لم يكن حازم أبو إسماعيل هو نجم جمعة «قندهار 2»، لكن الحشد على طريقة الطقوس الدينية المقدسة (الحج والعمرة) فيه غواية لا تقاوم، تحت رايات الجهاد السوداء، وصيحات حروب فجر الإسلام (كما قدمتها أفلام السينما)، وحلقات الذكر والدراويش، وخطب تدهس الفوارق بين الخطابات، «يلعلع» فيها الخطيب بنبرة خطب الجمعة، متناسياً أو غير واعٍ بأنّه في مناسبة سياسية عامة. رغم حرص جماعة الإخوان المسلمين على عدم سيادة الشعارات الدينية كي تبدو «قندهار ٢» أقرب الى اعلان عودة الثورة، الا أنّ الجمهور السلفي بحشوده القادمة في باصات تستعرض «التنظيم والمال»، كشف عن المزاج الذي يستعرض فيه التيار الاسلامي نفسه كضحية للعسكر، بينما كان قبل اسابيع يتعامل كشريك في السلطة. موقع الضحية اجتذب حازم.
و«الحازمون» الملتاعون برفض مرشحهم في ما عدّوه خديعة، حاصروا اللجنة العلىا، وكانوا على استعداد لحصار كل رموز الدولة، لأنّ حازم فوق السياسة او ظاهرة «ميتا ــ سياسية» (أعلى من سياسية)، أو واقعية جداً، بما تحمله من خلط بين الهوس والتوحد مع رجل يبدو في لحظة أنّه المتعالي على ما تمثله الدولة كلّها من تفاصيل مرفوضة.
حازم ابن الهستيريا بما تمثله من نقاوة وبراءة في ملامح لا تشير الى شيء محدد: لا جهامة السلفيين ولا خبرات الاخوان. لا صرامة كاملة ولا كاريكاتورية كاملة. كيان يحمل كل شيء ولا يحمل شيئاً في الوقت نفسه. برنامج سياسي يصلح لأفلام الكوميديا، وحديث عن الامل يشبه التوليفات البسيطة في افلام السخرية من السلطة. وسلطة تبدو مستمدة من خطاب ديني ناعم لا يعتمد على غلاظة الاوامر والنواهي، لكن على فكرة السحر الشخصي.
لا يهم الشيخ حازم الجهل بالمعلومات، ولا تهمه الخرافات المنتشرة حوله، لكنّه يحوّل الخطاب الساذج الى كيان معجون بالكاريزما. هو نجم تصنعه لحظة وتطيحه لحظة اخرى. ابن لحظة فوارة تنتهي سريعاً. نجوميته بدأت من هذه المواقع: المنبر في الجامع والميكرفون امام الشاشة، لكنّها أرادت العبور الى مجال اوسع في عدة محاولات فاشلة، حاول فيها السير على نهج ابيه الشيخ صلاح ابو اسماعيل في دخول البرلمان.
يعود الشيخ ككل مرة الى ملاعبه الاساسية بدون اضافات ولا ادوار غير تخزين جمهوره في المخازن في انتظار المعركة التالىة، لكن الثورة فتحت ابواب المخازن وخرج جمهوره الى الميدان، الى حيث اصبح للجماهير موقع غير الحشد في طوابير الصناديق. هنا انتقل حازم الى مستوى نجومية مختلف، واستفاد تماماً من مزاج الثورة العاطفي، وصنع حضوره الكامل من خلال علاقته
بمريديه.
