قضيّة هذا العميل، فايز كرم، لا تحتمل تأويلاً. هو محكوم ومُدان. كذلك، ما سُرّب عن اعترافاته واستجواباته (بصرف النظر عن أهداف التسريب السياسيّة، لا بل الطائفيّة _ دوماً طائفيّة عندما يتعلّق الأمر بتيّار الحريري في لبنان) يكفي كي يطلع القارئ والقارئة باستنتاجات عن الجرم وتاريخه. إنّ فخر لبنان بالتقاط عدد من عملاء العدوّ في المدة الأخيرة يفوق عدد مَن التقط لبنان من عملاء في تاريخه كلّه، لا يضاهيه إلا سوء التعامل مع هذا الملفّ من ناحية اللين والرفق والطائفيّة في التعاطي معهم بعد صدور الحكم.
تتوالى أخبار التقاط عملاء إسرائيل في لبنان. مسؤول استخباري عسكري عدوّ انتحر في مكتبه بعد توالي انكشاف سلسلة عملاء إسرائيل في لبنان، ولم تسأل الصحافة العالميّة سؤالاً. الأسئلة مُحرجة جدّاً لإسرائيل. قد يكون لبنان _ نتيجة مهارة استخبارات حزب الله وتكنولوجيا الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة اللبنانيّة _ ألحق واحدة من أشنع الهزائم التي لحقت بالعدوّ في سجل الصراع العربي _ الإسرائيلي، لكن إعلام آل سعود وآل ثاني مشغول بالخطر الإيراني، ومتواطئ مع العدوّ كي لا يسهم في إحراجه (جريدة الأمير خالد بن سلطان، «الحياة»، تضع عبارة «الاحتلال الإسرائيلي» بين مزدوجين). إنّ النجاحات الاستخباريّة للعدوّ (وهي مُبالغ بها كثيراً وإن كانت المبالغة قد تقلّصت نتيجة إخفاقات العدوّ المُتراكمة كما تقرأ في كتاب دانييل بيمن «ثمن مرتفع: نجاحات إسرائيل وإخفاقاتها في مكافحة الإرهاب») تتضاءل أمام نجاحات لأعدائه. الصحافة الغربيّة والعربيّة تتستّر على إحراج العدوّ، كذلك فإنّ خروق العدوّ للأراضي اللبنانيّة ولأجوائها، لا تحظى بما تحظاه خروق النظام السوري. لم تكن دعاية العدوّ متغلغلة في الإعلام العربي كما هي اليوم، بفضل الدفق المالي السعودي والقطري لمصلحة المخطط الأميركي _ الإسرائيلي. لكن هناك مشاكل ذاتيّة تعتري مكافحة تجسّس العدوّ وإرهابه في لبنان.
الصراع بين أجهزة الاستخبارات في لبنان _ ولكل طائفة جهازها، وللسعوديّة أجهزتها _ يؤثّر على مكافحة تجسّس العدوّ وإرهابه. ما معنى أن تسرّب أسماء مشبوهين ومتهمّين قبل اكتمال التحقيق وقبل تجهيز الأدلّة ضدّهم؟ إنّ التسريب ليس بريئاً، بل هو إنذار مبكّر لتنبيه أعضاء في شكبة العميل المقبوض عليه _ ليس هناك شبكة تضم عميلاً واحداً: أي إنّ هناك حاجة لجهاز (في الدولة؟) رفيع المستوى، وخارق لكل الأجهزة، يعمل على مكافحة الاختراقات الاستخباريّة العدوّة في أجهزة الأمن والاستخبارات في لبنان، وخصوصاً أنّ وصمة العميل غسّان الجدّ (نائب رئيس الأركان الأسبق في الجيش اللبناني) تقبّح تاريخ القوّات (غير) المُسلّحة في لبنان. وجهود حزب الله في مكافحة التجسّس تتعرّض للتهكّم وحتى للمحاربة من قبل أعوان إسرائيل في لبنان (المنضوين في خيمة 14 آذار، كما كان أعوان إسرائيل منضوين في تكتّلات سياسيّة أخرى في تاريخ لبنان المعاصر).
