراً على القيام بهذه المهمة، من دون أن يثير ذلك مخاوف الإسرائيليين الذين يعرفون الرجل جيداً ويقدرونه، منذ مشاركته البارزة في مفاوضات وادي عربة 1994. كذلك، فإنّ وظيفته كقاض دولي منحته قدراً من الاحترام لدى الرأي العام الغربي وحتى الرأي العام المحلي، وخصوصاً لدى «الإخوان» الذين استقبلوا تكليفه بالهتاف في الشارع «المصلح هيو جاي».
ترتيب العلاقة مع «الإخوان» له ممر إجباري هو ترتيب العلاقة مع «حماس». وقد أوجدت الأزمة السورية سياقاً ملائماً لعقد صفقة كبرى مع القادة الحمساويين برعاية قطر، في إطار خطة شاملة تتضمن تأهيل «حماس» لتكون محاوراً رئيسياً في الشأن الفلسطيني. هذه الخطة ليست ممكنة إلا بترتيبات شاملة مع الأردن، لا تسمح فقط بانتقال القيادة الحمساوية إلى عمان، بل أيضاً، بنقل ثقلها السياسي والتنظيمي إلى البلاد، بما يذكّر بالوجود الفتحاوي وازدواجية السلطة في الأردن في نهاية الستينيات.
وكان الخصاونة عنوان هذا المسار الذي واجه اعتراضاً شديداً، سواء من قبل بيروقراطية الدولة أو من قبل الحركة الوطنية. أدار الملك أزمة الضغوط المتعارضة بشأن عودة «حماس»، وانتهى إلى إفشالها. في هذه اللحظة بالذات، تلقت حكومة الخصاونة الضربة الموجعة الأولى، لكنّها ماتت سياسياً منذ مطلع شباط 2012 حين اتضح أنّ الحلف الروسي ـــ الصيني سوف يمنع تدخلاً عسكرياً دولياً في سوريا، التي نجح الحكم فيها في توجيه ضربات موجعة للمعارضة المسلحة. جعل ذلك الملك عبد الله الثاني يعيد حساباته، ويبدأ مواجهة مع رئيس وزرائه انتهت باستقالة الأخير على نحو درامي، منحته تقديراً لشجاعته الشخصية قدراً من الشعبية، وهو ما قد يساعده في الحصول على مقعد في البرلمان المقبل.
انتهى شهر العسل بين القصر والإخوان المسلمين، سريعاً. وفي ظل العثرات التي تواجه المشروع الإخواني إقليمياً، وتراجع الحراك الشعبي، توصل الملك إلى مقاربة من ثلاثة مستويات. في المستوى الأول، السعي إلى توحيد قوى النظام من خلال العودة إلى التحالف مع البيروقراطية، فكلّف أحد عناصر الحرس القديم المتشددين، فايز الطراونة، بتشكيل حكومة توافق بين القصر وأجهزة الدولة، تلحظ تمثيلاً عشائرياً كثيفاً. وفي المستوى الثاني، الشروع في حملة لاستعادة ولاء فاعل للقوى العشائرية التقليدية في المحافظات، وبالتالي تأمين قاعدة للتراجع عن وعود 2011، وضبط الإصلاحات السياسية في حدود تحافظ على سيطرة قوى النظام وتتلافى إحداث تغييرات تفجيرية في تركيبة النظام السياسي الديموغرافية، والتوصل إلى حل وسط لتكوين تحالف بيروقراطي ـــ كمبرادوري، من خلال برنامج يضغط على الكمبرادور للمساهمة في تمويل الدولة. وأهم تجليات هذا البرنامج: قرار الحكومة الجديدة إقرار قانون ضريبي تصاعدي. وفي المستوى الثالث، البحث عن بديل للدعم الخليجي ـــ أو الضغط عليه ـــ من خلال فتح قناة اتصال وتفاهم مع العراق. لقد كان عراق صدام حسين، الشريك الاقتصادي الأول للأردن، ليس فقط من خلال تأمين النفط المدعوم ـــ شبه المجاني ـــ للبلاد، ولكن، أيضاً من خلال عمليات النقل والوساطة والصناعة التحويلية الموجهة للسوق العراقية واستثمارات بغداد، الحكومية والخاصة، في الاقتصاد الأردني. اليوم، بعد افتراق حوالى العقد بين البلدين، وُجدتْ ظروف ملائمة لعودة العلاقات السابقة، ولو تدريجاً.