لم يكن للشيخ حازم خطاب متماسك، انّه شذرات من هنا او هناك، او «قصاقيص» افكار استطاع حازم ان يجعلها ثوبه الفكري الذي لا يتذكر احد منه شيئاً سوى اخطاء المعلومات او الجهل ببعض الوقائع او طرافة حلوله لمشاكل كبيرة وشائكة. لا شيء يبقى من الشيخ حازم سوى عواطف أتباعه الذين سموا أنفسهم باسمه: «حازمون». لا شيء سوى هذه الشحنة التي يتركها، ويقع المريدون والجمهور الطويل العريض تحت سحر الشيخ الشخصي. سحر لا تحركه افكار ولا ايديولوجيا ولا برنامج سياسي متماسك، لكنّها صور واسقاطات تهبط من اللاوعي لتراها مجسدة في الشيخ. فهو «الأسد» بدون علامات تثبت القوة او الافتراس، لكنّها الصورة التي تجعل ظهور حازم ابو اسماعيل يعطل القوى الشرسة لأتباعه ومريديه. رأيته مرة يحول الوحوش التي تمسك السكاكين لتطبق حد الحرابة على شخص وتقترب من التهامه وتقطيع جسده، إلى أغنام. هذه الجموع الهائجة تحولت الى اغنام وديعة تأتمر بأوامر الشيخ التي يقولها بصوت مشحون بطاقة ترويض القطيع. الجمهور هم مسرح استعراضه، وترويض الجموع الهائجة هو لعبته التي تصنع له حضوراً في مجال سياسي لم تتكوّن قواعده بعد، ولا تزال القوى تتصارع من اجل اعادته الى صفاته القديمة، ليكون حكراً على من تختارهم اجهزة الدولة وتمنحهم تراخيص بدخول المجال او تتكسر الحواجز ويدخل الشعب قصر الرئاسة.
يسخر المصريون من المنصب الذي كان بعيداً عنهم، ويبدو مثل الفراعنة قريباً من الآلهة. يصل صاحب المنصب بصك الشرعية (المزور او حتى الحقيقي) ليولد من جديد، فيتحوّل الى كائن مقدس، ممنوع المساس به. بكلمة يذل أعناقاً، وباشارة يمنح الخير لمن يرضى عنه. تقدم 1300 مصري للرئاسة كأنّهم فرقة رمزية من شعب يريد اقتحام قصر الطاغية ويكسر هيبته، ويهبط بالمنصب المعلق على أبراج مسلحة الى الارض. لم يكن حسني مبارك يصلح لادارة نادي القوات المسلحة في المنوفية، لكن السلطة وكهنتها منحوه الصولجان وادخلوه في الدور. وذلك يحتاج الآن الى هزة عنيفة تسحب من الحاكم قداسته وتعيده الى موقع الموظف الذي يدير مؤسسات الدولة ولا يملكها.
يسخر المصريون بطريقتهم الخاصة من كل سلطة قهرتهم، ويحوّلونها الى مسخرة. وهذه هي الحكمة التي حملها استعراض سعد الصغير الذي بدا أنّه لم يقصد أن يرد على موكب الشيخ حازم وولعه باظهار الشعبية من خلال التوكيلات والمريدين. سعد الصغير ذهب في موكب المعجبين كما ذهب الشيخ حازم، وجمع 55 الف توكيل في اسبوع، ولم يكن ينقصه سوى جسارة استكمال الطريق، لكنّه كان حكيماً... بينما غابت الحكمة عن الآخرين.
حكاية الشيخ حازم تحتاج الى مزيد من التأمل، لأنّه واتباعه ينظرون الى الدولة على انّها كيان مفروض، لا حل معه إلا الحيلة، وهذا يعني انّه قادم من ثقافة ضد الدولة ليدير الدولة. وبعد رفض اوراق الترشيح يبدو جمهور الشيخ في صدمة. يغيب العقل او يمنح اجازة او توكيل حصري ليتوحد الحازمي في حازم. حالة ليست جديدة في تاريخ البشرية. الوله بالأشخاص وتقديسهم والتوحد فيهم بعد صنع صورة خيالىة ترسمهم ابطالاً وقديسين قدماء. وهنا تأتي الصدمة عندما يكتشف الممسوسون بالشخص انّه مجرد انسان عادي، يأكل ويشرب، ويتحايل مثل كل الناس عندما يفاجأ بقوانين الدولة. لا فرق هنا بين اتباع مغنّ او نجم كرة قدم، وأتباع شيخ. جمهور مجنون بالشيخ، لا يفكر، ممسوس بشيخه، ويقسم العالم الى «حازمين» واعداء. الشيخ هنا لم يعد فرداً عادياً، بل هو «جسد جماعي» يتحرك على الأرض. «الحازمون» هم الكتلة الموازية لحزب «الكنبة»: كل منهما يلتقي عند «الخوف من الحرية» او «الخوف من التفكير».