لكن محاربة عملاء إسرائيل في لبنان قد تصل إلى طريق مسدود بسبب الطائفيّة المستشرية (وبسبب التحالفات المتأثّرة بالحسابات الطائفيّة). خرج العميل الإسرائيلي المُدان والمحكوم، فايز كرم، مرفوعاً على الأكفّ وقد نثر الأرز عليه، وفتحت قناني الشامبانيا احتفاءً بخروجه. لم تصدر كلمة استنكار واحدة عن حزب الله، الحليف المُستجدّ للتيار الوطني الحرّ. الاستقطاب السياسي والطائفي أكثر أهميّة من العداء لإسرائيل في لبنان! لكن الاستقطابات الطائفيّة _ السياسيّة الحادّة في لبنان أنتجت معادلة «لعبة المجموع صفر»: أي إنّ أي زلّة لفريق تُعَدّ انتصاراً للفريق الآخر، والعكس صحيح. لا يحتمل أي فريق الاعتراف بالخطأ أو بنقد الذات. وعندما قال حسن نصر الله إنّه كان قد تريّث في عمليّة خطف جنود الاحتلال لو علم بمضاعفاتها، أُخذ الإقرار (الإنساني والأخلاقي) عليه، وتحوّل إلى مضبطة اتهام ضد المقاومة في لبنان في أجهزة دعاية آل سعود (وتابعاتها في أجهزة بيت الحريري). لكن هناك أخطاء وهناك حسابات سياسيّة، وهناك هدف مكافحة الإرهاب والتجسّس العدوّ. هذا لا يحتمل حسابات «بعبدا _ عاليه».
نجحت الأنظمة العربيّة البعثيّة، والنظام الأردني خصوصاً، في تسهيل التغلغل الاستخباري الإسرائيلي في الجسم العربي، عبر استسهال إطلاق صفة العمالة لإسرائيل لأغراض سياسيّة، ما ساعد في تليين الموقف الشعبي من اتهامات العمالة الرسميّة من قبل الحكومات العربيّة (كما فعلها رستم غزالة في لبنان عندما أمر باعتقال تحسين خيّاط بتهمة العمالة الجاهزة). لكن هذا الاستسهال ليس بريئاً، وقد أسهم في تغلغل استخباري معاد (دأب الإعلام العربي السعودي والقطري على تجاهل أو حتى السخرية من اتهامات العمالة لإسرائيل، في غزة أو في لبنان _ هل تجرؤ سلطة رام الله على سوق شخص واحد بتهمة العمالة لإسرائيل فيما السلطة بحدّ ذاتها هي خادمة بإمرة أجهزة الاستخبارات الإسرائيليّة؟). لكن العدوّ لا يهدأ في مساعيه للتغلغل في المجتمعات والدول العربيّة مستفيداً إما من قدرة الإسرائيلي على التمتّع بجوازيْ سفر، أو بتزوير للجوازات (كما فعل في دبي من دون أي حساب من حكومات الدول التي زُوّرت جوازاتها)، ومن عبادة الرجل الأوروبي الأبيض في بعض المجتمعات في لبنان، حيث يتلقّى الأوروبي، كائناً من كان، استقبال الفاتحين بمجرّد وصوله إلى مطار بيروت. ليست هناك سلطة قضاء مستقلّة في لبنان. جمهوريّة الطوائف لا تسمح بفصل السلطات ولا باستقلاليّة أي جهاز في الدولة. فجأة، تراجع العميل المُدان عن بعض اعترافاته من دون أن ينفي لقاءاته مع عسكريين إسرائيليّين على مدى سنوات طويلة. والرجل الذي شُبّه بيوضاس تحوّل إلى رمز وطني مُحترم. وهذا الاستسهال في التعامل مع عمالة فايز كرم (بصرف النظر عن استغلال حركة 14 آذار للقضيّة، وذلك من أجل إطلاق سراح عملاء إسرائيل من المحسوبين على الحركة، وقد أفاضت محطة «إم.تي.في» الناطقة باسم المصلحة الصهيونيّة في لبنان في بث تقرير طائفي _ مذهبي عن عميل إسرائيلي مُعتقَل بغية كسب التعاطف مع عمالته) يعود لأسباب عديدة. ينسى البعض أنّ ميشال عون لم يكن له قبل تحالفه مع حزب الله موقف صارم ضد إسرائيل (يستطيع القارئ والقارئة العودة إلى نص برنامج «زيارة خاصّة» مع سامي كليب للتأكد من الموضوع). كذلك إنّ الفصيل القوّاتي الهوى (في عهد السيئ الذكر، بشير الجميّل) في الجيش الذي انتمى إليه ميشال عون كان، قبل سنوات أمين الجميّل وبعدها، متحالفاً مع العدوّ الإسرائيلي. والصهيونيّة الغربيّة التي تحتضن حركة 14 آذار اليوم ــ اسأل عن إلينا روس ليتنن ــ هي نفسها التي احتضنت الحركة العونيّة، بعدما كانت تحتضن حركة بشير الجميّل من قبل.
