شاء لي الله وقَدَري أن أكون من بين قلّة معدودة التقت الرئيس الراحل فؤاد شهاب صباح يوم وفاته، وقبل أن يُسلم الروح بساعات قليلة. وأذكر: في صبيحة الخامس والعشرين من نيسان 73 أنه قال لي في نهاية الاجتماع إنه سيستقبل من بعدي الشهابي المستنير والصديق الوفي الأستاذ فؤاد بطرس. وأتذكّر من ذلك الصباح أنه بدا لي كئيباً مبتئساً ومتشائماً، بخاصة وأن الأزمة السياسية الكبرى شرعت تُفلت من عقالها بعد الغارة الإسرائيلية الليلاء على بيروت واغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة الكبار في لبنان: كمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان، ومن ثم سقوط حكومة الرئيس الراحل صائب سلام إثر ذلك كله.
قال لي رحمه الله، في ما قال: «إن لبنان مقبل على عواصف وأعاصير سعيتُ جاهداً أن أصونه منها في أيامي.
وقد اجتهدتُ أن أوحّد إرادة اللبنانيين حول دولة العدالة والمؤسسات والقرار الوطني الواحد، فحاولتُ أن أقيم وأحترم حكم الدستور والميثاق، وسعيتُ إلى أن أضيء بالإنماء والإنصاف كامل لبنان، ولا سيما المناطق المعتمة المحرومة في أطراف البلاد في الشمال والجنوب والبقاع، لأن العدل يقضي بذلك ولأن بقاء هذه المناطق تحت العتمة والحرمان، وبقاء المدن الكبرى تحت الأنوار والإعمار سيحمل أهلها، أهل هذه الأجزاء الواسعة من لبنان، في اتجاه المدن والعاصمة بالذات، ولو أدى ذلك إلى إطفاء إشعاعها ونورها وتهديد إنمائها وأمنها». كل ذلك وداعاً أكثر منه لقاء. وكان كلامه رؤية ونبوءة أكثر منه رأياً وشكوى. وكان ما كان مما آل بنا إلى ما نحن عليه وفيه الآن.
لقد تسلّم الرئيس فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية ولبنان منقسم مضطرب متصارع حول الخيارات الحادة والملتهبة في الداخل والخارج من التجديد إلى الوحدة إلى جمال عبد الناصر إلى «مشروع إيزنهاور» لملء الفراغ في الشرق الأوسط. وسلّم الرئيس شهاب لبنان موحّداً آمناً مستقراً إلى الرئيس الراحل شارل حلو.
وفي ضوء النتائج والأعمال تُقرأ النوايا والأقوال. كان جمال عبد الناصر في عزّ نفوذه وحضوره في أعقاب سقوط عرشَي العراق واليمن ومن بعدهما عرش ليبيا واضطراب عرش الأردن، وبين ذلك كله قيام دولة الوحدة السورية _ المصرية ثم انهيارها.
في ذلك الميزان للقوى اقتنع عبد الناصر مع فؤاد شهاب ومنه بمنطق الثقة والتوازن وأرسى مؤتمر القمة بينهما في الخيمة على الحدود المشتركة لأول وآخر مرة، اعتماد سياسة التعاون الأخوي بغير حدود، واحترام الدولة والكرامة والحدود.
في ذلك الزمن، وبعده، وبالقدر نفسه، رفض فؤاد شهاب سياسة الولاء الأعمى لقيادة عبد الناصر وسوريا وفلسطين، وسياسة العداء الأعمى لعبد الناصر والسوريين والفلسطينيين.
وحاول باستمرار أن لا يدعو نفسه إلى الصراعات والنزاعات والحرائق بينهم بعد فك الوحدة، أو أن يدعو إلى جلب هذه الصراعات والنزاعات والحرائق إلى عندنا.
ما كنت حزبياً في كل حياتي: لا دستورياً ولا شهابياً ولا سوى ذلك من قبل ومن بعد، رغم جميع صداقاتي ومعارفي على اختلافهم وتناقضهم. واختلفتُ في الإعلام والسياسة احياناً مع ما اعتبرته ابتعاداً عن بعض الشهابيين عن قضية فؤاد شهاب وقدوته. وليس هنا منبر التعداد لبعض وجوه الاختلاف مع بعض وجوه النهج الشهابي. لكني أُقرّ من هذا الموقع أنه الشهابية كانت أرقى وأفضل وأحدث تجربة للحكم عرفها لبنان في تاريخه، وأن فؤاد شهاب، ومن بعده الياس سركيس، من أنبل وأكرم وأحسن، إنْ لم يكن أنبل وأكرم وأحسن بالحصر، مَن مثَّل وجسَّد وعبَّر عن هذه التجربة الرائدة الراقية.
