النظام السوري يقاتل الإرهابيين.هكذا تقول الدعاية الرسمية للنظام، ثم يزفّ لنا السيد بشار الجعفري من نيويورك خبراً ساراً: أطلقنا عشرة آلاف معتقل ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء!
إذا كان النظام يقاتل الإرهابين، فماذا يفعل الآلاف من غير الإرهابيين في سجونه؟! هذا جزء بسيط من حكاية خطاب إعلامي لا يجيد سوى كذب الهواة المُضحك.
يفجّر اعتقال سلامة كيلة قنبلة في وجه كل من كرر على الناس الحديث عن بدء عجلة الإصلاحات بالدوران في سوريا.
الإصلاح كذبة أخرى لم يصدقها إلا من أراد العيش خارج الواقع. مثقف يساري عروبي أصيل يعود إلى السجون السورية بعد أن سُجن سابقاً لثمانية أعوام. هكذا يعامل النظام المثقفين الأحرار المستقلين. لا يرغب بسماع أصواتهم، ويودعهم السجون مراتٍ لعلهم يصمتون.
يخالف سلامة كيلة نوعية المثقفين «القوميين الممانعين» الذين تصدّرهم لنا الآلة الإعلامية السورية، ووسائل الإعلام الحليفة لها؛ فهؤلاء يتمثل دورهم «القومي» في تمجيد الأشخاص وتنصيبهم حراساً للفكرة القومية ومخلصين لشعوبهم دون غيرهم، في ما يشبه الاصطفاء الإلهي. ويقدمون مع هذا الأمر خطاباً يزاوج بين التخوين والعنصرية: «الأعراب المتخلفون أذناب الصهيونية».
يصدر هذا الخطاب العنصري الفوقي باسم العروبة من دون حياء أو خجل، ترافقه حملة تخوين لكل المثقفين العروبيين الذين لا يرتضون المشاركة في حفلة ردح عنصرية باسم الممانعة.
تميّز طرح سلامة كيلة بالوضوح والانسجام مع الذات والفكر اليساري، وسط تيه اليساريين بأحزابهم ومثقفيهم وبعض
جمهورهم.
هو اليسار الذي وجد نفسه في موقع أقرب للنظام من الفقراء المنتفضين في أرياف سوريا، والذي أصدر بياناً باهتاً عن اعتقال مثقف يساري بارز كسلامة كيلة، وما عاد قادراً على اتخاذ الموقف الصحيح في معارك الشعوب من أجل الحرية والكرامة.
هذا اليسار في حالة تخبط منذ سنوات كرّسها موقفه اليوم، ومعه يتخبط المقاومون وينحازون إلى حساباتهم السياسية الضيقة، ويراكمون الخسائر الأخلاقية والسياسية.
«من واجب المثقف أن يكون معكراً لصفو السلطة». هكذا يقرر المفكر الراحل إدوارد سعيد، وهو ما تبناه سلامة كيلة بامتياز، فقرر ألا يكون مثقفاً «نفطياً» مسترزقاً، ولا أن يدخل في حاشية سلطة الممانعة، فيبرر الاستبداد بشعارات المقاومة.
قرر سلامة أن يكون نقدياً بما تحمله الكلمة من معنى شامل لا تفقده الحسابات السياسية والأيديولوجية صدقيته.
سلامة كيلة فلسطيني احترم فلسطين، ولم يقبل استخدامها بندقية تُصوَّب ضد مطالب الناس، وهذا بالتحديد ما يزعج الآلة الإعلامية المدافعة عن الاستبداد: المبدئيون الذين يفضحون زيف توظيف الشعارات والعناوين المتعلقة بفلسطين والمقاومة في معركةٍ ضد مطالب شعبية عادلة.
هؤلاء «الإرهابيون» الذين يمثلون خطورة كبيرة على الدعاية الإعلامية «المُمانِعة»، مثل سلامة كيلة، لا حل معهم سوى الحبس، واتهامهم بـ«إضعاف الشعور القومي»، و«توهين الأمة».
هي مشكلة بالفعل: في العالم العربي هناك من لا يزال يعتقد بقدرة السجن والمنع على قطع وصول الأفكار وتحقيق انتصارات إعلامية. الأدوات القديمة غير فاعلة في مشهد جديد ومختلف كلياً، وهذا بالضبط ما يجعل المأزق في سوريا متفاقماً، رغم ادعاءات مثقفي الآلة الإعلامية الرسمية أنّ الأزمة
«خِلْصِت».
بعد الربيع العربي، سقط عدد من المثقفين المعروفين لأسباب مختلفة. منهم من انحاز إلى أنظمة استبدادية في وجه إرادة الشعوب، ومنهم من تناقض موقفه بين ثورة وأخرى بدوافع سياسية أو أيديولوجية، ومنهم من اختار المعارضة لينقلب على مبادئه وأفكاره ويسلم نفسه للغرب ليتحكم بحركته، بعد أن كان في أطروحاته يرفض مركزية الغرب وتدخلاته. سلامة كيلة أحد الناجين من السقوط الثقافي هذا، ومهما كان الاختلاف مع إحالته الانتفاضة في سوريا إلى أسباب اقتصادية/اجتماعية، واستخدام الأدوات الماركسية لبناء مشهد صراع طبقي هناك، فإنّ الرجل كان منسجماً مع نفسه، ومتصالحاً مع مطالب الناس، والأهم متصالحاً مع إنسانيته.
لا يعني اعتقال مثقف أكثر من تعريف الناس بأفكاره التي تتحرر أكثر وتنطلق لتحاصر السجّان.
الحرية لسلامة كيلة ولمن طالب بحريتهم.
* كاتب سعودي