قد يبدو ما أودّ الحديث عنه مكرراً، إذ من المؤكد أنّ العلاقة الجدلية الواقعية بين السياسة والإعلام طُرقت أبوابها كثيراً، لكن لا ضرر في لفت نظر القارئ الكريم إلى أنّه ليس عليه إلا أن يركز ناظريه في الشاشة، حتى يجد أنّ الاستمرار والصدق عنصران يتحكمان بالصورة أمامه. هما فرسا رهان، تتسابقان في الوصول إلى عقله، عبر الخبر والمشهد، وحقيقة مدعاة.كل صدق موصوف في أداء وسيلة إعلامية لا يمكن أن يجتمع مع استمرارية مؤسساتية، تمويلية وترويجية، إلا وينتقص من حظ الوسيلة في الرعاية من الجهات المموّلة، وخصوصاً إذا كانت هي نفسها الجهات المؤسِّسة.

كل حقيقة، في الواقع، هي مدعاة، حتى يثبت العكس. وفي عالمنا اليوم، من الصعب جداً أن يثبت العكس. لكل حقيقته، الممهد لها طريق عقله، بمقومات ومعطيات، نفسية وثقافية وسياسية وفئوية، وبالمحصلة انتمائية. وبين المتلقي وصانع الخبر، يتصارع عنصرا الاستمرار والصدق، حتى يُنْهَكا ويُنْهِكا. فبالله عليكم، أي استمرارية وأية صدقية سيبقى لهما. وكما أنّ الصورة الفوتوغرافية تتعرض لكثير من التشويه والتعديل الموحي والمضلل، فإنّ الفيديو لا يقل هشاشة في هذه الناحية عنها، لا بل إن وقعه أكثر تأثيراً.
أغرقتنا الكثير من الوكالات العالمية بآلاف الفيديوات، وخصوصاً بعد اندلاع الأحداث في سوريا. وعبارة: «لم يتمّ التحقق من الفيديو (أو الخبر أو الصورة) من مصدر مستقل»، أصبحت عبارة «ذهبية» تلمع بقوة في ذيل الكم الأكبر من هذه المواد الإعلامية، المجهولة المصدر غالباً، والمتبناة من هيئات ناشطة على الأرض، ومن ثم من مؤسسات إعلامية لها حضورها العالمي. قد يكون المقصود من هذه العبارة أن نحسب كمتلقّين للوكالة الشهيرة، أنّها تمارس نوعاً من الترشيد في التلقي والتعامل مع الخبر، على أمل أن ينعكس هذا رشداً ووعياً لدى المتلقي. هذا صحيح بالمطلق. ولكن أن يتكرر هذا الأمر، في ما مجموعه يزيد على 90% من هذه المواد الإعلامية، فإنّ في الظن في النيات وجهة نظر، أو بالأحرى بعد نظر.
فهناك أثر يترتب على الترويج لهذه المواد الإعلامية، مقترباً ، عمداً أو جهلاً، من قاعدة «اكذب اكذب حتى يصدقك الناس». وها نحن نجد أنّ المروّج (لن أستخدم كلمة كاذب)، يصبح أسير هذا التوجه، وإمكانية انقلابه عليه غير مرئية أو ملاحظة، مهما حاول أن يصوّب مساره. وفي تجارب إعلامية مهمة في العالم العربي، نماذج واضحة على هذا الأمر. قد تدّعي بعض القنوات أنّها تحاول الوصول إلى التوازن في عملها، حتى مع إعلان انحيازها الواضح لوجهة نظر في مقابل أخرى، إلا أن هذه اللعبة لها قواعدها التي تنتفي معها أي مساعٍ لإيجاد توازن ما في التغطية الحدثية، أو حتى التثقيفية عن الأحداث الجارية وخلفياتها (تلعب الوثائقيات المبنية على هذا النوع من الترويج دوراً تثقيفياً لا يقل خطورة عن التغطية اليومية، لا بل يتخطاها بأشواط).
وعلى ما يبدو، فإنّه لا وسيلة إعلامية يمكنها أن تستمر، بالعمل أو بالبث على المدى البعيد، إن لم يكن لصدقيتها نصيب من التشوّه والاهتزاز. ولا يعتقدنّ أحد أنني «أبرّئ» أي وسيلة إعلامية من هذه المعضلة، ولكن يبقى لكل واحدة منها، إما العزاء، مبرراً لها في سلوك منهج أقل صدقية أو تُمارس فيه الصدقية بمنطق الأولويات والمصلحة والضرورات التي تبيح المحظورات، وهذا يخص تلك الوسائل التي تتبنى قضية ما وتروج لها؛ أو العزاء فيها، لأنّ تبعيتها نسفت كل صدقية لديها، وأيضاً لأنّ هناك قضية ما استهلكت كل ما في جعبتها من مهنية وموضوعية. فالمسألة إما أن تستمر على الهواء، مهما كانت المواد التي توقد بثك، وإما أن تصدقنا الصورة والخبر. في تجربة اليوم، هيهات لهذين العنصرين أن يجتمعا في بلاتوه واحد، أو تحت سقف ستوديو أخبار، ففي «الغرف السوداء» ضاع الخبر اليقين.
ثم من ناحية أَوْلى، (أقول أولى لأنّ هنا مربط الفرس) نجد أنّ المتلقي اليوم واقع بين نارين: إنكاره لكل المواد التي تجافي هواه السياسي (أو الوطني أو القومي أو أو أو ...)، وخصوصاً منها المواد المتحركة بدرجة أولى، والفوتوغرافية الساكنة بدرجة ثانية، والخبر، أي خبر، بدرجة ثالثة. وفي المقابل، تبنّيه لكل ما تقدم، حين يوافق هواه، ويعينه على خصومه وأعدائه. وهو في كلا الحالتين، لا يتوخى التحقق، أو التأكد، لا من مصدر مستقل، ولا عبر محاكمة موضوعية عقلية لكل ما يمر أمامه. لأجل هذا، عزيزي القارئ: ركّز ناظريك، وأيضاً، ارحمهما.
* صحافي لبناني