يرصد المؤرخ البريطاني نورمان دايفيس ما لا يقل عن اثني عشر تعريفاً أكاديمياً للغرب، يرى أنّها لا تشترك في ما بينها إلا بما يسميه «الجغرافيا المطاطة»، التي توصل في النهاية إلى دعم السياق الذي يطرحه صاحب كل تعريف منها. وبالاعتماد على «الجغرافيا المطاطة» تلك، كان بوسع حركة الاستشراق الأوروبي أن تصنف المنطقة العربية كجزء من الشرق «المتخلف / الميتافيزيقي» في مواجهة الغرب «المتحضّر / المادي ــ العلمي». وكما وجدت الثقافة الغربية أنّها اكتسبت «المزيد من القوة والهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق» (وفق إدوار سعيد في «الاستشراق» )، كان طبيعياً بالنسبة إلى العرب أن يقبلوا التموضع في موقع الشرق كرد فعل دفاعي في مواجهة الغرب المعتدي والمستعمر. هكذا جرى العمل على تحقير واختزال مضامين الثقافة الغربية المعاصرة في موازاة العمل على استنباش التراث العربي، بحثاً عن كل ما قد يساعد على مواجهة القيم الغربية وعلى وضع العرب في موضع النقيض للغرب. وقد ترتب على ذلك نشوء مجموعة من الإشكاليات التي لا تزال حاضرة في الفكر العربي المعاصر، والتي انطلقت من هذا التناقض المفترض بين شرقية العرب وثقافتهم، والغرب المعاصر وثقافته. وضع بالتالي التراث العربي في مواجهة الحداثة الغربية، ووضعت الأصالة العربية في مواجهة المعاصرة ولتضاف لاحقاً (بعد انهيار الاتحاد السوفياتي) خصوصية الثقافة العربية في مواجهة العولمة.

وقد توّزعت المواقف من تلك الإشكاليات بين من يريد تأبيد الأصالة والتراث والخصوصية، ومن يريد إهمالها لإحلال نقائضها محلها، وموقف ثالث توفيقي يدعو إلى انتقاء الأفضل من كل من هذه المتناقضات. غير أنّ هذه الإشكاليات، كما سيتبيّن في ما يلي، هي اشكاليات وهمية مصطنعة، ومصابة بعطب داخلي، وهي ألهت الفكر العربي عن بحث قضاياه الحقيقية.
فالتسليم بالطرح الاستشراقي الذي يصنف العرب كشعوب شرقية إنما يجسد خضوعاً لنظرة استعلائية تفترض أنّ التاريخ بدأ مع الغرب المعاصر. وقد بدأ الغرب نفسه بالتراجع عن تلك النظرة، إذ إنّ إخضاع مسألة الشرق والغرب لدراسة علمية متجردة يضعها في سياقها التاريخي المتكامل، الذي يوصل إلى أنّ الحضارات التي ازدهرت في ما يسمى اليوم الشرق الأوسط (1) هي حضارات غربية أدّت دور القطب الغربي للعالم لآلاف السنين، في مقابل القطب الصيني في الشرق. ويصبح الغرب المعاصر، وفق هذه النظرة الحديثة، وريثاً مؤقتاً لحضارات الرافدين ومصر والحضارة العربية، تماماً كما ورثت روما هذا الدور مؤقتاً في الماضي، قبل أن تعيد تسليم الشعلة للعرب.
ومن ناحية ثانية، فقد بات معروفاً بأنّ منابع الميتافيزيقا الإغريقية كانت في مصر وبلاد الرافدين، وأنّ العرب هم من حفظ الفلسفة اليونانية وأعاد إنتاجها، وهم من عرّفوا أوروبا العصور الوسطى الغارقة في مثاليتها الأفلاطونية على مادية أرسطو. أما الإسلام، فهو ديانة سماوية (بالمعنى الغربي)، تدعو إلى التوحيد، لا ديانة شرقية تؤمن بتعدد الآلهة أو بزمن يسير في دورات متتابعة. وهو يعنى بالواقع المادي للحياة البشرية بصورة غير مألوفة في المسيحية، وكانت صادمة لسبينوزا، الذي رأى أنّ القرآن أكثر مادية من أن يكون كتاباً مقدساً. ورغم أنّ العرب قد تعرفوا على الفلسفة الشرقية خلال فترة الترجمة العباسية، إلا أنّ تأثير هذه الفلسفة بقي محصوراً ضمن أقليات محددة، ولم يستطع أن يضاهي التأثيرات اليونانية واليهودية ــ المسيحية المستمرة إلى اليوم في الثقافة العربية. وإذا كانت أوروبا قد حققت نهضتها عبر إعادة إنتاج الفكر العربي، فإنّ على العرب اليوم أن يتهيأوا لأن يستردوا إرثهم، ويعيدوا إنتاج الفكر الغربي المعاصر بما يتناسب مع الواقع والزمان الراهنين.
هكذا يتبدد وهم تناقض الثقافة والتراث العربيين مع ثقافة وتراث الغرب المعاصر، ويظهر تهافت ما بني على هذا الوهم من إشكاليات. فالإشكاليات لا تتحقق اذا غاب التناقض بين عناصرها.
