الدال هو آخَر المدلول؛ آخَر وَضعي كما المرأة/ الرجل، الشرق/ الغرب ... توترات الآخَرية لا تَكمن بين الدوال فحسب، بل حتى بين الشيء ومسماه. لم يكن مفهوم الهوية سيؤشكَل إلى هذا الحدّ لولا الشكّ الذي ألقاه إرث دو سوسير إزاء استقرار بُنى الدلالة. فما يصادفه الفردُ حين الخروج إلى التواصل ليس مجموعةً من الأفراد، بل مجموعة من النصوص. اللااستقرار ليس خللاً في عمل اللغة، فهي قامت لتُرجئ السؤالَ الأول. اللغةُ هي صمتٌ مؤجَّل.
استَخدم جاك دريدا، بعد مارتن هايدغر، عبارة «تحت المحو» «sous rature»: هذه الكلمة ليست مطابقة لما أودّ قوله، ولكن هذه حدود ما أمدّتني به اللغة. وبالتالي حين نتحدّث عن هويات علينا أن نَمتلك الجرأة لوضع العبارة التي نَختزل بها مجموعة من الأفراد «تحت المحو»، وإلا فهناك مخاطر أن تقوم العبارة بمحو هؤلاء الأفراد؛ تلك كانت مقاربة دريدا «حضور في غياب، غياب في حضور». أن تَحضر العبارة بتغييب الأفراد ليست مجازاً شعرياً؛ إننا نشاهدها يومياً تَفتك بالأجساد والأرواح. يَحدث أن تُفاجئنا مجموعة من الأفراد، الذين كانوا قبلاً لا يَندرجون في خانة واحدة، أن «يَكتشفوا» صلةً تَربطهم؛ يَكتشفون هويةً لهم وتصبح استعادة الوضع السابق شبه مستحيلة. يَحمل الفردُ هويات كثيرة، وفي لحظةٍ ما يقرِّر اعتمادَ واحدة منها فحسب لتكون راعيةً لوجوده الأنطولوجي، فيَعتبر أنّ أمنه من أمن العبارة؛ مفهوم التضحية.
حَصل ذلك في الـ 2000 في بيروت، حين بدأ وعيٌ سنّي يَتبلور إلى أن اكتمل في 2005. بات هناك هوية سنّية كان أفرادها قبلاً يَندرجون تحت مسميات كثيرة. وكان الحال أنّ كُثُراً دُهشوا لرؤية شخصيات سنية تتّخذ مواقف مغايرة تماماً لما كانوا عليه في وقت سابق. وكلّ التذكير بأنّ السنّة هم طائفة المقاومة والعروبة لم تعد تجدي. في نهاية السبعينيات لَعبت حركة أمل دوراً مشابهاً. كانت سيارات الحركة تدور في شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت تحثّ الأفراد الشيعة المبعثَرين بين أحزاب كثيرة على التجمُّع وإنهاء حالة «الضعف». هذا الحدث القطيعي يتكرّر دورياً ليُفاجئنا بهويات وشخصيات لم نكن نتوقّعها. مَنْ كان يتوقّع حالةَ مقتدى الصدر قبل الاجتياح الأميركي للعراق؟
كما تيار المستقبل وحركة أمل قبلاً، يبدو أنّ أمراً مشابهاً يَحدث اليوم مع الروم الأرثوذكس. هذه الطائفة التي شكّلت العمود الفقري للأحزاب العلمانية، «طائفة غير طائفية»، يبدو أنّها ستُجازِف لتقلِّد تجارب الطوائف الأخرى. وتتكرّر أخيراً عبارات مثل «حماية حقوق الأرثوذكس» و»إنقاذهم من التهميش والتبعية».
تمايَز الأرثوذكس العرب، وخصوصاً في المنطقة «السورية»، بدرجة عالية من الانخراط والريادية في محيطهم (تسمية هذا المحيط نَتركها «تحت المحو»). فهم طَوّروا تقنيات معقَّدة منذ الحقبة الأموية. وليس أدلّ على ذلك من القديس يوحنا الدمشقي الذي جمع بين كونه قديساً وقبلاً مديراً لأموال الخلافة. مَنْ وَرَّط الأرثوذكس أخيراً وأَفسد عمل تقنياتهم هم الموارنة والشيعة في سوريا ولبنان. فالموارنة والشيعة لم يتمكّنوا من تطوير آليات كهذه، وبقوا في علاقة صدام _ عزلة مع محيطهم. لم تهتزّ علاقة الأرثوذكس بهذا المحيط حتى عندما كانت روسيا في حرب مع الدولة العثمانية، رغم أنّ علاقتهم مع روسيا كانت متقدمة. إنّها آلية متطوِّرة لفصل المسارات. ليس بإمكان البُنى الريفية استيعاب فكرة فصل المسارات. من اللافت أنّ الحزبَين الوحيدَين اللذَين يتمتّعان بتداولٍ في قيادتيهما في لبنان هما الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي، أي الأحزاب التي يشكِّل الأرثوذكس عمودها الفقري، رغم أنّه عقائدياً يُتوقَّع من هذين الحزبَين أن يكونا الأبعد عن تداول السلطة. في الواقع، ليست هناك مؤشرات لاحتمال تَقدُّم أحزاب الطوائف الأخرى إلى تداول سلمي في قيادتها. حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي هما المثالان الأوضح على تقدُّم الابتكار السياسي الأرثوذكسي، ولكن الحزب القومي يبقى أكثر تعبيراً عنها (ميشال عفلق كان متأثراً بأنطون سعادة). فهو حزب أرثوذكسي ليس فقط من حيث التأسيس والانتساب، بل أيضاً من حيث العقيدة ذاتها. وقيل الكثير عن التطابق الجغرافي بين منطقة سعادة القومية، وانتشار الأرثوذكس العرب.