لقد ألّف فؤاد شهاب في أسلوبه وسلوكه بين الدستور والميثاق، وألّب من حوله أهم قادة لبنان السياسي تقريباً في الحكومات والمجالس النيابية المتتابعة، من رجال كبار مثل كمال جنبلاط ورشيد كرامي وصائب سلام وعبد الله اليافي وتقي الدين وسامي ورشيد الصلح، وشارل حلو وريمون إده وجان عزيز وسليمان فرنجية ورينه معوض وفؤاد بطرس وصبري حمادة وبيار وموريس الجميل وسواهم من كرام الراحلين والباقين.
جاهد فؤاد شهاب مع هؤلاء السادة في سبيل لبنان، وجاهد الجهاد الأكبر مع نفسه حتى لا يحوّل لبنان وحتى لا يجعل السلطة في أيامه منطلقاً للفتن، وللأخطاء والخطايا أو مأوى لها.
ما بالغ في الخصومة حتى من أجل ما يعتقد أنه حق لكي لا يأْثَمْ، ولا قصّر في المواجهة مع ما يعتقد أنه ظُلم حتى لا يستسلم أو يُظلَم.
ولأن نفسه كَرُمت عليه مَلَكها عن أن تهون أمام شهواته، ولأنه كان مؤمناً صادقاً امتنع عن المظاهر والجدل والدجل، عملاً بقول السيد المسيح للمرائي: «يا بنيّ أعطني قلبك».
فضّل المؤمنين في جميع الأديان على المتعصبين الطائفيين المذهبيين في جميع الطوائف والمذاهب. كان التُقى عنده رئيس الأخلاق، والخوف من الله رأس الحكمة. هو عاقل وعادل ومنصف. وكما قال أمير الشعر العربي في جميع العصور: ولم تَزَلْ قِلّةُ الإنصافِ قاطعةً بين الرجالِ ولو كانوا ذوي رَحِمِ. فإذا كانت قلّة الإنصاف تقطع بين الرجال من ذوي الرحم الواحدة فكيف بقلّة الإنصاف بين الأهل في الوطن الواحد والأمة الواسعة. لذلك سعى إلى أن يولي في همه أصحاب الحاجات على أصحاب القدرات، ووفّق غالباً بينهم على قاعدة أولوية المحتاج والمحروم على المقتدر. ومن هنا فَهِم الجباية من غير إنتاج وإعمار على أنهار إخرابٌ للنظام وللبلاد أكثر ممّا هي إنهاض لهما. وأخذ الناس في ذلك كله بالحزم، ولكن بالرفق أيضاً، لأنه وكما يقول الحديث النبوي الشريف: «إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف بل ما لا يعطي على سواه». فكان قليل الكلام كثير الالتزام، لأنه عندما يتكامل العقل والالتزام ينقص الكلام ويزيد الاحترام.
وكما يقول أمير البلاغة والجهاد الإمام علي: «مَن كَثُرَ كلامه كَثُرَ خطؤه، ومَن كثر خطؤه قلّ حياؤه ومَن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومَن قلّ ورعه مات قلبه، ومَن مات قلبه دخل النار».
ما سعى وراء الضوضاء ولا الأضواء، لأنه اعتبر أن الضوء يخرج منه هو بدلاً من أن يخرج هو إليه. ألبسهُ الله مهابةَ الطَلْعَةِ والطلّة وأكسبه بلاغةَ العمل والصمت في آن. حاكم وحكيم وحكم في رئيس.
اختار الرصانة والسكينة على الاستهانة والمهانة وسلّم بالقلّة على الذلّة، ورضي بالابتعاد عن الذنوب والمعاصي على الطلب المتكرر للتوبة والغفران.
ولأن الحفاظ على وحدة لبنان بالعدل والصبر والحزم والرفق أفضل وأجمل وأنبل من تقسيمها بالحروب والفتن، آثر الكلفة الأقلّ والمردود الأكثر، وابتعد عن التأزيم والتقسيم والتفرقة.
ومارس في ذلك كلّه الحلم والأناةَ والصبر في عهده، وبعضها طبع وبعضها نعمة، وكلّها فضائل وأفضال من نتاج علّو الهمّة وعمق الإيمان. بذلك انتصر بسيرته وعدالته على مناوئيه، وردّ بحِلمه وصبره على المتجنين عليه فضاعفَ المعترضين عليهم وأضعف المعارضين له. لقد رأى فؤاد شهاب في المسيحيين في هذا الشرق العربي جزءاً من ملحه وروحه وصلاحه وغناه.
