يكثر الحديث هذه الأيام في العراق عن مصطلح "الكتلة التاريخية" مباشرة أو بشكل غير مباشر في محاولة لا تخلو من التوظيف الذرائعي السياسي والأيديولوجي القشري لترويج تحالف أو ائتلاف على صعيد الشارع والكواليس السياسية بين أطراف سياسية عراقية. هذه الأطراف بعضها له ثقله الجماهيري ومتورط أصلاً في تأسيس وإدارة نظام المحاصصة الطائفية الذي جاء به الاحتلال ومثاله "التيار الصدري"، وبعضها الآخر هامشي رغم قدمه في التاريخ السياسي العراقي ومثاله "الحزب الشيوعي العراقي/ اللجنة المركزية". وهذا الطرف، متورطة قيادته الحالية هي الأخرى في ما تورط به الطرف الأول، مع أنها لم تتشرف بما تشرف به التيار الصدري من مقاومة مسلحة للاحتلال الأميركي في سنواته الأولى بل ارتضت أن تقوم بدور وظيفي سياسي وتنظيمي ضمن أجهزة ومؤسسات أنشأها الاحتلال بدءاً من مجلس الحكم ومروراً بالحكومات التي نشأت عنه أو تلته.وبما أننا لسنا بإزاء نصوص وكتابات موثقة ورصينة حول الموضوع، بل أمام نثر هائم ومشتت عبرت عنه قصاصات ومنشورات متفرقة على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الصحف التي نقلت إحداها تفاصيل ندوة حوارية عن الموضوع، فلن يكون بإمكاننا تقديم رصد تحليلي منهجي شامل، معزز بالاقتباسات والقرائن، لذلك سنسعى للتركيز على جوهر ومعاني وسياقات هذا المفهوم والمصطلح لنقرأ نقدياً وإن بشكل غير مباشر سطحية وخواء ما قيل وكتب في هذا الصدد.
لقد حلت محل المعالجات العلمية لمفهوم وفكرة ومصطلح "الكتلة التاريخية" كتابات خفيفة واستعراضية ذات مذاق "بروباغاندي" على مواقع التواصل والصحافة الإلكترونية لترويج فكرة التحالف بين تيار من "الإسلام السياسي الشيعي" في العراق (التيار الصدري) وبين من يطلقون على أنفسهم اسم "التيار المدني". رغم أن أحد رموز هذا الأخير وأكثرهم فطنة كما يبدو – السيد جاسم الحلفي- نفى مؤخرا وجود تحالف سياسي "من النوع المألوف" بين التيارين، وقد نظم التيار لندوات وحوارات حول موضوع "الكتلة التاريخية" سنتوقف عنها في موضع آخر من هذا النص كما سنستعرض نقدياً وتحليلياً دراسة أكاديمية قدمت لنيل الماجستير سنة 2004 للباحث العراقي حيدر علي محمد، وسنعرج خلالها على نصوص أخرى ذات صلة وردت في كتاب "غرامشي والمجتمع المدني" الذي يحوي نصوصاً قدمت لندوة نظمها مركز البحوث في القاهرة.
لنبدأ أولاً بمحاولة لرصد وعرض أفكار غرامشي من زاوية أكاديمية، قام بها الباحث العراقي حيدر علي محمد، ضمن دراسة بعنوان "إشكالية المثقف عند غرامشي". والواقع، ورغم ما يبدو في الظاهر، من أن هذه الدراسة لا علاقة لها بما نحن فيه، فهي رغم حجمها وإسهابها لا تفرد لموضوع الكتلة التاريخية إلا حيزاً يناسب وزنها وموضعها النظري في مجمل فكر غرامشي. وحسناً فعل الباحث حين أعاد هذا الموضوع الى سياقه الحقيقي وهو سياق بناء الهيمنة الثقافية المضادة، ولهذا يمكن اعتبار هذا الجهد العلمي أكثر أمانة ورصانة وعمقاً إضافة إلى أنه يحيط بموضوعة إحاطة دقيقة ونقدية وتعريفية كان ينبغي أن تكون لها مكانتها المرموقة في المكتبة العربية لولا عدم انتشار الكاتب العراقي وكتاباته عربيا لأسباب خارجية ليس هذا موضع التفصيل فيها.