لقد تخلفت الثقافة العربية عن مواكبة العصر ليس لأنّها ثقافة شرقية تتناقض جينياً مع الحداثة والمعاصرة (فهي ليست كذلك)، بل بسبب ظروف الواقع المادي الذي تعيشه هذه الثقافة، منذ صدمة الاستعمار الأولى، متمثلاً بالدرجة الأولى في السيطرة الأجنبية التي تصادر القرار السياسي، وتنهب المقدرات الاقتصادية للعرب. ومن الطبيعي أن تجنح المجتمعات المهزومة واليائسة نحو الفكر المثالي، وأن تنزلق نحو الميتافيزيقية للهروب من مآسي واقعها المادي. والعرب لم يعرفوا من نتائج العلم الحديث سوى المنتجات الاستهلاكية، التي عززت النزعات الفردية والاستهلاكية في مجتمعاتهم غير المنتجة، مع ما يترتب على ذلك عادةً من كوارث.
إنّ الإشكاليات المذكورة بتجاهلها وقطعها لهذه العلاقة مع الواقع إنما تضع التراث والثقافة في قوالب سكونية جامدة تمنعها من التفاعل. وهي بالتالي مصابة بعطب بنيوي، يمنعها من أن تنتظم في جدلية حقيقية توصل إلى بناء (synthesis) يسمح بتجاوزها للانتقال إلى إشكاليات جديدة. وهذا ما يفسر بقاء هذه الإشكاليات موضوعاً للفكر العربي المعاصر طوال هذه المدة دون أن تقدم جديداً، بل على العكس من ذلك، كان ما أفرزته من مواقف توفيقية / انتقائية عبارة عن حالة فصامية أنتجت مشاهد أقل ما يقال فيها إنّها شيزوفرانية.
هكذا، أصبح بوسع الأنظمة العربية أن تمنع المرأة من قيادة السيارة في الوقت الذي تُسلم فيه موارد البلاد وخيراتها ويرتهن قرارها السياسي للغرب «الكافر» الذي ينبغي الحذر من تغلغل قيمه في المجتمع. وأصبح تعدد الزوجات الهم الأول لثوار ليبيا، فيما قوات الناتو تحتل البلد وشركات النفط الغربية تتقاسم ثرواته. وهكذا أيضاً تسمح المعارضة السورية لنفسها بأن تقرر أنّها ستقطع العلاقة مع إيران وسترفع علم إسرائيل في دمشق، قبل أن تقول كلمة واحدة عن برنامجها الإصلاحي الموعود.
ومن هنا، فإنّ افتراض القطيعة بين الثقافة العربية وواقعها المادي لا يبدو بريئاً. فهو استعمل للتعمية على واقع الانتهاكات الغربية من خلال فصل هذا الواقع عن الإشكاليات المفترضة، وحصر هذه الأخيرة في الثقافة والتراث. وبناءً عليه، فقد بات من الضروري رفض أي توظيف لهذه الإشكاليات المصطنعة وغير البريئة في الواقع العربي. فلم يعد مقبولاً أن يشرعن الاستبداد العربي عبر اختلاق معوق ثقافي مزيّف، يفترض أنّ العرب غير مستعدين للديموقراطية. ولم يعد مقبولاً أن يقمع أي إبداع أو اختلاف في الرأي أو مطالبة بحقوق بحجة التعارض مع الخصوصية الثقافية. وكذلك، لم يعد مقبولاً أن تشرع الأبواب أمام التوسع الاستخباري الغربي في البلاد العربية عبر منظمات ما يسمى المجتمع المدني، تحت شعار غربنة وتحديث الثقافة العربية. فهذه الأخيرة ليست بحاجة إلى الغربنة، وتحديثها لا يمكن أن يتأتى إلا من تغيير معطيات الواقع المادي الراهن. وإذا كان الغرب حريصاً حقاً على تقدم ورفاه الشعوب العربية، فليعفّ إذن عن موارد وخيرات هذه الشعوب، وهي ستكون بألف خير. وقد أثبتت الثقافة العربية رغم كل ما تقدم ورغم واقعها المرير أنّها بعكس ما يفترضه أصحاب هذه الإشكاليات، لا تزال حيّة وقادرة على التفاعل لتنتج ثورات ضد الاستبداد ومقاومات ضد الغطرسة والاحتلال.
إنّ شرقية الثقافة العربية وخصوصيتها وهمٌ كبير ينبغي تجاوزه، كما ينبغي تجاوز كل الإشكاليات التي تفترض وجود عطب وراثي في الثقافة والتراث العربيين. وعلى الفكر العربي أن ينتقل ليتصدى لمهمته الأصلية في مواجهة الأزمات العربية الحقيقية، المتمثلة بالدرجة الأولى في مواجهة العدوان والهيمنة الأجنبية، وفي استرداد موارد البلاد وقرارها السياسي. أما الثقافة العربية، فهي قادرة بما تكتنزه من تراث غني ومتنوّع على أن تجدد نفسها، ليس لتلحق بركاب العصر فحسب، بل أيضاً لتستعيد دورها الريادي الأصيل، فيما لو تحققت لها الشروط المادية
اللازمة.
(1) «الشرق الأوسط» مصطلح استعماري ظهر في 1902 على يد المؤرخ الأميركي ألفرد تاير ماهان، ولم ينتشر إلا على يد السير مارك سايكس المفاوض البريطاني في اتفاقية سايكس ــ بيكو الشهيرة.
* محامٍ لبناني