خسارة نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية بفارق بسيط في الأصوات، لا تقلّل من أهمية فوز خصمه الاشتراكي فرنسوا هولاند. ويبدو أنّه لم يكن أمام ساركوزي، سوى التعويل على حصول معجزة انتخابية للفوز بولاية ثانية ضد منافسه الاشتراكي الذي حلّ في المرتبة الأولى في انتخابات الدورة الأولى، الحافلة بعشرة مرشحين، قبل أن يفوز في الدورة الثانية بنسبة تقارب 52 في المئة. فغداة إعلان النتائج التي حصلت فيها مرشحة أقصى اليمين مارين لوبن على نسبة ملحوظة تناهز 18 في المئة، فيما نال مرشح يمين الوسط فرنسوا بايرو أكثر بقليل من 9 في المئة، سارع ساركوزي إلى جعل التعويل هذا خطة انتخابية كاملة.
هكذا راحت تتوالد تصريحات ومواقف تنم، بديماغوجية محسوبة ومدروسة، عن نقلة في خطاب اليمين التقليدي نحو الموضوعات والشواغل والوساوس العزيزة على اليمين المتطرّف. أعاد ساركوزي موضوع الهجرة والمهاجرين الأجانب والإسلام والأمن والحدود والهوية الوطنية إلى قلب المناظرة الانتخابية. فتحدّث الرئيس، العلماني الشرس عندما يستنسب ذلك، عن خطأ تجاهل الجذور المسيحية لفرنسا، وكرر كلامه هذا في خطاب ألقاه أمام مناصريه المحتشدين في ساحة التروكاديرو في الأول من أيار/ مايو، مغازلاً بوضوح البيئة الكاثوليكية المحافظة لليمين الفرنسي التقليدي والمتطرف على حد سواء. ولم يتردد في التهويل بدعوات مفترضة أطلقها أئمة مساجد إسلامية للتصويت لفرنسوا هولاند. ونسب إلى المثقف الإسلامي المتنور طارق رمضان «تهمة» الدعوة إلى التصويت لخصمه الاشتراكي كما لو أنّ في الأمر نقيصة أو شبهة تواطؤ. ولم يجد حرجاً، خلال مناظرته التلفزيونية مع خصمه وأمام 18 مليون مشاهد، في التلويح بالصفة الإسلامية لكتل المهاجرين القادمين من أفريقيا الشمالية ومن بعض بلدان أفريقيا السوداء، مثل مالي. وتذاكى في توصيفه هذا حيث تعمد الخلط بين الإسلام السوسيولوجي المتنوع جغرافياً وثقافياً واجتماعياً، والإسلام هويةً جوهرية ثابتة ملتصقة بأجساد وعقول الكائنات البشرية المنسوبة إليها، وما يحمله هذا الانتساب من مخاطر على نمط حياة فرنسية مرشحة للخلود. وهاجم ساركوزي الهيئات والأجسام الوسيطة كالنقابات، داعياً النقابيين إلى إلقاء «العلم الأحمر» وعدم التدخل في السياسة، ولجأ إلى التخويف من الاشتراكية والصراع الطبقي، علماً بأنّ برنامج خصمه الاشتراكي يشاركه عموماً في الحفاظ على منطق وآلية اقتصاد السوق الليبرالي، بالأحرى النيوليبرالي، قاصراً احتجاجه على ضرورة ترشيق الأداء واللعبة والتوزيع. بل حتى إن ساركوزي ذهب إلى الحديث عن «شعب اليسار» مقابل شعب فرنسا، قاصداً بعبارته الملتبسة والمدروسة هذه أنّ الولاء للفكرة اليسارية يفوق لدى البعض، وهم نصف الفرنسيين تقريباً، الولاء للأمة الواحدة والمتماثلة مع نفسها. وعلى النحو ذاته تحدث عن «انسجام» حزب الجبهة الوطنية ومرشحته مارين لوبن مع الجمهورية الفرنسية، متقصداً الخلط بين ما هو إجرائي منسجم مع اللعبة الديموقراطية وبين القيم والمبادئ التي يفترض أنّه يحبذها. ويشفع هذا الغزل المفضوح بالتشديد على عدم التحالف أو الاتفاق مع اليمين المتطرف.