حزب أرثوذكسي في تصميمه، ولكن يمكن لأي مواطن من أي مذهب ترؤُّسه: على الأرجح لن نجد لدى الطوائف الأخرى بُنى بهذا التقدُّم في المستقبل القريب. ليس من الصعب ملاحظة استهواء العقيدة السورية القومية للشاب الأرثوذكسي. في 2004، حاضر غسان تويني في جامعة البلمند. هناك بالضبط تلاحظ العلاقة الوثيقة بين الحزب القومي وجريدة النهار والقاعدة الأرثوذكسية. في البلمند تَكتشف أنّ الأرثوذكسي يولَد قومياً سورياً، ثم قد يَختار عقيدةً أخرى لاحقاً. تويني، مكرَّماً من البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم، تساءل حينها إنْ كان لا يزال قومياً سورياً، بصيغة تؤكد أكثر مما تَنفي. وقال إنّه عندما جال في الجامعة الأميركية في بيروت تبادر إلى ذهنه «لماذا يوجد للبروتستانت جامعة، وليس من جامعة للأرثوذكس؟». من المفيد الإشارة هنا إلى أنّ أغلب المتحوِّلين إلى البروتستانتية في لبنان هم أرثوذكس وليسوا موارنة، دون أن يَنفي ذلك الآباء المؤسِّسين حبيب البستاني وأسعد الشدياق الذي تُوفي في سجنه. يُعزى ذلك جزئياً إلى البنية المدينية للأرثوذكس مقابل الريفية المارونية، وهو ما منح الأرثوذكس أيضاً وجوداً أقوى في الصحافة.
هذا الاختلاف البنيوي يجعل الأمور تبدو اليوم كما لو أنّ التحالف الطبيعي للموارنة هو مع الشيعة، والتحالف الطبيعي للأرثوذكس هو مع السنّة. في كانون الأول الماضي، أَعلن البطريرك هزيم أنّ الأرثوذكس بدأوا تشكيل إطار مؤسساتي يحدّ من تفرُّق أبناء الطائفة وتهميش حضورهم في الدولة ويحصّل حقوقهم المهدورة. أحد مطارنة الهيئة الاستشارية الأرثوذكسية يقول، في خطاب مشابه لبدايات «النهضة» الشيعية، «خَسرنا مواقعنا لأنّ الفئة القليلة عددياً والمسالمة تُستصغَر، ولا تجد مَنْ يدافع عنها. لذلك سوف ندافع عن أنفسنا».
في السابق، كان هناك التكتل النيابي الأرثوذكسي برئاسة فريد مكاري، الذي رَفَع شعار «الدفاع عن حقوق الأرثوذكس واستعادة ما خسروه». أما الوزير إيلي الفرزلي الذي يترأّس اللقاء الأرثوذكسي، فقد كسب جولةً إعلامية هامة بطرحه ما بات يُعرَف بالقانون الأرثوذكسي. يَشكو الفرزلي من «أنّ الأرثوذكس كانوا في معظم الأحيان تابعين لآخرين». وكان ردٌّ على الفرزلي من بعض الشخصيات الأرثوذكسية المحسوبة على البطريركية. هناك سباق بين الأطراف الأرثوذكسية على مَنْ يُعلِن أولاً «بيان الاستقلال الأرثوذكسي». ردّ وردّ مقابل وحراك بين ظهراني الأرثوذكس.
السؤال الأهم يوجَّه للحزب السوري القومي. بين التحوُّل الطائفي للأرثوذكس الذي سيكون الحزب أولى ضحاياه، وبين تعديل خطابه وبُنيته، ماذا سيَختار الحزب القومي؟ هل سيتمكّن الحزب من احتواء التطورات بحنكة، كما اعتاد الأرثوذكس تاريخياً «الفصل بين المسارات»؟ ماذا عن جريدة النهار، جريدة الجمهورية، تلفزيون المر، عصام أبو جمرا، نجاح واكيم، فريد مكاري، البلمند، الكهنة المتنوّرين مثل الأب جورج مسّوح، البطريركية ...؟ أم يُفاجئنا الأرثوذكس بقادة غير متوقَّعين؟
يبقى أن نتساءل عن الدور الروسي، إذ يَلعب فلاديمير بوتين ورقة الكنيسة الأرثوذكسية هناك. لقد سَبق زيارةَ بطريرك موسكو وسائر روسيا (المعروف بصلاته الوثيقة مع القيادة) البطريرك كيريل إلى سوريا، تقريرٌ للخارجية الأميركية أشار إلى تأثير متزايد للكنيسة الأرثوذكسية في الحياة السياسية الروسية.
هل يكون تمويل الأرثوذكسية السياسية روسياً؟ يقول المطران جورج خضر إنّ الأرثوذكس في بلادنا يحنّون إلى روسيا (وهي التي ضَغطت للاعتراف بالكورة منطقة أرثوذكسية في متصرفية جبل لبنان). القانون الأرثوذكسي لن يمرّ لأسباب عديدة، ولكن في انتخابات 2013 سنكون شهوداً على ولادة «شارع أرثوذكسي» و«رأي عام أرثوذكسي». لن يُجدي تذكيرُهم بأنّهم طائفة علمانية. هل سيَندم الأرثوذكس على هذه المغامرة؟ ملاحظة بانتظار وضْع عبارة «أرثوذكس» السياسية تحت المحو: الكتابات التي تصف حال الأرثوذكس في لبنان نادرة، كما لو أنّهم طائفة غير مرئيّة. ليس بعد الآن؟
* صحافي لبناني