ثمة معطيات تقول بأن ضوءاً أخضر مزدوجاً صدر أخيراً من واشنطن وطهران، يمنح عمان وبغداد الحرية لتفاهم يحتاج إليه البلدان. وإذا كانت حاجة الأردن إلى الشريك العراقي ظاهرة في أزمته الاقتصادية المالية، فإنّ حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي ـــ الصدّامي النزعة ـــ يمكنها النظر إلى الأردن كمنطقة نفوذ عربية سنية تحجّم وتخنق التمرد في غرب العراق، وتفتح، في الوقت نفسه، آفاقاً لاستعادة علاقات اقتصادية ذات فوائد متبادلة متعددة.
نحن الآن، إذاً، أمام ثلاث قوى وثلاثة مشاريع سياسية في الأردن:
1- النظام الذي استعاد وحدته، ومشروع هو تلاحم الفئات والقوى البورجوازية، البيروقراطية والكمبرادورية والعشائرية التقليدية، واستعادة الهيمنة على المجال السياسي الداخلي من خلال المناورة في السياسة الخارجية.
2- الإخوان المسلمون الذين أبرزوا في انتخاباتهم الداخلية متشددين دينيين وحمساويين. ومشروعهم الآن هو التخلي عن تحالفاتهم الليبرالية، عائدين إلى التقوقع على الذات، وتكثيف خطابهم كممثلين للأردنيين من أصول فلسطينية، وكوكلاء لحركة «حماس»، الأمر الذي سيترك تأثيره على وحدة النسيج الوطني الاجتماعي في البلاد، ويشكّل تحدياً رئيسياً للنظام وللحركة الوطنية معاً.
3- الحركة الوطنية الاجتماعية. وقد تراجع، في الآونة الأخيرة، حضورها الميداني، من دون أن يتراجع خطابها المهيمن عن مواقعه التي احتلها في وعي الفئات الشعبية، وخصوصاً في المحافظات. إن التسوية المطروحة بين البيروقراطية والكمبرادور لن تجتذب إليها العناصر الشعبية والمسيّسة من العشائر التي تمدّ الحراك الشعبي بقياداته وجمهوره.
لا يوجد في الأفق مشروع تسوية داخلية مع هذا الحراك المصرّ على مطالب جوهرية بإقامة الحكم الدستوري، وتصفية مرحلة الخصخصة والفساد واستعادة أموال وأراضي وشركات ومرافق الدولة، والفصل في قضية المواطنة وإخضاع التجنيس للقانون وتأكيد هوية الدولة الأردنية في إطارها العربي، وتنمية المحافظات في خطة وطنية تستند إلى الإدارة المحلية.
في المقابل، يسعى النظام إلى حل أزمته المالية المتفاقمة من دون المساس، جوهرياً، بمصالح النخب الكمبرادورية، ويعجز، بالتالي، عن حل المشكلة الاجتماعية، في مثل عجزه عن حل المشكلة الوطنية. الأفكار المطروحة لحل الأزمة المالية تقليدية، ومنها إزالة الدعم عن عدد من المشتقات النفطية والكهرباء. وهو إجراء سيقود، رغم توخي التعويض المالي للفئات الشعبية أو تلافي زيادة أسعار مستهلكاتها من الطاقة، إلى موجة تضخمية في ظل سوق حرة بلا ضوابط تدخلية. وهذا الإجراء الذي سيوفر على الخزينة ما لا يزيد على 10 بالمئة من تمويل الدعم، ستكون له آثار ضاغطة جديدة على المستوى المعيشي للأغلبية الشعبية.