والتوحد مع شخص او زعيم او شيخ يعبر عن شعور جبار بالضعف والعجز ، يبحث فيه ساكن الكنبة او الحازمي عن سلطة يخاف الابتعاد عنها ويتوحد معها الى درجة تلغي العقل والوجود، وتنتج رد فعل هستيرياً تجاه كل من يجرؤ على الخروج عن هذه الرواية. الخروج عن الرواية ارادة باتجاه الحرية يخاف منها سكان الكنبة والسائرون في مواكب حازم، وبينهم تواصل غريب وتبادل اعضاء مثير للتأمل. الشيخ حازم مثالي لأداء هذا الدور. هو شيخ وله كاريزما في الخطابة مختلفة عن الشيخ كشك، لكنّه يملك قدرات في اداء العروض العامة، تنسى معه ما يقوله، لا تفكر فيه، ويحوّله كلامه الى امتداد للوجود الشخصي. لا يعني المستمع أن يفكر في تناقضات او يحلل اصول الكلام فيصبح كلامه عن البيبسي او جوزة الطيب علمياً، وسيجد من يخترع أسانيد علمية ويصمم مواقع لإثبات نظريته. فتحت الثورة المجال ليخرج الرجل من مسجده الى الميدان، ويقابل جمهوراً واسعاً يبحث عن شخص لا يعبر عن اختيار محدد. فالشيخ لا إخواني صرف، ولا سلفي تماماً. لا ينتمي الى تنظيم محدد، كما انّ ملامحه مختلفة عن جهامة السلفيين (او المشهور منهم)، وخطابه اكثر نعومة، يقلل فيه من التحذيرات، متحدثاً عن التكيّف مع الحياة الحديثة بلغة واثقة، رغم افتقارها احياناً الى العلم. لا شيء سيبذله المرء لتتغير مصر، وتتحول الى دولة عظمى الا انتخاب الشيخ حازم، الذي تصنع له صورة «الأسد في مواجهة وحش السلطة»، رغم أنّه كان ينسحب من المواجهة اذا تجاوزت الخطبة او حرب الألفاظ الحدود. بطولة الحنجرة تفوّق فيها الشيخ حازم، وأكمل بها صورته الخرافية عند مريديه، وهم ليسوا اكثر من مريدين يريدون خلطة من كل شيء، لا يدفعون فيها الا تأييد الحازم. والشيخ بانفعاله وتلقائيته شيء، ومحاولته في التحايل على حقائق الأوراق، شيء اخر، لكن الأول يستخدم الآخر ليرسل الى أتباعه رسالة: إنّنا مضطهدون، نواجه حرباً من السلطة، وهكذا تكتمل الدائرة في صنع الخرافة، وخاصة أنّ الجمهور الجديد على السياسة وجد نفسه في حرب خرافات تستعصي فيها الأحداث على التفكير لمن لم يشغل باله بالسياسة يوماً.



أوهام الإسلاميين في متاهة العسكر

ابتسم، أنت في متاهة الكهنة. هم أبناء عصر مبارك ودولته. يعرفون كيف يصنعون المتاهة ليبدو الفرد وسطها تائهاً حائراً: الدستور أولاً، أم الانتخابات أولاً. الدورة تلف الآن، ومن كان يدافع عن الأولى أصبح يدافع عن الثانية، واللعبة كلها تدور بين أصابع الكهنة.
المجلس العسكري حشد خلفه التيار الإسلامي في استفتاء آذار ٢٠١١، لصناعة الخدعة الكبرى: قل نعم للتعديلات الدستورية كي تدخل الجنة. الآن بعد مرور اكثر من عام يعود المجلس نفسه ليدفع البلاد الى متاهة أخرى: الدستور قبل الرئاسة.