إن دور «المثقف الثوري» هو في إيجاد ثُغَر في الكتلة السائدة

يعيد الباحث الاعتبار والنسق والتناسق لمفهوم الكتلة التاريخية الغرامشوي حين يخرجه من دائرة التحالفات والمناورات السياسية البحتة، التي أشار باحث آخر هو عصام فوزي، إلى أنها دائرة أخرى اشتغل عليها لينين وليس غرامشي وما قام به هذا الأخير هو انه جردها من المفاهيم اللينينية والماركسية والهيغلية وأطلقها في فضائها الثقافي وتعبيراته الأيديولوجية والأخلاقية، وأدخلها في سياق ودائرة بناء الهيمنة الثقافية والأيديولوجية والأخلاقية المضادة لهيمنة الطبقات السائدة. ورغم الفرق الكبير بين نظرة الباحثين – علي وفوزي - إلى ما فعله غرامشي في هذا الصدد، فعلي يستعمل تعبير "طهَّر المفهوم من المفاهيم اللينينية"، وفوزي يستعمل تعبير "وسع مفهوم الهيمنة اللينيني من مجرد تصور لبناء التحالفات السياسية إلى اطار أوسع للهيمنة السياسية والأيديولوجية والاخلاقية". ولكن الجوهر واحد كما اعتقد، لأنه يركز على الفصل النوعي بين المفهومين الغرامشوي واللينيني وبين المصادرات الشعبوية المعاصرة والتي تحاول ضخ هذا المفهوم بالكثير من الألاعيب السياسية التلفيقية والذرائعية والانتهازية البحتة.
يرصد الباحث حيدر علي محمد مفهوم الكتلة التاريخية أو "الكتلة التاريخية الثورية" كما يسميها في بعض المواضع من رسالته العلمية، من خلال سياق الهيمنة الثقافية، وفيها يسجل ويحلل تركيز غرامشي على "اهمية دور المثقفين الحاسم في تحقيق اللحمة الفكرية والثقافة الجديدة داخل الكتلة الثورية الجديدة"، حين يقول: يشير وعي الذات النقدي تاريخياً وسياسياً إلى بروز نخبوية من المثقفين. ليس بإمكان كتلة بشرية ان "تميز" نفسها وان تصبح مستقلة بإدارتها بدون ان تنظم نفسها.
ثم أن غرمشي يحيل هذا المفهوم عملياً إلى ميدان فردي، لا صفقاتي بين أحزاب وزعامات (مبتعداً به قدر الإمكان عن المفاهيم السلطوية والسياسية وبشكل خاص فيما يتعلق بمفهوم الهيمنة عند غرامشي هي حالة من "الانسجام الرضائي" تتم بين الأفراد في إطار الإرادة العامة)، أي داخل المشروع الثوري التغييري ذاته، وبين مكوناته. ويوضح علي ذلك بقوله: "كان غرامشي يرى أن الشرط المسبق والضروري لتحقيق هذه الوحدة للحلف الطبقي الثوري على صعيد الأيديولوجيا والثقافة الجديدة في اطار معركة تحرير الجماهير الشعبية، يجب ان يحدث موضوعية مطابقة، حيث يصبح الحزب الثوري أو الأمير الحديث (استعمل غرامشي تعبير الأمير الحديث، صفة للحزب الثوري، مستلهماً كما أرجح كتاب "الأمير" لميكافيللي) في علاقته العضوية مع المثقفين والجماهير والصيغة التاريخية والحامل الفعال ليس للوعي الطبقي فقط، وإنما ايضاً التصور الجديد المتكامل للعالم والحياة، أي لحضارة جديدة في كل مجالات الحياة".
لقد طرح غرامشي مفهوم الكتلة التاريخية في سياق ثقافي أيديولوجي أخلاقي محدد هو إطار ومهمة وممارسة بناء الهيمنة المضادة، وهذا ما نجح في توضيحه ورصده الباحث حيدر علي محمد مستعيناً ومشاركاً ما رصدته وحللته باحثة أخرى يُكثر من الاستشهاد بها هي د. أمينة رشيد. سأحاول أن أقدم الآن خلاصات ومقتبسات مبسطة وبقليل من التصرف اللغوي – على خطورة التبسيط التي أشرت إليها سلفاً – لما طرحه الباحثان علي ورشيد لهذا المفهوم (الكتلة التاريخية في سياق الهيمنة الثقافية المضادة ) تسهيلاً لفهمها واستيعابها من طرف القارئ، تاركاً مهمة المقارنة مع المصادرات المعاصرة للقارئ، ومكرراً أنني – هنا - لا أدافع عن "أصولية غرامشوية" ما، بل أسعى لفضح وتحليل وبيان تهافت المصادرات السياسيوية الحزبية المعاصرة التي سطت على هذا المفهوم محاولة توظيفه سياسوياً وفي غير مقاصده تماماً:
- الجانب الأول لتحقيق الهيمنة الثقافية المضادة يتطلب تكوين وكسب "مجموعة من المثقفين المستقلين"، وهذه المهمة تتطلب جهداً شاقاً، بين الافعال وردود الافعال، بين الانتماءات والتكوينات الجديدة الشديدة التركيب، خاصة أن هذا الفعل تقوم به مجموعة مندرجة في الهيمنة السائدة، بلا مبادرة تاريخية، وفي اصطدام دائم مع الفكر السائد والموضوعات السائدة....