وأراد المسيحيين، واللبنانيين كلهم لا جزءاً منهم فقط، أشقاء كرماء شركاء أُصلاء في السرّاء والضرّاء، لا أعداء ولا أذلّاء ولا غرباء.
ما عاش ولا اغتنى ولا اعتزّ ولا اعتلى من وراء الفتنة والفرقة بين المسيحيين والمسحيين، ولا بين المسيحيين والمسلمين، ولا بين المسلمين والمسلمين، ولا بين العرب والعرب.
هو أيضاً صاحب كلمة وصاحب... وأهون أن تتزحزح الجبال من مكانها من أن يتزحزح هو عن كلمة أعطاها أو صداقة اصطفاها.
وهو كذلك يوم التهبت العقول والقلوب واضطربت الأفكار وزاغت الأبصار وتاهت البصائر ظلّ بارد العقل هادئ الفكر، ثاقب البصر نافذ البصيرة مالك الحكمة ثابت الجنان عميق الإيمان. ما قَبِلَ أن يتهافت أو يستسلم أمام الإغراق والاستغراق والإغراء في السلطة والمال.
ويوم حمل إليه النواب في أكثريتهم الساحقة عريضة المطالبة بالتجديد وتعديل الدستور حمى الدستور والكتاب من نفسه أولاً حتى يسهل ويصحّ عنده حمايته أمام الآخرين ومنهم. وكان في ذلك كله مثالاً في عفّة النفس ومن ينبوعها تنساب عفّة الكفّ والطرف واللسان. عاش ومات فاضلاً مكتفياً عزيزاً متواضعاً في رفعةِ قدره، في الطفولة والفتوّة والشباب والكهولة والكبر. أميرٌ في النفس والقلب قبل الإمرة، والامارة في المحتد واللقب والحسب والنسب.
نَبَتّ في عائلتهِ ونشأتَ في منطقته، وعرفتَ القيادة وتعرّفتَ في الرئاسة إلى الكثير من هذه المدرسة الشهابية، وكان فؤاد شهاب لك، كما اعتززتَ وأعلنتَ مراراً وجهاراً وبصدق وودّ: المَثَلُ والمثال. وأعطى الراحل الكبير لنا جميعاً هذه القدوة، وللكثير من القادة والحكام، وحتى في ما بعد لأحد عملاقَي استقلال لبنان الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح.
وقد كان في قبول الرئيس بشارة الخوري بتعديل الدستور للتجديد، ما اعترى مسيرته ولوحته ببعض الضعف والشوائب والشحوب وهو العملاق المناضل الصلب المثقف المضيء المتجذّر اللمّاح الألمعي العريق والعميق.
يقول رئيس حكومة فرنسا جورج كليمنصو في مذكراته عن أوائل القرن الماضي: «L,Europe est decidement a l,envers: en Angleterre il ya de la volonte en France il ya de l,intelligence» أو بما معناه: «إن أوروبا هي بالتأكيد في وضع مقلوب: في بريطانيا هناك إرادة، في فرنسا هناك ذكاء». وانتظرت فرنسا حتى جاءها شارل ديغول وكوّن لها الإرادة من قلب المكوّنات والانقسامات. وما سعى إليه فؤاد شهاب عبر نضاله الطويل الشاق النبيل هو أن يرفع في لبنان ويصنع للبنان منسوباً أعلى من الإرادة الوطنية الواحدة لا منسوباً أعلى من الذكاء الفائض فيه والذي هو نتاج الطبيعة والطباع والتمازج والتراكمات المتمادية المترامية عبر العصور.
بهذه الإرادة الوطنية الواحدة تُحمى الأوطان وتُصان الكرامات ويُحال دون حروب التفرقة والتقسيم في الداخل ومخططات الشرذمة والتقاسم من الخارج.
هذه الإرادة الوطنية يحقّقها التواضع والتراحم والتساهل والإنصاف مع الأهل في داخل الوطن، لا التغطرس والتشدد مع الأهل ثم التنازل والتهاون مع الخارج سواء كان عدواً أو صديقاً أو شقيقاً. مَن لهذه الإرادة والقضية والقدوة الآن؟ هذا هو السؤال الكبير في لبنان الآن، بل هذا هو التحدي الأكبر للبنان، بل لكل المحيط العربي.
وفي هذه الشخصية وهذه المسيرة، كثيرٌ من العدل والإنصاف، ومن الرفعةِ والوداعةِ والغنى في النفس والاستغناء عن خارجها. وفيها المثال والمثال.
رحمَ الله فؤاد شهاب الوفيّ التقيّ الأبيّ، الغائب الكبير والحاضر الأكبر بالوفاء والعِبَر، وبالمثل والمثال. والسلام.