ارتبكت الأحزاب لأن ذلك يعني إما «دستوراً مسلوقاً»، وإما «تأجيل الانتخابات» الذي سيعني بالضرورة «تأجيل تسليم السلطة».
المشير تغيّرت ملامحه في اجتماع الأحزاب قبل أيام: تكشيرة واعتذار وتحذير، هكذا دفعة واحدة. تقول كلّها: لن يتم شيء خارج إرادتنا... إنك في المتاهة إذن، حيث الحيرة والعجز أمام الغموض الثقيل.
الكهنة لم يصنعوا المتاهة وحدهم، استدعوا خبراء، وعلى رأسهم المستشار طارق البشري، لكن هل يدرك البشري أنّه أدخل مصر الى متاهة وشارك في الخديعة؟
كنت أظن أنّ المتاهة حصلت من دون علمه، لكنّه كل يوم يؤكد أنّها بكامل الوعي المصاحب لتمكين الإخوان المسلمين من الدولة.
من حق المستشار البشري أن يرى أنّ هذا أوان الإخوان، وانّه مع بناء الدولة على طريقة مكتب الإرشاد، لكنّه كان في موقع آخر. موقع رئيس لجنة التعديلات الدستورية. ومع احترامنا الكامل لتاريخه القضائي، فإنّ القبول العام لهذا الموقع لم يكن من بين أسبابه انحيازه لصف فصيل سياسي او تيار يبني خياله على أن الثورة فرصته... وغنيمته.
لماذا يظهر المستشار البشري ويعلق في الصحف فقط عندما يكون الإخوان المسلمون في مأزق؟ ظهر في المرة الأولى عندما ضغطت تيارات سياسية لتأجيل الانتخابات البرلمانية، وها هو يظهر مرة اخرى بعد حكم القضاء الاداري بعدم أحقية الاغلبية الاخوانية في تأليف لجنة الدستور.
لماذا يظل صامتاً ما دامت الأمور تسير لصالح الإخوان، ويتكلم فقط عندما تتعطل مسيرتهم، التي نراها لخطف الدولة، وربما يراها المستشار البشري على عكس ذلك.
هو حر تماماً في موقفه الذي اراه فكرياً، اكثر منه سياسياً. المستشار منحاز فكرياً لمشروع الاخوان، ولست مع الذين يرون انّه ينفذ تعليمات مكتب الإرشاد، وبين هؤلاء اصدقاء ومعجبون بالمستشار. وربما يتذكر المستشار البشري انّه بعد اختلافنا معه، حين كان نائباً لمجلس الدولة بشأن حشر الأزهر في الرقابة على الاعمال الابداعية، لم يذهب احترامنا له مع الاختلاف، ولا تقديرنا لجهوده الفكرية.
وهذا ما يمنحنا حق الاختلاف اليوم وعلى نحو اعنف مع ما جناه البشري على الثورة المصرية. الثورة لم تكن من اجل تمهيد الأرض لجماعة سياسية، ولا تيار سياسي، كما لم تكن إسفلت الوصول إلى السلطة، لكنّها فاتورة الدخول إلى المستقبل، وبناء دولة حديثة تمنح حق التعدد الديني والسياسي والثقافي، وتقوم على أساس حق المواطنة لا حق الأغلبية، وعلى العدالة لا توزيع المناصب.
لم تكن الثورة من اجل إنتاج دولة تسلطية جديدة، بمكياج اخواني او سلفي، ولا كانت ورقة حظ فاز بها المرشد وجماعته.
كيف مرت الخدعة؟ الخوف من الثورة هو الذي حرك الخدعة. الجماعة خافت أن تتجاوز القوى الثورية الجديدة (في الجماعة وبالتأكيد خارجها) مساحتها في المجال السياسي. والمجلس ارتبك في مواجهة قوى لا تريد تغيير حسني مبارك، لكنّها تريد بناء جمهورية جديدة بدون مؤسسات وصاية.