إنّ تعويل ساركوزي على حصد كافة أصوات اليمين المتطرف والوسط المعتدل قام على فرضية شديدة التبسيط والاختزال، إذ إنّها مبنيّة على حصول تطابق كامل بين الخريطة السوسيولوجية المعقدة لناخبي اليمين، والولاء الإيديولوجي للفكرة اليمينية التي يرفع ساركوزي لواءها ورطانتها الشعبوية. وهذا التطابق المتخيّل والمنشود لا يتوافق مع قواعد اللعبة الانتخابية وأعرافها، يميناً ويساراً، في فرنسا. في هذا المعنى خاطب ساركوزي ما يحسبه مزاجاً وعقيدة، بل حتى غريزةً لليمين الانتخابي. وبات مؤكداً أنّه اعتمد في ذلك على إرشادات مستشاره الخاص المدعو باتريك بويسون والقادم من صفوف أقصى اليمين. واقتضت استراتيجيته الانتخابية الاعتماد على مسلكين دعويين ليس من السهل المزاوجة بينهما: مغازلة اليمين المتطرف لالتهام وجبته الانتخابية الدسمة، وابتزاز يمين الوسط بما في ذلك بعض المعترضين في حزبه وفي صفوف اليمين التقليدي على مغالاته، وذهابه بعيداً نحو التطرف يميناً. وزيّنت له نفسه وشهوته السلطوية إمكانية تحقيق التطابق بين مستويات اعتاد الفرنسيون عموماً التمييز بينها، والتطابق بين النخبة النهمة التي يمثلها وبين الشعب الذي يمثله أيضاً، وكذلك التطابق بين الشعب والأمة بطريقة تستعيد أدبيات النزعة الشعبوية القومية في الثلاثينيات. وأخيراً التطابق بين رئاسته ذات الطابع البونابرتي وجوهر الأمة الفرنسية ومحاسنها حتى في الحقبة الاستعمارية.
وجاءت دعوة مارين لوبن إلى التصويت بورقة بيضاء، وإعلان فرنسوا بايرو الوسطي عن اقتراعه بصفة شخصية للاشتراكي هولاند، بمثابة دحض مزدوج ومن زاويتين مختلفتين لحسابات ساركوزي وتهويماته. بل حتى إنّ بايرو لم يتردد في وصف حملة ساركوزي الانتخابية بين الدورتين بأنّها «عنيفة» وبعيدة عن قيم اليمين الجمهوري والعلماني ومبادئه وتقاليده. كان ساركوزي يعرف أنّ ما سيربحه من جهة سيخسره، أو سيخسر بعضه من جهة أخرى. وكان يعلم أيضاً أنّ نسبة لا بأس بها من الفرنسيين ستقترع لخصمه نكاية به وطبقاً لما بات إلى حدّ ما تقليداً انتخابياً في فرنسا: نعاقب ونستبعد بقدر ما نؤيد ونصطفي. ولم يمنعه هذا من صبّ اهتمامه على الوجبة الانتخابية الكبيرة لمارين لوبن. والحال أنّ مغازلة هذا الأخير من ذي قبل لتبسيطات ووساوس اليمين القومي المتطرف أسهمت في «تطبيع» حزب لوبن ومنحه شرعية أخلاقية وإيديولوجية، عملت لوبن حثيثاً على انتزاعها كي تتحول إلى قوة الاعتراض الأولى على ما تحسبه منظومة أو نسقاً كاملاً تتزعمه نخب فاسدة ومتعجرفة من اليمين واليسار على حد سواء. لقد ذهب ساركوزي بعيداً في لعبة المغازلة تلك، مستنداً إلى صمت العديد من المستائين والمتحفظين على هذا «اللعب بالنار» ليس في أوساط اليمين التقليدي عموماً، بل في صفوف حزبه بالذات. وقد بدا واضحاً أنّ المغازلة التي لجأ إليها بطريقة متقطعة وظرفية واستعراضية، باتت في حملته الانتخابية نهجاً كاملاً يلقي ظلالاً من الشك على حقيقة قناعاته ومناوراته. وبذلك تكون مرشحة أقصى اليمين قد نجحت على الأقل في فرض أجندتها الدعوية والشعبوية والقومجية على المناظرة السياسية العامة. وهي عوّلت على هزيمة ساركوزي المتوقعة وما سيعقبها من تطاير رياش كثيرة وتصدعات مطنطنة ونزاعات على التركة وإعادة تشكيل لقوى اليمين الجمهوري كي تكون قطباً في الانتخابات التشريعية الشهر القادم. لا يعود مستغرباً، بطبيعة الحال، أن تغيب السياسة الخارجية لفرنسا عن رهانات اللعبة الانتخابية ما دامت الأزمة التي تعصف بأوروبا تحض على الانكفاء على البيت الفرنسي الحميم والمهدد من «خوارج» الداخل، أي المهاجرين الأجانب، ومن الخارج الأوروبي ومفاعيل العولمة. وبالفعل، لم يتطرق المرشحان المتنافسان، ساركوزي وهولاند في مناظرتهما الممتدة على نحو ثلاث ساعات، إلا سريعاً إلى موضوع توقيت سحب القوات الفرنسية من أفغانستان.
* كاتب لبناني