تجاوزنا منذ أيام العام من عمر الثورة السورية، ورغم طول المدة إلا أنّ هناك ثورات امتدت سنتين أو ثلاث سنوات، لكن نأمل أن تنتصر سريعاً. وما يلفت في الثورة السورية هو البطولة التي يتسم بها هؤلاء الفقراء الذين يدافعون عن عيشهم، وطالبو الحرية الذين يريدون هدم الاستبداد. لكن يبدو أنّنا مطالبون بشرح مبسّط للمبتدئين في فهم الثورات، بعدما سيطرت السطحية، وتاه البعض في أوهامه الأيديولوجية، أو سوء فهمه للوضع، فبدأ يقارن ما يجري على نحو هلامي بما يعرفه عن معنى الثورات، أو بصيغة أيديولوجية حفظها، أو انحكم لمرض عضال اسمه «الإمبريالية».بدايةً، يجب القول إنّ سوريا في 2011، هي ليست سوريا في 1970 أو 1980، أو حتى 1990. لقد تغيّرت كثيراً، إلا من مسألة واحدة هي طبيعة السلطة الاستبدادية الشمولية. فقد نُهب «القطاع العام» إلى حد الإفلاس، وتلاشت «الحقوق» التي حصل عليها العمال والموظفون والطلاب وكل الفئات الاجتماعية، وانتهى دور الدولة في الاستثمار وتطوير البنى التحتية وضمان التعليم والصحة. كذلك، سيطرت فئة مارست النهب المنظم طيلة عقود ثلاثة (1970 ــ 2000). فئة فرضت اللبرلة (2000 ــ 2007)، وهيمنت على نسبة كبيرة من الاقتصاد، وخصوصاً بعدما فرضت «سيطرتها» على الرأسمالية التقليدية من خلال شركة خاصة. وأصبحت تبحث عن أفق الترابط مع الرأسمالية الإمبريالية، بدأ عبر الرأسمال الخليجي، وكذلك عن توافق مع «الإمبريالية».
وإذا كان الاستبداد الطويل يؤسس الوعي بضرورة الديموقراطية لدى فئات مجتمعية، ويُشعر المجتمع بضرورة الحرية، فقد أصبح الوضع أكثر تعقيداً بعدئذ، نتيجة الإفقار العام الذي نتج عن البطالة العالية والأجر المتدني، وخصوصاً بعدما أصبحت الأسعار عالمية بفعل الانفتاح الاقتصادي.
ورغم الحديث عن «الإصلاح والتطوير» الذي بدأ في 2000، لم يتحقق شيء على صعيد بنية السلطة الشمولية، وظلت الوعود تتكرر دون أن يحدث ما يشير إلى تقدم ما. ما تحقق، كما أشرنا، هو انتصار الليبرالية على نحو كامل. الأمر الذي أضاف كتلاً بشرية كبيرة متأزمة ومحتقنة لأنّها لم تعد تستطيع العيش أو العلاج أو تعليم أبنائها.
وهذا الأمر يشير إلى تكلس بنية السلطة، وتأكد عدم إمكان إصلاحها. على العكس، فإنّ التحوّل الاقتصادي الليبرالي وهيمنة «رجال الأعمال الجدد» كان يفرض استمرار السلطة الاستبدادية الشمولية، لا التخلي عنها، إذ إنّ «النمط الاقتصادي» الذي فرضه هؤلاء، ذو طابع احتكاري مافياوي، وبالتالي يريد سلطة عنفية من أجل ضمان احتكاره، وقمع كل إمكان للقيام بالاحتجاج. ولهذا لم يكن الإصلاح سوى «خطاب إعلامي» يغطي استمرار السيطرة الشمولية على المجتمع. ولا يزال الأمر كذلك، بعدما أصبح واضحاً أنّ الإفقار عمّ المجتمع، وأنّ الثروة باتت محتكرة لفئة ضئيلة.
كان انتصار الليبرالية واحتكار «الفئة الجديدة» يدفع على نحو طبيعي للتكيّف مع الطغم الإمبريالية (وبالتالي مع الدول الإمبريالية)، وذلك ما كان واضحاً منذ ما بعد احتلال العراق في 2003، لكن المنطق الأميركي في السيطرة كان يؤسس لاختلاف كبير. السلطة كانت تتوهم أنّها أقامت علاقة وثيقة مع أميركا، بعدما خضعت لشروط كولن باول، وأميركا كانت تعدّ لتغيير هذه السلطة انطلاقاً من رؤيتها «الجديدة» القائمة على تكوين نظم طوائفية. إذن، كانت الرأسمالية الجديدة تعتقد بأنّها قادرة على التفاهم مع أميركا، بينما كانت تلك في سياق مشروع آخر يفترض تغيير السلطة في سوريا. اتّضح ذلك الأمر في مسألة اغتيال رفيق الحريري، ومحاولة الاستفادة منها للقيام بانقلاب داخلي، كان مصيره الفشل (بمساعدة تركيا كما أشار داوود أوغلو، وساركوزي حين كان وزيراً للداخلية، الذي بدأ عهده كرئيس بتبني السلطة السورية).