هنا الخديعة كانت هي الحلّ، على ما يبدو الآن من تفاصيل تتكشف في لحظة خلاف بين الجماعة والمجلس. المجلس أراد الاعتماد على قوة سياسية منظمة، وبالطبع الإخوان هم شريك مناسب، وخاصة أنّهم متشوّقون الى الشرعية، وجناحهم العجوز لم يكن لديه مانع من صفقات، حتى مع عمر سليمان.
المشكلة لم تكن في موعد الانتخابات ولا في التفسير اللغوي والقانوني للمادة ٦٠، بل في الإصرار على اللعب بطريقة النظام المستبد وبقوانينه نفسها، قبل تفعيل قوانين وقيم الثورة.
الخدعة هي في إرادة توقيف الثورة لا تفعيلها، في تحجيم الثورة لتصبح مجرد تظاهرة او انتفاضة أطاحت رئيساً وعصابته.



عودة الإخوان إلى الميدان: الحرب مستمرة مع خصوم وهمــيين



لم تكن جمعة «قندهار ٢» غالباً سوى إعلان عن عودة التيار الإسلامي من رحلته القصيرة إلى غرف السلطة المغلقة. المجلس العسكري فتح الأبواب على غرف التيار الاسلامي، وجعلها مكشوفة امام الجميع، في ما يمكن اعتباره «حرباً باردة» او «ريميكس» لسيناريو ١٩٥٤. التسريبات هذا الاسبوع تحمل اعترافات متبادلة. العسكر يقولون «اخطأنا عندما سمحنا بسيطرة تيار واحد»، وجماعة الاخوان تقول «... سنعود للشارع». اعترافات على جسر معلق بعيد عن الثورة، وخطايا تنذر بالغليان على البارد من جديد. الاعترافات تتم في اجتماعات مقتضبة، تعلن العودة الى «النقطة الصفر» التي تتساوي عندها كل المسارات في المرحلة الانتقالىة مع الىوم الذي أُزيح فيه مبارك من السلطة بثورة لا قوة فيها الا للقوى المنتمية إلى نظام مبارك نفسه.
نظام مبارك ابتلع الدولة بما فيها الجيش، ولم تعد هناك مسافة بين قبضة الرئيس والاجهزة الامنية. تماهت الدولة في النظام، وكلاهما في الرئيس الذي لم يبق منه غير هياكل دولة تحت الإنشاء، وشبكة حديدية للمصالح المستقرة التي يختفي صندوقها الاسود في غرفة سرية. المجلس العسكري فشل في ادارة الدولة بالنسبة إلى من تصور انّه سيسعي الى دخول التاريخ بصناعة جسر الانتقال من الاستبداد الى الديموقراطية، لكنّه نجح، وعبر ماكينة ذكية، في تدوير الصراع ليعود الى النقطة الصفر: متاهة يديرها باحتراف، لكن بدون كفاءة. لا جديد اذن. الدين في مواجهة الدولة. والدولة لا تمنح منافسها مساحة ليتحرك باعتبارها وعاء لسلطات...كل السلطات، والشرعيات، والرموز المؤسسة من «معنى الوطنية» الى «علامات الهوية». «الدولة» كما يراها حراس الجمهورية القديمة، مركزها المعنوي واحد وهو القوة او مؤسسة السلاح. هذا المركز المعنوي للدولة يقترب من أن يكون «الشرعية» أو هو الشرعية الفعلىة، ويكاد أن يبتلع في داخله كل المراكز المعنوية الاخرى، من الوطنية الى الدين. الدولة بهذه القوة المعنوية لا يمكنها السماح بقوة اخرى منافسة او مؤسسة تفرض قداستها، كما حاول المرشد أن يفعل، او كما تخيل جمهور الحرب الباردة (المجلس/الجماعة) انّه يمكن ان تعقد صفقة يمر منها الاخوان باعتبارهم ثقل في الدولة او شركاء في «شركة لسلطة» الجديدة. الشراكة هنا مستحيلة، لأنّ الجماعة عقائدية، ومحكومة بهرمية تضع مكتب الارشاد في موقع من مواقع الميتافيزيقيا السياسية.
