لم تطرح قبل واثناء انتخابات مجلس الشعب في سوريا الاسئلة التي ترافق كل انتخابات: من سيفوز؟ ما هي الترجيحات؟ ما هي نتائج الاستطلاعات؟ من هي القوى التي ستأتي وتلك التي ستذهب؟ فهذه الانتخابات ينتظمها مسار قرره النظام السوري، ضمن سلسلة إجراءات صنّفها جميعها بوصفها «عملية إصلاحية يقودها الرئيس بشار الاسد». يجب القول بداية إنّ المشهد الانتخابي السوري يختلف بعض الشيء عنه في المرات السابقة. لكنه اختلاف جزئي محدود وشكلي في معظم مظاهره.
ولذلك فهو يقع في سياق استمرار الازمة التي تعانيها سوريا منذ اكثر من سنة، لا في سياق محاولات إيجاد التسويات والحلول لها: فلم يسبق هذه الانتخابات حوار مع قوى المعارضة، على الاقل تلك التي تُسمى المعارضة الداخلية وطالما جرت الإشادة بها من قبل ممثلي النظام، بوصفها «معارضة وطنية شريفة». هذا علماً انّ الرئيس بشار الاسد كان قد وعد مراراً بإجراء مثل هذا الحوار الذي كان يفترض لحصوله، ولا يزال، الاستعداد من قبل السلطة السورية للتخلي، ولو جزئياً، عن سياساتها وتوجهاتها، وخصوصاً تلك التي تنطلق من الشق الامني وتعود اليه في كل ما يتصل بالتعامل مع الازمة السورية. إنّ من شارك في الانتخابات، من غير البعث، لا يضيف شيئاً إلى مشهدها السابق المألوف في الجوهر، وحتى في الشكل، لجهة كونها انتخابات يديرها حزب البعث الذي فقد صفته كقائد «للدولة والمجتمع»، إذ إنّ الحاكمين باسمه يحتفظون بسلطة كاملة في ادارة البلاد، مع توزيع بسيط في «الكوتا» لتشمل طامحين من اصدقاء النظام واجهزته، ممن يحلو لهم ان يطلقوا على انفسهم صفة معارضين، ولو لم تتوفر لهم ادنى شروط ذلك. ألم يسارع السيد قدري جميل الى اطلاق إعلان مبكر في اواسط الشهر الماضي بأنّه تلقى «ضمانات» مع حليفه في «جبهة التحرير والتغيير» السيّد علي حيدر ، بأنّ الانتخابات ستكون «نزيهة وشفافة»! هذا مع العلم انّ المنافس، ولو من قبيل التكتيك، لا يروج مسبقاً لنزاهة وشفافية انتخابات يديرها منافسون له، يحصرون بسلطتهم وبأجهزتهم مسارها التنفيذي والتشريعي والرقابي جميعاً!
طبعاً، بسبب غياب الحوار وعدم توفير مستلزمات إجرائه من قبل السلطة وبعض المعارضة، لم تشارك المعارضة، بكل تشكيلاتها، في الانتخابات. فالانتخابات كان ينبغي ان تكون جزءاً من عملية سياسية متكاملة وتتويجاً لها، لمعالجة الازمة السورية المتمادية والباهظة التكاليف: في الدم، وفي العمران، وفي الاستقرار، وفي الدور السوري الذي بات معطلاً حيال العدوان الصهيوني والاميركي على سوريا وعلى فلسطين وعلى مصالح العرب اجمعين. انّ ما حصل في الواقع هو اخراج للانتخابات من وظيفتها في تأمين التنافس الحر والنزيه والمتكافئ على الدور والاحجام والخيارات والبرامج، وتحويلها الى اداة في الصراع، يواصل من خلالها طرف فيه الذي هو النظام المضي في الممارسات والتوجهات الفئوية والامنية، موفراً من خلال ذلك، لخصومه واعدائه فرصة التدخل السياسي والامني بما يستنزف سوريا وطاقاتها ودورها لمصلحة المشاريع الاميركية والصهيونية والرجعية....
السؤال ببساطة: لماذا لا يُقْدِم النظام اذا كان واثقاً، كما يردد، من شعبيته ورسوخ نفوذه، على إجراء انتخابات تتمتع بالحد الضروري من المعايير المعتمدة في مثل هذه المناسبات؟ مثل هذا القرار سيكون حلقة في مسار كما اشرنا آنفاً. وهذا المسار قد يكون «خطة انان» التي وافقت عليها السلطة السورية، والتي لن تقود الى اي امر ايجابي ما لم تقترن بقرار رسمي سوري بالاعتراف بالازمة في اسبابها الداخلية اولاً، ومن ثم بالسعي إلى معالجتها بمنطق الحوار والتفاهم والتسويات، لا بمنطق القوة وكسب الوقت، ثانياً. لقد ولّى زمن التفرد، ولم يعد ممكناً ادارة الحكم في سوريا بمنطق الفرض والاحتكار والاكراه، وبعقلية «العطاءات» التي تُمنح، من ضمن علاقة فوقية، من الحاكم الى المحكوم.
الازمة في سوريا تتعمق وتتعقد يوماً بعد يوم. والمصلحة الوطنية السورية، كما المصلحة القومية العربية، تقضي بأن تذهب السلطات السورية اكثر بكثير مما فعلت حتى الآن، في بذل الجهود الصادقة، من اجل المعالجة ووقف الموت والدمار والاستنزاف. وعلى اصدقاء النظام ايضاً ممن هم حريصون على استمرار دوره في الاعتراض على السياسات الاميركية والاسرائيلية، ان يكونوا اكثر تطلباً في علاقتهم به: أن يتخلوا عن الصمت الى الكلام، وعن الممالأة الى المصارحة، وعن المضي في دور التابع الى ممارسة دور الشريك الذي تنطبق عليه الحكمة القائلة «صديقك من صَدَقَكَ لا من صَدّقَك». إنّ تعافي سوريا هو امر ذو اولوية مطلقة في هذه المرحلة، وهذا الامر لن يتم بغير استخلاص العبر الضرورية بشأن الازمة: اسباباً وتمادياً واستعصاء... اسبابها السياسية واسبابها الاجتماعية، وهي بمعظمها اسباب داخلية والمسؤولية فيها تقع على عاتق النظام قبل القوى الخارجية التي تعمل على اضعافه واسقاطه مستهدفة، دون ادنى شك، بعض سياساته الخارجية، لا سلبياته الداخلية التي هي موضع شكوى من قبل سواد الشعب السوري. إنّه سؤال الأزمة اذن، لا سؤال الانتخابات، هو ما يطرح على السلطة في سوريا. والجواب ليس في تعديلات تجميلية وشكلية على «الكوتا» وعلى الالتزام بـ50% للعمال والفلاحين، وما سوى ذلك...
إنّه سؤال اخراج سوريا من دوامة الموت والدمار والمآسي، وليس إدامة الوضع الراهن والاساليب الراهنة ومعهما بالتالي، تصاعد الثمن الباهظ، الدموي والسياسي على سوريا وعلى العرب جميعاً؟!
* كاتب وسياسي لبناني