البديل الثاني عند النظام يتمثل في الحصول على مساعدات مالية سخية، مشكلتها تكمن، حتى إذا أتت، في أنها مؤقتة، بينما العجز في الموازنة مستمر ومتصاعد. لكن المشكلة الأساسية لهذا البديل المعتاد، تتمثل في عدم وجود آلية توزيع داخلي، مما يستهلك أي مساعدات، مهما كانت ضخمة، لحساب الفئات الكمبرادورية والمتنفذة. ومن العجيب حقاً أنّ قوى النظام السياسي تقفل عيونها عن الوقائع، وتحسب أنّه يمكن استعادة الاستقرار السياسي على أساس تجديد الامتثالية، ومن دون الاستجابة للحد الأدنى من المطالب الاجتماعية.
الستاتيكو السياسي القائم في أردن، اليوم، ناجم عن توازن القوى الحساس بين النظام والإخوان المسلمين والحركة الوطنية. إذا سار النظام في المشروع الإخواني فسوف ينتهي إلى الانتحار السياسي، وإذا سار مع الحركة الوطنية فسوف ينتهي إلى ضرب مصالح الفئات البورجوازية التي يعتمد عليها ويمثلها. إنّه في مأزق. ومع ذلك، فهو لا يزال يتمكن من حل مشكلاته يوماً بيوم، طالما أنّ الإخوان المسلمين عاجزون عن التفاهم مع الحركة الوطنية، وطالما أنّ الأخيرة عاجزة عن استيعاب وتجنيد الفئات الشعبية من الأصول الفلسطينية. لكن تظل الحقيقة الأساسية قائمة، وهي أنّ المرجل الأردني يغلي بالقوى والمشاريع والتداخلات المحلية والإقليمية والدولية.
هل يُنضج الغليان تفاهماً على دولة أردنية جديدة أم ينفجر المرجل؟ هذا هو السؤال.



الإخوان ومأساة التيار الإصلاحي

في حركة الإخوان المسلمين الأردنيين أربعة تيارات هي: التيار التقليدي، والتيار الأصولي المتزمت، والتيار الحمساوي، والتيار الوطني الإصلاحي. التيار الأول لا تخرج حساباته عن حيّز البيروقراطية الأردنية، وحسابات الثاني إقليمية ودولية ـــ أقرب إلى رؤية «القاعدة» ـــ وحسابات الثالث فلسطينية، وأما التيار الرابع، التيار الإصلاحي، فهو معنيّ أساساً ببرنامج إصلاحي محلي.
التيار الأول أصبح، سياسياً، من ماضي الإخوان، ولم يعد لاعباً رئيسياً ولا قادراً على تجديد نفسه. ويمثّل التيار الثاني عاملاً خطيراً بسبب سيولة العلاقة الفكرية بينه وبين المجموعات المتطرفة، بينما يقع التيار الثالث في سياق العلاقات الأردنية ـــ الفلسطينية، فإذا ما تم تنظيمها على أسس واضحة، قانونياً وسياسياً، فإنّ تأثيره الداخلي سيكون ثانوياً. وبغير ذلك فإنّه مرشح لاستعادة الدور الفتحاوي في أواخر الستينيات.
التيار الرابع يشكّل نواة حزب إصلاحي محلي ذي خلفية إسلامية. وتكمن إيجابية هذا التيار في أنّه يصدر عن رؤية سياسية لا فقهية، وولاء أردني لا دولي أو خارجي. وبسبب ذلك، فهو تيار مضطَهد داخل «الإخوان»، لكن نجمه علا في 2011 بسبب تطابق أطروحته المسماة الملكية الدستورية مع موجة التغيير الليبرالي في العالم العربي. وقد اصطدم توّسع هذا التيار في صفوف الحراك الشعبي بعقبات بسبب غموض موقفه من دسترة وقوننة فك الارتباط مع الضفة الغربية، وإصدار قانون جديد للجنسية الأردنية وحل إشكالات «الارتباط» المعلقة الأخرى.