كما انّ الصفقة بالمنطق الذي ساد فترة عن الاتفاق على كل شيء، ليست منطقية لأنّها تعكس انهياراً في بنية اجهزة الدولة السرية، التي تدير الدولة من خلف الستائر السوداء. الجماعة تصورت انّها دخلت في «السر» عندما سمح لها بالنظر داخل الغرفة بدون الستائر، وهو ما كان مصدر سعادة، ظهر واضحاً في جلسات الغزل العنيف في المجلس العسكري والدفاع عن صولاته وجولاته في المعارك ضد الثوار. وقتها كان الثوار أعداءً، وبلطجية، ومنافسين على الشرعية. لم يكن هناك مانع من ان يخرج نواب وقادة في الجماعة يعلنون نهاية شرعية الميدان بعد اكتمال شرعية البرلمان. ولم يخجل بعض النواب من اعتبار التمسك بشرعية الشارع مؤامرة ضد الثورة. الغريب أنّ مجرد فتح العسكر والاجهزة السرية ستائر الغرف المغلقة امام الجماعة ومن دار في مدارها ساد التصور بأنّ هذا هو النصر المظفر. تتكشف حقيقة انّ الكلام عن «دولة شرع الله» تعني بوضوح، وبالنسبة إلى هذه النوعية، الدولة التي يتحوّل فيها كلامهم الى «شرع الله»، ومن يختلف معهم لا يختلف مع بشر يصيبون أو يخطئون او يفسدون، لكنّه يختلف مع كلام الله... مع الله بذاته المتعالية. هكذا نواجه ازمات 200 سنة من عمر مشروع الدولة الحديثة، لم تتم خلالها مواجهة المعارك الهامة مع من يريد حكم مصر باستثناء العائلة او الابطال او وكلاء يتحدثون باسم سلطة دينية.
الدولة ورثت تراثاً من محاولة البحث عن شرعية دينية لجنرال يسيطر ويغلب خصومه. الشرعيتان متلازمتان في الدولة التي ورثت جزءاً من تركة الرجل العثماني المريض. عائلة محمد علي جمعت بين تقاليد الشرق في الاعتماد على الشرعية الدينية مع لمسة غربية تستعير تقاليد ملوك اوروبا، في تكوين مؤسسات حديثة تفصل الدولة عن مخزنها الديني: الكنيسة. ولأنّه لا كنيسة سياسية في الاسلام، فإنّ التنظيمات التي تحمل فكرة الخلاص، والحل، استعارت الكنيسة بعدما وضعت عليها اقنعة اسلامية. انّهم يحملون بضاعة قديمة تريد المرور من جمارك حديثة، تتحايل وتصدر اصواتاً عالية للتغطية على احلام بناء دولة حقيقية تقدم إلى الناس خدمات التعليم والعلاج، وتتيح للمواطن العمل والعيش على ارضها بكرامة. دولة لا يمكن ان تقام اسوار حديدية حولها، لتكون «مزرعة تجارب لاعادة تربية البشر»، كما تفكر تنظيمات الاصولية الاسلامية، ولا دولة تقهر فيها الاغلبية الدينية اقلياتها، وتتعامل معهم على انّهم ضيوف. لم يفهم الاسلاميون انّ الله لا يختار النواب، كما انّ الجلوس مع الجنرالات بستائر نصف مفتوحة ليس الثورة، إذ إنّه في اللحظة التي تنزل فيها الستائر وتعود الاجهزة الى غموضها، ستبدو عودة الاسلاميين الى الميدان مسخرة، بعدما كانت مغادرة الميدان خطيئة... مجرد خطيئة.
الآن هم لا يشاركون في احياء الثورة، لكنّهم في حرب على سلطة مع عدو عاد الى موقعه خلف الستائر السوداء.