منذ سنوات، اكتشفت ــــ بالصدفة ــــ شريحة كاملة من السوق الرأسمالي العالمي لم أكن أعلم بوجودها من قبل. تجدها في عشرات الشركات التي تزدحم في وسط العاصمة الأميركية واشنطن، تقدّم نفسها على إنّها تجارية أو شركات"استشارات" و"علاقات عامة"، ويقوم عملها على حصد العمولات من "تسهيل" عمل الشركات الكبرى في دول الجنوب والشرق الأوسط، وكسب العقود والصفقات لصالحها. رغم الطبيعة التجارية لهذه الأنشطة، الّا أن أكثر هذه الشركات في واشنطن، وليست في نيويورك، وتجد بينها مؤسسات كثيرة تعمل في قطاع النفط مثلاً، ولكن مدراءها لا علاقة لهم بالسوق النفطية أو الهندسة، بل جلّهم دبلوماسيون متقاعدون عملوا في بلادنا، أو موظفون سابقون في شركات عالمية، أو أناسٌ قضوا حياةً في الجيش الأميركي والمخابرات والجاسوسية. شرح لي أحدهم، حين طلبت أن أفهم ماذا تنتج هذه المؤسسات فعلياً، وكيف يربحون، أنّهم، ببساطة، "يصلون الناس ببعض": "هناك في اميركا شركة تريد بيع الحديد الخردة"، قال لي، "وفي الإمارات شركة أو مصلحة حكومية تريد شراء حديد، تصلهم ببعض وتحصل على ثلاثة في المئة من قيمة البيع، وقد تنال نسبةً عن كلّ صفقة مستقبلية تنتج عن مشروعٍ توسّطت فيه". هؤلاء الوسطاء، اذاً، هم أكثر من يربح من بين جميع الأطراف، فهم لا يؤدون عملاً حقيقياً، ولا يتحمّلون مخاطرة، وينالون عمولتهم (أو أتعابهم) سواء ربح المشروع أم خسر.
هنا، أنت لا تحتاج الى ذكاءٍ استثنائي حتّى تفهم أنّ هذه المصالح، وهذه المبالغ الكبيرة، لا تُدفع لمحض خدمة "تواصلٍ اجتماعي" (على طريقة "فايسبوك") بل هي، غالباً، غطاء للفساد، وشراء الواسطة، والرشوة ــــ والرشوة تظلّ أبسط أشكال الفساد وأكثرها وضوحاً، وإن كانت الأكثر رواجاً في بلادنا؛ فـ"تبادل الخدمات"، في الغرب، هو النموذج السائد للفساد، وهو، بعكس الرشوة، ليس مالياً ومن الصعب تتبعه وإثبات وقوعه. من البديهي ايضاً أنّ خلف هذه "الواجهة المحترمة" ــــ مكاتب براقة في وسط العاصمة، مدراء يحملون ألقاب "سفير" و"جنرال" ــــ والصفقات الضخمة التي تعقد في العلن، يجب أن يكون هناك فردٌ ما، حلقةٌ ما، تقوم بـ"العمل القذر": تسليم المظروف المحشو بالمال الى المسؤول الحكومي، تحديد مقدار الرشوة مع الوزير، تنسيق دفع هذه الأموال، الخ… على ما يبدو، تمكّنت "هافينغتون بوست" و"فيرفاكس ميديا" من الحصول على كمٍّ هائلٍ من الرسائل الإلكترونية يوثّق، على مدى سنوات، عمل شركةٍ (اسمها "يونا أويل") تختصّ بعقد صفقات الفساد والرشاوى في قطاع النفط، وتدفع عشرات ملايين الدولارات الى مسؤولين حكوميين و"وسطاء" حول العالم، مقابل ضمان عقودٍ بالمليارات لصالح شركات نفطية عالمية، وتحصد في المقابل "عمولة" على هذه المشاريع.