ويميل أعضاء هذا التيار إلى تصحيح هذا الخلل في أطروحتهم، لكنهم يخفون موقفهم هذا، في ما يبدو أنه حرص على تلافي الضغوط «الإخوانية» الداخلية، وتلافي القطيعة مع القوى الغربية وخصوصاً الأميركية. وربما كانوا يُضمرون تفكيك تلك الضغوط، بينما يقدمون صورة عن أنفسهم للغرب بأنّهم مجرد ليبراليين وليسوا وطنيين أو أصحاب رؤى تنموية وموقف اجتماعي، مما يكرهه الغربيون كما هو معروف.
لكن هذا الغموض في سياسة التيار الإصلاحي ضعضع حضوره في صفوف جماهير المحافظات الحساسة جداً إزاء الهوية الوطنية والقضية الاجتماعية، كما همّشه داخل صفوف حركة «الإخوان» التي أعاد تحالف المتشددين والحمساويين السيطرة على قيادتها بالكامل. إنّ المواقف المترددة والطروحات الناقصة تخسر دائماً.
مأساة إصلاحيي «الإخوان» أنّهم لا يتمتعون بالثقة الكافية بالنفس لكي يؤسسوا حزبهم الخاص، بينما يتوهمون القدرة على توظيف الحجم الإخواني وعلاقات «الإخوان» الإقليمية والدولية، في إنجاح مشروعهم السياسي الداخلي وقيادة الحركة الوطنية الشعبية الأردنية. إلا أنّ الواقع السياسي الفعلي يُظهر أنّ هذه البراغماتية جوفاء؛ فلا التيارات الإخوانية الأخرى في وارد الانضواء في برنامج وطني ديموقراطي اجتماعي وأردني، ولا التحالف الغربي الخليجي يريد للأردن سوى مشروع الوطن البديل، ولا الحجم الأردني لإصلاحيّي «الإخوان» يمنحهم الموقع القيادي في الحركة الوطنية الأردنية.



مشكلة المعضلات الذاتيّة عند اليسار



طوال عقدي الموت الطويلين من 1990 إلى 2010، تراجع حجم اليسار في الأردن، وانحسر دور أحزابه التقليدية في ما عُرف بـ«تنسيقية المعارضة» مع القوميين وتحت قيادة الإخوان المسلمين. والأحزاب التقليدية العائدة إلى تلك الفترة، ولا تزال قائمة، ثلاثة وهي:
* الحزب الشيوعي الأردني. وكان في الخمسينيات قوة سياسية رئيسية في البلاد، وبقي طوال العقود الثلاثة اللاحقة فاعلاً بهذه الدرجة أو تلك، لكن موجوداً كقوة ناشطة، رغم انشقاقه على خلفية الصراع بين عمّان ومنظمة التحرير الفلسطينية، بين «جناح قومي» مؤيد للأخيرة، و«جناح لينيني» معارض لها. ولاحقاً في الثمانينيات، شهد «الجناح القومي» انشقاقات تنظيمية وسياسية: «التكتل» بقيادة عيسى مدانات، ولجان المناطق، والنهج الثوري. وقد توحّد الحزب، منذ أواسط العقد الثامن، وانفرطت وحدته، عدّة مرات، وانتهى أخيراً إلى منظمة صغيرة ضعيفة التأثير، غادرتها أغلبية الكادرات والأعضاء.
على الرغم من توفره على وثائق برامجية في المجال الاقتصادي الاجتماعي، فإن الخطاب العام للحزب بقي محصوراً في الخطاب الليبرالي، ما منعه من التفاعل مع القوى العمالية والاجتماعية المتمردة منذ 2009.