قد يظن حزب الله أنّه يتذاكى في لين تعاطيه مع موقف التيّار من فايز كرم ومن استقبال ميشال عون له بعد إطلاقه المُشين. لكن هذا يضرّ بمصلحة المقاومة على أكثر من صعيد. إنّه يُظهر الحزب مظهر مَن يساوم على كل شيء، بما فيه موقفه من العملاء، وخصوصاً أنّه تساهل في وثيقة التفاهم مع التيّار الوطني حيال قضيّة الفارين من العملاء ومن عائلاتهم (تحرّكت إنسانيّة البطريرك الراعي المزيّفة هذا الأسبوع عندما أثار قضيّتهم في أسفاره). القضيّة لم تعد تحتمل الطيّ تحت السجادة، و/أو تحت تفاهمات طائفيّة _ انتخابيّة. إنّ مكافحة تجسّس العدوّ وإرهابه هي ركن أساسي من أركان المقاومة، ولا يجوز أن تخضع لحسابات لا علاقة لها بمقاومة إسرائيل.
لكن هذا الفصل من سيرة حزب الله له علاقة بتكبيل يديه بسبب عقيدته وتركيبته والطائفيّة. يشعر الحزب بحرج ما في المجاهرة بطلب محاكمات قاسية ضد العملاء في لبنان. كانت المقاومة الفلسطينيّة في لبنان، وبعض التنظيمات اللبنانيّة المُتحالفة معها، تقوم بمحاكمات ميدانيّة لمن يثبت تعامله مع العدوّ أثناء الحرب الأهليّة، مع أنّ عدداً من العملاء وصل إلى مواقع قائدة في بعض التنظيمات. ومنذ ما قبل انسحاب العدو من معظم الجنوب اللبناني إلى ما بعد 2000، رعى البطريرك صفير ثقافة التعاون والتساهل مع عملاء الاحتلال الإسرائيلي وإرهابيّيه (لا يمكن أن يوصف جنود جيش لحد الذليل وضبّاطه بـ«العملاء» فقط. هؤلاء مسؤولون عن أعمال إرهابيّة بحق الشعب اللبناني، حتى لا نتحدّث عن القانون اللبناني). لكن المسألة تعود إلى فترة حكم إلياس سركيس _ وفؤاد بطرس، إذ رفض الرجلان المشبعان بالعقليّة الطائفيّة (يمكن مراجعة كتاب صلاح سلمان الجديد عن تلك الحقبة حتى تُزال من مخيّلة الناس صورة البراءة عن إلياس سركيس) تجريم جيش لحد (أو سعد حدّاد يومها)، لا بل أصرّا على استمرار دفع رواتب عناصر ذلك الجيش. ليست هناك جديّة في التعاطي. تسريب الأسماء الجاري وتسريب وثائق التحقيق إلى نشرة آل الحريري التي روّجت للعدوّ الإسرائيلي ودعايته في حرب تمّوز (من ينسى العناوين عن وصول جيش العدوّ إلى نهر الليطاني؟) ينطوي على مؤامرة خطيرة، تحاول التخفيف من وطأة حملة مكافحة العملاء. يتحرّك حزب الله بخفر شديد في الساحة اللبنانيّة التي لا يجيد السير بين ألغامها، لكن الإمساك بملف مكافحة العملاء وعدم الاعتماد على أجهزة الدولة المتنازعة قد يكون بأهميّة الدفاع عن شبكة اتصالات المقاومة، إن لم يكن أكثر أهميّة. فايز كرم حرّ، فيما اعتقلت قوى الأمن والجيش خضر سلامة وعلي فخري بتهمة... الترويج للثورة.
لكن عندما تتقاعس الدولة عن القيام بواجباتها لاعتقال العملاء ومعاقبتهم، تقوم مجموعة متطوّعة من الناس بإنزال العقاب. هذه تجارب من التاريخ.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)