- من هنا أصبح غرامشي يرى الصراع هيمنياً، إلا أن ذلك المفهوم ظل في حيّز الأطر العامة، برغم محوريته عند صاحبه، وظل معتَبراً فعالية خارجية تمكن ممارستها من دون عوائق كبيرة.
- الجانب الثاني يظهر ويتركز في ممارسة الهيمنة. تكتب د. أمنية رشيد أن "الهيمنة هي موقع الصراع الاجتماعي، فهناك طبقة سائدة تمارس الهيمنة عبر "المجتمع المدني" وهناك طبقة أو طبقات مسودة تحاول طليعتها الثورية أن تشكل هيمنة جديدة لها فكرها وأخلاقياتها وفعلها الجديد، ويحدث ذلك في داخل هذه التكوينة التي أطلق عليها غرامشي تسمية الكتلة التاريخية.
- في تحديده لأهمية الكتلة التاريخية يرجع غرامشي إلى مفهوم ماركس القائل "بصلابة الاعتقادات الشعبية" كعنصر أساسي لوضع محدد، فعندما يقوى مفهوم معين إلى درجة اكتسابه قوة القناعة الشعبية فهو يستطيع أن يتحول إلى عنصر فعال في موقع معين، فهذا التحليل حسب غرامشي يسند دور "الهيمنة" في الممارسة، في أنه يقوّي مفهوم "الكتلة التاريخية" حيث تكون فيها القوى المادية هي المضمون والأيديولوجيا هي الشكل.
- إن دور "المثقف الثوري"، هو في إيجاد ثغرات في الكتلة السائدة من أجل تكوين كتلة جديدة، بينما يعمل الفيلسوف الليبرالي على صياغة الكتلة بإعطائها الاتساق، كما فعل "نبدتو كروتشه" مثلاً، جاذباً لجزء أساسي من المثقفين الإيطاليين الجنوبيين القابلين للمواقف الجذرية في إطار جهده في تكوين "هيمنة ليبرالية".
- تقع مهمة غزو الهيمنة على عاتق الحزب السياسي "كالمثقف الجمعي" الذي يحلل قوى الفترة – التاريخية المعينة - من أجل تغيير الواقع. ان موقع الهيمنة هو الواقع المتناقض وإذا أراد المناضل أن يغير المجتمع ينبغي عليه أن يفهم أزماته على انها أزمات هيمنة في واقع متصارع (ص 208)، وما بعدها حسب نسخة الباحث، وص 200 حسب نسختي من كتاب "ندوة القاهرة: غرامشي وقضايا المجتمع المدني.
فأي علاقة يمكن أن تنعقد بين هذا التفكير الغرامشوي لبناء الكتلة التاريخية في سياق مهمة تفكيك هيمنة ثقافية سائدة وبناء هيمنة جديدة تغييرية طالعة، وبين ما سبق وأن تطرقنا له من أمثلة على مصادرات سياسية انتهازية لا قيمة علمية لها في نهاية المطاف؟
لمن سيحاول الإجابة، معرفة أي علاقة يمكن أن تنعقد بين هذا التفكير الغرامشوي لبناء الكتلة التاريخية في سياق مهمة تفكيك هيمنة ثقافية سائدة وبناء هيمنة جديدة تغييرية طالعة وبين ما يجري الترويج والتنظير له في العراق اليوم، سنعرض نقدياً بعض ما ورد في ندوة "فكرية حوارية" حول موضوع الكتلة التاريخية، أقامتها مؤسسة "مدى" الإعلامية التي يملكها ويديرها رجل أعمال وسياسي عراقي يرتبط بعلاقات قوية وعلنية بعدد من السفراء الأجانب وفي مقدمتهم السفير الأميركي. وكان – هذا الشخص – يشغل منصب "كبير المستشارين" لدى رئيس الجمهورية السابق جلال الطالباني.
