رُفعت خلال السنة الماضية في سوريا كلّ الشعارات والمفاهيم، موالاة ومعارضة، دولة ووطن، نظام وأحزاب، حرية وخيانة، نجمتان وثلاث نجوم... إلخ. ارتفعت جميعها دون امتلاك الوعي والمعرفة الصحيحة والواضحة لجوهر وهدف كلّ منها.وقف المواطن خلف الكلمة والشعار، وتمسّك بهما عن وعي أو دون وعي ودافع عنهما، فالمسألة ليست حرية اختيار المفهوم، إنما معرفة حقيقته، فنتيجة عدم وضوح المفاهيم تمثّل مشكلة رئيسية ليس في المرحلة الراهنة فحسب، بل في المرحلة القادمة من الحياة السياسية في البلاد أيضاً.

تأخذ كلمة الصراع معنيين: معنى إيجابياً يتضمن تفاعلاً للأفكار والقيم ضمن حدود مصلحة البلاد، ومعنى سلبياً يتمثل في الخروج عن الحدود والذهاب إلى العنف الكلامي والجسدي والنفسي، إن كان هذا العنف ظاهراً في هذه الفترة او مستتراً في جزء منه ليظهر في المرحلة المقبلة بأشكال مختلفة. صراع المفاهيم يتخذ ثلاثة مستويات مترابطة مع بعضها البعض، وهذه المستويات تتشابك في جزء منها مع مصالح الدول، أو كما تجري تسميتها بلعبة الأمم.
المستوى الأول هو مستوى القيم، فكلمة حرية، التي يمكننا أن نتخذها مثالاً نستطيع أن نقيس عليها باقي القيم الأخلاقية، تعرضت نتيجة عدم وضوحها لعملية تشويه. فالحرية هي قيمة ترتبط بجوهر الإنسان لكونها ترتبط بكرامته، فهي لا تُمتلك من جهة محددة دون الأخرى. كل فرد وكل جماعة في أي طرف لهما الحق في الحرية ليس كهبة بل كحق لهما. وربط الحرية بجهة معينة، مثلما يجري سماعه في الشارع السوري أنّ هذه «حرية قطر وحمد... وحرية أميركا» خطأ كبير، لأنّها ليست منتجة لها والدول لا تتعامل مع الحرية، بل تتعامل مع المصالح. وأحد أوجه التشويه الحاصل لها هو في تفضيل الأمان على الحرية، خطأ هذه المقارنة أنّه لا تجري المقارنة بينهما، بل المقارنة بين الحرية والعبودية، أو بين الأمان والفوضى، إذ إنّ الحرية لا تعني الفوضى، فلكي تحقق الحرية جوهرها، يجب أن يكون الإنسان والمجتمع على قدر من «المسؤولية» في عيشها، أي أن يضع حدوداً لها. فالحرية تشبه النار، إن لم نضع حولها حجارة فسوف تحرق ما حولها. انعدام هذا الوضوح جعل الناس يصنفون أنفسهم إما مؤيداً لها أو معارضاً لها، بينما الحرية ليس فيها رافض ومؤيد، فهل هناك إنسان يتعارض مع ذاته وتطورها وتقدمها؟
وقد يكون سلوك الحكومات السابقة قد ضيّق الحرية السياسية، لكن لا يمكن أن نلقي اللوم عليها فقط، فليس هناك أيّ نظام في العالم يستطيع أن يقيّد حرية التفكير، إلا إذا أراد الانسان أن يتوقف عن التفكير. المسألة لم تعد مقتصرة على اختيار نظام ومعارضة له، فهذا حق لأي إنسان طالما أنّه يمارس حرية الاختيار ضمن الحدود التي تضمن مصلحة المجتمع، إنما حين يخرج أي من الطرفين عن هذه الحدود، لا يبقى هناك حرية، بل يصبح الأمر فوضى وتدميراً للوطن.
هذا المستوى يستتبع منا في تطوره أن ننتقل إلى المستوى الثاني، وهو في تصنيف الناس بين وطني وخائن، إذ إنّ كل شخص مختلف عني في رأيه هو خائن، وكل متفق معي في الرأي هو الوطني! لا يمكن تصنيف الخائن ضمن هذا السياق، لأنّه تحت كلمة وطني هناك موالٍ ومعارض، وتحت كلمة خائن ليس هناك موالٍ ومعارض، بل خائن فقط، كذلك. وهذا التصنيف مرتبط بسلوك المواطن، فتقبل الآخر والحوار معه والاختلاف معه هي حق طبيعي، وهذا السلوك هو ضمن السياق الوطني. أما الرافض للآخر إلى درجة القتل والنفي والسجن والثأر والالغاء، فهذا خائن حتى لو لم يرتبط مع أي جهة خارجية. عدم وضوح هذا المفهوم هو نتيجة طبيعية للمرحلة السابقة، التي كان يعيشها المجتمع السوري، لكون كل مختلف ليس خائناً بل غير موجود. وفي هذه المرحلة أصبح التشويه مستمراً من مختلف الأطراف مع مساهمة الإعلام في هذه العملية، فالجزيرة والعربية صنفتا الموالين بأنّهم شبّيحة والإعلام السوري شبّه المعارضين بأنّهم مندسون. وكانت النتيجة هي «التعميم» على أيّ شخص انتمى إلى هذا الطرف أو ذاك، دون سماع رأيه. فقط يكفي أن يقول ما هو توجهه العام حتى تلصق به الصفة وعقوباتها.