هذا الأمر فرض على السلطة أن توّثق علاقتها بإيران (عقد التحالف الاستراتيجي في هذا الوقت، لا قبل ذلك)، وتركيا التي أصبحت حليفاً استراتيجياً، وروسيا عبر نقل النشاط الاقتصادي للفئة المسيطرة إلى هناك. وبالتالي، أصبحت السلطة في تشابك مع إمبريالية أخرى. وهذا الوضع هو الذي يعطيها ميزة الآن. فقد حمت ذاتها بالتنازل لكل من إيران وتركيا وروسيا، وربط مصالحها الاقتصادية معها. وكان ذلك يتوافق مع انتصار الليبرالية محلياً، ويؤسس لتشابكها مع السوق الرأسمالي خارجياً، ككل العلاقات بين رأسمالية محلية والإمبريالية (وهنا يجب ألا ننسى أنّ روسيا الآن هي ليست الاتحاد السوفياتي، بل هي دولة إمبريالية). ولقد حاولت أميركا بعد تسلّم أوباما إعادة العلاقة، لكن كان الوضع قد استقر على «تحالف» سوري مع إيران، تركيا وروسيا. ومن هذا الموقع «المتناقض» مع أميركا استمرت السلطة في دعمها لحزب الله، ودعمت حركة حماس. بدأ الحراك من قبل شباب يطمح إلى الحرية بالتخلص من سلطة استبدادية شمولية، بعضهم ديموقراطي الاتجاه، وبعضهم يساري الاتجاه، لكنّ العديدين منهم كانوا يطمحون فعلاً إلى الحرية دون أن يكون لهم خلفية فكرية أو سياسية، بل يريدون أن يحسّوا بأنّهم مواطنون لهم دور وفاعلية. ولهذا بدأوا في الرد على خطاب السلطة «الشخصاني»، فبدل شعار «الله، سوريا، بشار، وبس» صار «الله، سوريا، حرية، وبس». وأمام الإذلال الطويل جاء: «الشعب السوري ما بينذل».
لكن درعا فتحت على بدء انفجار الاحتقان الاجتماعي (الطبقي والسياسي) الذي تراكم عقوداً، وتوّسع في الريف الذي عانى انهياراً نتيجة سياسة اللبرلة، وكذلك المدن المهمشة، وبات يعم كل سوريا تقريباً. وإذا كان الوضع لا يسمح بتحديد أعداد المشاركين، فإنّ الإشارة إلى أنّ نسبة البطالة هي 30% تقريباً من القوى العاملة، وخصوصاً بين الشباب، وأنّ الحد الأدنى للأجور هو أقل من ثلث ما هو ضروري (هذا قبل انهيار الليرة)، وأنّ الريف قد عانى انهياراً زراعياً كبيراً، توضح أنّ نسبة المتضررين اقتصادياً هم كتلة هائلة (المجموع هو قريب من 80% من الشعب)، هي بالتأكيد ليست مع السلطة.
خلال أول تظاهرة في سوق الحميدية، اعتُقل بعض من شارك فيها، لكنّ المحتجين في درعا يوم 18 آذار 2011، الذين طالبوا بمطالب محلية، منها الإفراج عن أطفال معتقلين، وكف يد الأمن عن النشاط الاقتصادي لكونهم في «أراضٍ حدودية»، وُوجهوا منذ اللحظة الأولى بالرصاص. وهو الأمر الذي أوضح السياسة العامة التي تريدها السلطة، التي قررت المواجهة العنيفة، من اللحظة الأولى، خوفاً من انفلات الشارع والسيطرة على الساحات، لأنّها تعرف ماذا فعلت بهذا الشعب. بمعنى أنّ القرار الأول لديها كان استخدام السلاح. ولذلك احتاجت إلى «مبرر» يغطي هذا العنف، الأمر الذي أفضى إلى كتابة سيناريو المجموعات المسلحة السلفية، أو الإخوان المسلمين، ثم تشكيل الإمارات السلفية لتبرير اقتحام المدن، ثم وجود طرف ثالث لتبرير القتل والقنّاصة. وبدأ تضخيم دور الأصولية (أو على الأصح اختراع دور للأصولية والإخوان)، وأصبحت مهمة الإعلام الرسمي تلفيق كل ما يخدم هذه «الصورة المفترضة» للثورة. أما «المؤامرة الإمبريالية»، فقد جرى اللعب على وتر تموضع السلطة في المحاور العالمية، واستغلال الموقف ضد الإمبريالية، من أجل تعميم ما يجري وكأنّه مؤامرة إمبريالية، رغم الموقف الأميركي المتردد منذ البدء، والصهيوني الذي يميل إلى عدم سقوط السلطة، وأيضاً التعلّق بتصريحات ومواقف عابرة، رغم أنّ الحدث السوري يفرض أن تدلي كلّ الدول الإمبريالية وغيرها برأي فيه. ومن الطبيعي أن يكون لهذه الدول مواقف، المهم ما الذي يجري في الشارع، ولماذا ثار الناس. فأول أبجديات فهم الثورات هو هذا.
أخيراً من يُرد أن يجد الأعذار في رفض الثورة، فسوف يقع على الكثير من الأخطاء والخطايا في الحراك، وخصوصاً من المعارضة التي كانت أهم عون في تأخير سقوط السلطة كل هذا العام، لكن من هو مع الشعب المضطهَد لا بد له من أن يكون مع الثورة، ومن ثم أن يفضح كل الأخطاء، ويسقط من يريد، ويتهم كل من يميل إلى الدعم الإمبريالي أو يتحدث بمنطق طائفي، أو يخطئ في التكتيك أو الشعار.
* كاتب عربي