الكاتب فارس كمال عمر نظمي، وهو أحد المثقفين العراقيين اليساريين القلائل الذين لم يتلطخوا – على حد علمي - بالعمل في أجهزة الاحتلال الثقافية سواء في "مجلس الإعمار" الذي شكله الجنرال الأميركي غارنر أو أجهزة خليفته الحاكم الأميركي للعراق المحتل بول بريمر من أمثال فالح عبد الجبار وعصام الخفاجي وآخرين، أدلى بمداخلة في هذه الندوة قال فيها إن "الحراك الحالي – تظاهرات أنصار التيار الصدري ويشارك فيها عشرات وربما مئات من وجوه وشخصيات ممن يطلقون على أنفسهم "التيار المدني"- الذي تشهده الساحة العراقية ينبئ بتشكيل ملامح "كتلة تاريخية اجتماعية مرنة" يمكنها فرض الإصلاح والتغيير، بعد أن أصبح فضاء السلطة مقتصراً على "الأسلاك الشائكة والسلاح" نتيجة "انسداد شرايينها وضيق أفقها". وعن محتوى هذه "الكتلة التاريخية الاجتماعية المرنة" وماهيتها قال نظمي: "الكتلة التاريخية الجديدة ليست ايديولوجية إنما اجتماعية مرنة لديها هدف كبير وواسع، هو إنقاذ البلاد من خلال أهداف فرعية متفق عليها، تتمثل بإصلاح السلطة والدولة، وإطلاق عملية تنمية حقيقية، ومحاربة الفساد، وإرساء مبادئ العدل الاجتماعي، وإعادة توزيع الثروة". وعبثاً نبحث عن معنى في هذا الكلام الفضفاض والغامض والذي لا يقول أي محمول عملي وعلمي محدد ودقيق، فهو في نهاية المطاف كلام عام وإنشائي وفقير مضمونياً، دع عنك أنه مناقض في الجوهر لمفهوم الكتلة التاريخية الثقافي الأيديولوجي عند غرامشي. إنه باختصار كلام يصعب قبوله من باحث أكاديمي عرف بكتاباته الرصينة أكاديمياً ومن حيث الشكل والصياغة على الأقل، وربما يكون لطبيعة المناسبة "ندوة حوارية إعلامية" دور في شكل ومضمون هذه المداخلة.
يزداد الغموض الممزوج بالحيرة حين نواصل الاستماع للباحث نظمي حين يضيف مؤكداً: "وجود إمكانية حقيقية لانتقال سلمي من العملية السياسية منتهية الصلاحية إلى وضع جديد تحركه كتلة تاريخية اجتماعية مرنة مفتوحة المديات وقابلة على استيعاب قوى جديدة باستمرار"، مستدركاً "لكن شروط قيام هذه الكتلة بحاجة إلى حوار مجتمعي واسع بين القوى المعني كلها بما فيها تلك الموجودة في السلطة بدون استثناء". فما هي ماهية وهوية تلك القوى الجديدة المطموح إلى محاورتها واستيعابها؟ وما هي تلك القوى القديمة التي تم استيعابها؟ وما معنى كتلة تاريخية مرنة واجتماعية ومفتوحة المديات؟ وهل يصدق وصف العملية السياسية الأميركية الطائفية بأنها "منتهية الصلاحية"، القول الذي يعني ضمناً أنها كانت نافذة الصلاحية –تتداخل مع معنى الصلاح والصحة لغة واصطلاحاً لفترة السنوات الثلاث عشرة الماضية؟ وهل صفات المشاركين في المظاهرات الصدرية كالقول إنهم من جماهير الفقراء والمحرومين والكادحين. (ينسى البعض أن حزب هتلر الذي فاز في الانتخابات وتسلم السلطة كان مؤلفاً وبنسبة مهمة من العمال "البروليتاريا النقية" والكادحين المصنفين ضمن البرجوازية الصغيرة الذين خدرتهم موجة حمى الدعاية العرقية النازية ومظلومية ألمانيا رغم "عظمتها" بعد الحرب العالمية الأولى)؟ هل هذه الصفات تعطي المشروعية الاجتماعية والعلمية لإطلاق تصور خاص لتطبيق عراقي خاص وعاجل للكتلة التاريخية المعهودة كما جرى حرف مضمونها الغرامشوي ومصادرة اسمها أو تلبيسه بقليل من البهارات اللفظية كالمرونة والاجتماعية والمديات المفتوحة؟
وإذا ما غادرنا مداخلة الباحث فراس نظمي واستمعنا إلى زميله علي العلاق من حزب الدعوة الإسلامية وائتلاف المالكي "دولة القانون" فسوف نكون كمن استبدل الرمضاء بالنار، فلن نجد أمامنا سواء خطاب حكومي لتمجيد الحاكم الأول، وتأكيد "جدية رئيس الحكومة، حيدر العبادي بعملية التغيير". أما ثالث المتحدثين في الندوة فهو المتحدث باسم حزب الحكيم "المجلس الأعلى"، النائب الشيخ حميد معله. وسوف يبشرنا أن "أحداً لا يجرؤ على الوقوف بوجه الإصلاح والتغيير، حتى إن لم يؤمن به، وأن الجميع ينبغي أن يسهم في تلك العملية، التي يجب أن تطال القوى القضائية والتشريعية والتنفيذية والنظام القائم". فهل تحتاج عبارة الشيخ هذه "لا أحد يجرؤ على الوقوف بوجه الإصلاح والتغيير، حتى إن لم يؤمن به" إلى ذكاء خاص لفهمها؟!