* حزب الوحدة الشعبية الديموقراطي الأردني. وهو حزب تأسس مطلع التسعينيات، ليرث المنظمة المحلية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ولم يستطع هذا الحزب (الأردني)، على مدار عقدين أن يكوّن خطاباً سياسياً متميزاً، من حيث مضمونه، عن خطاب الجبهة الشعبية، فقد بقيت حساسيته الرئيسية فلسطينية الطابع.
في 2011، وفي سياق زخم الحراك الشعبي، أظهرت عناصر الحزب الشابة، أكثر من سواها من عناصر اليسار التقليدي، فعالية نضالية واستعداداً لإدراك اللوحة الاجتماعية السياسية الناشئة في البلاد، والتواصل مع الخطاب اليساري الجديد.
وبالاستناد إلى هذا المستجد في نشاط مناضلي «الوحدة الشعبية»، فإنه يمكن توقّع اندراج جسم الحزب، دون قيادته، في عملية إعادة بناء اليسار الأردني، وذلك من خلال ما يتوفر له من قدرة على اجتذاب فئات شعبية، فلسطينية الأصل، إلى المجرى العام للحراك الشعبي.
* حزب الشعب الديموقراطي الأردني (حشد). وهو حزب تأسس أيضاً في مطلع التسعينيات، ليرث منظمة الجبهة الديموقراطية في الأردن. يمكن القول إنّ هذا الحزب قد تأردن أكثر من نظيره حزب الشعبية. لكنّه شهد، بالمقابل، ضموراً في عضويته وتأثيره، وذلك بالنظر إلى تضاؤل الحضور الفلسطيني للمنظمة الأم من جهة، واعتماده خطاباً ليبرالياً لا يمشي في المحافظات الأردنية، من جهة أخرى.
كذلك، هناك قوى يسارية جديدة وهي:
* حزب اليسار الديموقراطي الأردني. وتألف من عناصر سابقة من الحزب الشيوعي والجبهة الديموقراطية. لم ينخرط في «تنسيقية المعارضة»، ولعب، في العقد الأول من الألفية، دوراً سياسياً نشطاً، وخصوصاً لجهة إقامة علاقات تحالفية مع بيروقراطية الحكم والأوساط الليبرالية. حزب ليبرالي صريح، قام على أساس نبذ منطلقات اليسار التحررية والاجتماعية، حلّ نفسه كحزب قبل 2010 ــ 2011، وبقي كتيار له تمثيل برلماني. وتحت تأثير الحراك الشعبي، خطا اليسار الديموقراطي خطوة في الاتجاه الاجتماعي، وبادر أخيراً إلى الإعلان عن تأسيس الحزب الديموقراطي الاجتماعي. ولوحظ أنّه سعى إلى ضم عناصر عمالية وشعبية في هيئته التأسيسية. وهو ما يشير إلى تغيير في توجهاته من الوسط إلى يسار الوسط.
* حركة اليسار الاجتماعي الأردني. تأسست من عناصر شيوعية سابقة وعناصر شعبية في 2007، ولعبت، طوال عامين بعد ذاك، دوراً طليعياً في استعادة الخطاب الوطني الاجتماعي لليسار، وانفتحت على الأوساط العمالية والشعبية، وحققت بالتالي حضوراً غير مسبوق منذ الخمسينيات لليسار الأردني. في 2009، حدث انشقاق ليبرالي في الحركة، ألحقها سياسياً بالليبراليين، وتراجع زخمها ودورها، لكن إمكانية استعادة خطابها الراديكالي الذي ميّزها في بداياتها، لا تزال كامنة في تكوينها السياسي والتنظيمي.
* حزب التحرر الوطني الاجتماعي الأردني. حزب حديث الولادة، لكنّه يستند إلى لفيف من العناصر اليسارية والعمالية والشعبية والشبابية التي لعبت دوراً بارزاً في الحراك الشعبي منذ ربيع 2010، وأقامت صلات نضالية مع العمال والمعلمين والمتقاعدين والعسكريين واللجان الشعبية في المحافظات. ويولّف خطاب الحزب بين ثلاث نزعات: الراديكالية الوطنية، والراديكالية الاجتماعية، والليبرالية الثقافية. وينسجم هذا التوليف الفكري السياسي مع النزعات المهيمنة في صفوف الفئات الكادحة في المحافظات.