التحقيق يُنشر على ثلاثة أجزاء، وقد صدر جزءان بالفعل، وفيهما نجد حالات فسادٍ تغطي أكثر الدول النفطية في الشرق الأوسط ووسط آسيا: "شراء" مسؤول رفيع في النظام الليبي السابق، اختلاق شراكة تجارية مع موظف في مكتب محمد بن زايد آل نهيان ورشاوى بالملايين في أبو ظبي، فساد في الكويت وأذربيجان وكازاخستان، ومبالغ تُدفع لوسطاء في سوريا وايران. غير أنّ أيّاً من هذه الملفات ــــ أو كلها مجتمعة ــــ تعتبر نافلة أمام الملفّ العراقي وما احتوته الوثائق عن البلد، بأي معيار: حجم الفساد، وانتشاره وفجاجته، ومستوى الشخصيات المتورطة به. في عراق الاحتلال الأميركي، لم تكتفِ "يونا أويل" بدفع رشوة مقابل عقدٍ معيّن، أو "شراء" مسؤول ــــ أو عشرة ــــ بل أقامت شبكة كاملةً من علاقات الفساد، من قمّة وزارة النفط الى المراتب الوسطى في شركة نفط الجنوب، حتى تفاخر مديرٌ في الشركة، في رسالة الكترونية عام 2011، بأنه يقترب من تطويع "كامل الهرم" في الإدارة العراقية والسيطرة على الوزارة بكلّ مراتبها.
كانت الشركة تدفع الرشاوي لموظّفين يصيرون بعد سنوات مدراء ومسؤولين (عام 2008، أرسل مدير العمليات في العراق رسالة الى أحد مالكي الشركة، حين علم بأن كفاح نعمان، وهو موظّفٌ كانت "اونا أويل" تشتري له الهدايا والثياب منذ عام 2006، سيعين مديراً عاماً لشركة نفط الجنوب، مبلغاً اياه أنه سيفتح أنخاباً احتفالاً بالخبر)، وأحدهم فكر بالترشح لمجلس البصرة، وساهمت "يونا اويل" في تمويل حملته، وقد وعدهم بمستقبلٍ باهر لو نجحت خطة انفصال الجنوب العراقي وتحويله الى إقليم. حتّى نفهم كمية المال الفاسد الذي تدفّق على النخب العراقية بعد الإحتلال، يكفي أن نذكر أن مديراً آخر من "زبائن" يونا أويل كان "ثمنه" عام 2008 راتبٌ شهري بقيمة ستة آلاف دولار (يأخذ منها خمسة، ويوزع ألفاً على من حوله) أصبح، عام 2010، يستطلع شراء منزلٍ في تشيلسي ــــ أحد أفخم الأحياء اللندنية.
لا داعي هنا لشرح كلفة هذا الفساد، والمقابل الذي قدّمه هؤلاء المسؤولون من جيوب الشعب العراقي وثروته: في احدى الرسائل الالكترونية، مثلاً، يشرح مدير "يونا أويل" في العراق أن المسؤول المرتشي يبلغهم بأن يسمّوا أي كلفة يشاؤون في عقد لشراء محركات سيهبه لـ "رولس رويس" ("الكلفة ليست مهمة" قال المسؤول الفاسد، وبحساب "يونا أويل" سيزيد الربح الصافي على مليوني دولار لكل وحدة تبيعها رولس رويس)؛ لهذه الأسباب، توضح رسالة من "يونا أويل" أنّ الرشاوى، ولو كانت بعشرات ملايين الدولارات، تستردّها الشركة مئة ضعف. الرشاوى التي كشفت عنها الوثائق لم تطل وزيراً عراقياً واحداً، بل اثنين ثبت تورّطهما في تلقّي الدفعات (ليس أقاربهما، ليس مديرا مكتبهما، هما شخصياً) وضمان العقود للشركات العالمية، هما حسين الشهرستاني وخلفه عبد الكريم لعيبي. وقد قبض الشهرستاني مثلاً، لقاء صفقة واحدة لبناء أنبوب نفط، 16 مليون دولار من وسيط "يونا أويل".
هذه الفضيحة ما هي الّا أمثولة جديدة عن الإحتلال وما يخلّف، وما يُقال منذ سنوات عن أزمة النظام العراقي، منذ تأسيسه المشؤوم تحت نير الغزو، واستحالة إصلاحه. الشهرستاني كان "الفتى الذهبي" لمؤسسة الإحتلال، وقد استخدم اسمه لتشريع النظام، حيث تمّ تقديمه على أنّه البروفيسور النزيه، الذي سجنه صدّام وظلمه، والوجهٌ المشرق لـ"العراق الجديد" الذي أرادوه (وهو، بالمناسبة، من أقرب السياسيين العراقيين الى المرجعية وينتمي الى عائلة نخبوية ثرية). فتبيّن اليوم بالدليل انّه كان، كأغلب نظرائه في النظام الفاسد، يملأ جيوبه بالمال الحرام، فيما الشعب العراقي لا ينال من "المواطنة" والثروة الا الحرب والموت والمغالبة (يتبع).