أما ممثل حزب الطالباني وزير الثقافة والسياحة فريد راوندوزي فسوف يختبر ذكاء المستمعين ويتلو عليهم اللغز اللفظي اللطيف التالي "المعالجة تكمن من خلال تحديد بعض النقاط المتمثلة بممارسة الإرادة السياسية القوية، يعني التفويض القوي ومغادرة الموروث القديم والتصرف بسرعة وقوة وذلك يتطلب أيضاً تأسيس المصداقية في وقت مبكر، لأن أي نظام جديد يأتي من دون تكرس المصداقية بسرعة لا يمكنه أن يستوعب زخم الجماهير".
وأخيراً نستمع إلى مداخلة حول موضوع الكتلة التاريخية من نائب سكرتير الحزب الشيوعي والوزير السابق في حكومة المالكي الأستاذ رائد فهمي قال فيها كل شيء ولكن لا شيء له علاقة بالكتلة التاريخية. لنقرأ ما قال: "اللحظة التاريخية جاءت من انطلاق الحراك الجماهيري الذي يريد التغيير بعد عجز البرلمان والحكومة على تحقيقه... إن الإصلاح ليس عملية إدارية أو تكنوقراطية بل عملية سياسية بامتياز، نحن بحاجة إلى خلق تركيبة سياسية لها مصلحة في تحقيق الإصلاح ومن ثم تجد لها تعابير أخرى، فهذا الاصطفاف السياسي لا يحدث فقط من الحوارات والمداولات وهي مطلوبة أيضاً، بل يأتي من خلال المواجهة المجتمعية بضمنه الحراك الجماهيري".

وهكذا فنحن أمام كلام عن إصلاح ما لا يمكن إصلاحه، ونعني نظام المحاصصة الطائفية الذي جاء به الاحتلال الأجنبي وبالتحاور والمشاركة مع رموز وقيادات هذا النظام تعكس قائمة المشاركين في الندوة طيفهم الرئيس.
لن نضيع وقتنا ووقت القارئ بمناقشة مداخلات ممثلي الأحزاب الحاكمة والوزراء والموظفين الآخرين فهي لا تخرج عن دائرة الإنشائي الحكومي المضجر الذي تضخه وسائل الإعلام الحكومية. ولكننا نختم دراستنا هذه بطرح هذه الباقة من الأسئلة التي تقدم إلقاء بعضها في الأسطر السالفة:
- أي معنى للكتلة التاريخية التي يروج لها الباحثون اليوم في العراق وسواه غير معنى سياسوي يبرر ويشرعن نظرياً لصفقات وتحالفات سياسية شعبوية باسم التغيير والإصلاح السياسيين؟
- ما العلاقة بين الكتلة التاريخية في مضمونها الفكري الأصلي الوارد في سياق بناء الهيمنة الثقافية المضادة لهيمنة طبقية سائدة وبين الكتلة التاريخية السياسوية؟
- بعيداً عن تصويب أو تخطئة استراتيجية التحالفات السياسة في تطبيقاتها المختلفة، هل يمكن أو يجوز بحثياً الاتكاء على مفاهيم نظرية، أطلقت في بدايات القرن الماضي وضمن سياقات ومخاضات صعود الفاشية والنازية، بعد انتزاع مضمونها الأصلي وضخها بمضامين ليس منها في شيء؟
- ما الدلالات الاجتماعية والسياسية لهذا السلوك في التوظيف السياسيوي للنظريات الثقافية والفلسفية خصوصاً في مجتمعات بمواصفات هشة وملتبسة طبقياً، تحكمها أنظمة استبدادية تابعة للغرب كمجتمعاتنا العربية؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير مما يمكن استنباطه من هذه الدراسة، تسمح لنا بالتفكير والتأمل في ماهيات ومآلات سائر النظريات العملية الاجتماعية والفلسفية والتاريخية والتي قد يكون من أمثلتها الأبرز مفهوم ونظرية "الكتلة التاريخية والهيمنة الثقافية" التي طورها وعمقها أنطونيو غرامشي.