* التجمع الاشتراكي الأردني. وهو يعبّر عن اتجاه الكادرات الشيوعية، تحت تأثير الحراك الشعبي، إلى توحيد صفوفهم واستعادة الدور السياسي للشيوعيين الأردنيين. توصل التجمّع إلى خطاب يستلهم مبادئ حركة التحرر الوطني العربية، ويرنو إلى تجديدها من وجهة نظر اشتراكية معادية لليبرالية الرأسمالية والإمبريالية والرجعية العربية، وتشدد على أفكار المقاومة الوطنية ضد إسرائيل والمقاومة الاجتماعية للنيوليبرالية والكمبرادورية.
* اتحاد الشباب الديموقراطي الأردني. وهو منظمة شبابية يسارية مستقلة، برزت من بين صفوف النشطاء اليساريين الشباب من الحراك الشعبي ومن القوى اليسارية التقليدية والجديدة معاً. يمثّل الاتحاد، في الواقع، ائتلافاً لناشطين يساريين أكثر من كونه ائتلافاً لقوى يسارية. وهو ما يمنحه إمكانيات أكبر للعب دور خاص.
كذلك هناك هيئات ثقافية ذات ميول يسارية صريحة كمنتدى الفكر الاشتراكي، والمنتدى الاجتماعي الأردني، ومركز التقدم الأردني. وكذلك، طيف واسع من الشخصيات اليسارية المستقلة، وبعضها منخرط في منظمات فكرية سياسية، أبرزها مجموعة «المبادرة الوطنية».
يتجه اليسار الأردني إلى نهضة جديدة لم يسبق أن توفرت فرصها الموضوعية منذ الخمسينيات. لكنه يواجه ثلاث معضلات ذاتية تعرقل صعوده الممكن والضروري معاً. أولاً، الأثر المخرّب لـ«الفيروس الليبرالي» ـــ على حد تعبير سمير أمين ـــ في بعض القسم المخضرم من الأوساط القيادية لليسار الأردني التقليدي. ويتجلى ذلك الأثر المخرّب في عرقلة تبلور الخطاب اليساري، وبالتالي عرقلة توطيد العلاقات مع القوى العمالية والشعبية، والاتجاه نحو الحوار والتحالف مع القوى الليبرالية والإسلامية، في مقابل القطيعة ـــ العدائية أحياناً ـــ مع أوساط اليسار الجديد.
ثانياً، غياب الكادر الوسيط بين شيوخ اليسار وشبابه، وذلك بسبب مرحلة الجدب في عقد التسعينيات. فالعناصر اليسارية الأردنية، إما تعود إلى جيل الثمانينيات وما قبل، أو إلى جيل العشرية الأولى من الألفية الثالثة. وغياب الجيل الوسيط يؤدي إلى اختناقات في سيولة الحركة اليسارية ونقل الخبرات التنظيمية وتوفير القيادات الوسطى... الخ. ويمكن تعويض هذه الفجوة بمضاعفة جهود القيادات من الأجيال السابقة التي تحتاج، بدورها، إلى إعادة تأهيل يمكنها من قراءة المشهد الوطني الاجتماعي المستجد من جهة، وإلى انخراط الجيل اليساري الشاب في مدارس كادر يشكل تأسيسها ضرورة لا غنى عنها من جهة أخرى.
ثالثاً، غياب الاتجاه السياسي العملي لدى كل الأطراف اليسارية، نحو بناء قطب موحد لليسار يستلهم ظهوره الممكن كقوة سياسية رئيسية في البلاد. ولا أتحدث هنا عن صيغ وحدة تنظيمية وفكرية الخ، وإنما عن الانخراط في جبهة موحدة على أساس برنامج مشترك يلحظ الحد الأدنى من التوافقات، ويخوض الصراع السياسي من مركز يساري جبهوي.