الموالاة والمعارضة تكونان لنظام سياسي، وهو المستوى الثالث في صراع المفاهيم، مشكلته هي عدم التفرقة بين الوطن والدولة، وبين الدولة والنظام السياسي. الوطن هو الأرض والشعب بما يمثله الاثنان من تفاعل بينهما، بينما الدول هي مؤسسات لضمان العدالة والتطوّر في المجتمع. أما النظام السياسي، فهو الحاكم لتلك الدولة. والصراع جعل من الوطن والنظام السياسي كلاً واحداً، فليس المهم الشعار إن كان يرفع فقط للمطالبة بإسقاط النظام، لكن الأهم هو السلوك السياسي. ومن الواضح أنّ الكثيرين ذهبوا بعيداً حتى بدأت عملية إسقاط الدولة والوطن لا النظام فقط، كما أنّ ربط النظام بالوطن هو خطأ كياني، نتيجة اختلاف كل منهما عن الآخر. المشكلة في سوريا هي الترابط العضوي بين الحزب الحاكم والدولة بحيث إنهما يشكلان كياناً واحداً نسبياً، وهنا تكمن خطورة المطالبة بسقوط النظام، إذ يتخوف من سقوط مفهوم الدولة لدى المجتمع. ويتطلب ذلك وعياً من الطرفين للانتقال إلى مرحلة مختلفة دون المساس باحترام الدولة ومؤسساتها.
لا يمكن تحديد الوجهة السياسية نتيجة ردّّ الفعل، فالطرح أن يصبح اسم الدولة «الجمهورية السورية»، نتيجة ردّ فعل على قرارات الجامعة العربية تجاه سوريا، يختلف عمن هو مقتنع بهذا الاسم قبل هذه القرارات، إذ إنّ الوطن والدولة والنظام السياسي والمعارضة لا تبنى على الصدف، وردات الفعل والتعميمات.
بين المستوى الأول والمستوى الثالث ترابط في صراع المفاهيم. الخطورة الأكبر حين تدخل الدول في هذا الصراع على نحو مباشر، فبين المستويات الثلاثة التي نستطيع أن نضعها تحت مسمى مصلحة الوطن، وبين مصالح الدول ولعبة الأمم تكمن أهمية وعي الإنسان لذاته، وتقبّل الآخر بين أبناء المجتمع والمحافظة على سيادة الدولة وهيبتها، لمنع دخول البلاد في اللعبة الإقليمية والدولية. فلعبة الأمم تسيّرها المصلحة فقط، مهما كانت هذه الدول. ومن الواضح أنّ المصلحة الآن هي لا لحرية ولا لإصلاحات، المصلحة هي الغاز الطبيعي على سواحل شرق المتوسط، والسفن الحربية المنتشرة في البحر الأبيض المتوسط، هي وسائل للتفاوض على تقاسم هذا الغاز.
إنّ مصلحة الدول العالمية والمستعربة تقتضي أن تبقى هذه المنطقة (المشرق العربي) تعيش تقسيمات سايكس بيكو، بحيث لا يحق لها أن تتقدم ولا تقرر مصيرها إلا بموافقة الدول صاحبة النفوذ فيها. وهذه الدول إما أن تتفق على المسألة السورية وتحقق التسوية المناسبة لها، وإما أن تشعل حرباً إقليمية من مضيق هرمز إلى ميناء طرطوس، تصل شظاياها إلى الكثير من دول العالم. هنا على الشعب أن يدرك أنّ صراع المفاهيم يقف عند حدود مصالح الدول، فهذا الصراع داخلي، والتدخل الحاصل الآن من مختلف الدول وبمختلف الطرق المالية والعسكرية يؤدي بطبيعة الحالة إلى سرقة الوطن من قبلها. سرقة نطلق عليها اسم مؤامرة. وقد حان الوقت لنعرف حتى ما هو مفهوم المؤامرة، فنحن في حالة صراع دائم مع المؤامرة، ونتيجة عدم وضوح هذا المفهوم أيضاً، فقد أصبح كل شيء في حياتنا مؤامرة. المطلوب من المجتمع إدراك هذه اللعبة الدولية بكل مسمياتها والوعي لمصلحة الوطن والدولة، وخلق التوازن بينهما بإيجاد الحل الذي يخرج البلاد بأفضل النتائج.
* كاتب لبناني