ثارت ثائرة حزب الكتائب اللبنانيّة (الذي تلقّى أوّل دفعاته من الدعم المالي الانتخابي من إسرائيل قبل نحو عقدين من يوم اندلاع الحرب الأهليّة في 1975، خلافاً لرواية جوزف أبو خليل بأنّه استقلّ مركباً في البحر وتوجّه معتمداً على رؤية الدب الأكبر في سماء لبنان نحو فلسطين المحتلّة. وما إن حطّ رحاله على الشاطئ حتى وجد أمامه إسحق رابين على شمعون بيريز على سائر قادة العدوّ) في موضوع كتابة التاريخ اللبناني.
وحركة 14 آذار ثارت لأنّ الكتاب المُعدّ لم يتحدّث عن «ثورة الأرز»، وهم كذبوا في ذلك لأنّ اللجنة، على ما قرأنا، ذكرت ما جرى «يوم غضبت مملكة آل سعود» في 14 (شباط أو آذار) لكنّها تجنّبت استعمال مصطلح «ثورة الأرز» لأنّه مستورد. والاختلاف بين اللبنانيّين واللبنانيّات على رواية التاريخ لا ينحصر في رواية أو سرديّة الحرب الأهليّة اللبنانيّة. حزب الكتائب يريد أن يعتمد كتاب التاريخ اللبناني في المنهج الرسمي على روايتين متوازيتين، بسبب استحالة الاتفاق على رواية واحدة للحرب الأهليّة اللبنانيّة. لكن لحزب الكتائب من الوقاحة ما لديه من الارتباط بالمصالح الإسرائيليّة منذ الخمسينات (مع أنّ علاقة بعض قادة الحزب، مثل إلياس ربابي، بالحركة الصهيونيّة تعود إلى تاريخ مبكّر جدّاً). لكن الوسطي نجيب ميقاتي طمأن وفداً كتائبيّاً بأنّه طوى الموضوع. قرّر ميقاتي أن ينأى بنفسه عن كل ما يمكن أن يزعج 14 آذار ومن يرعاها.
طبعاً، يجوز من ناحية سياسيّة تجاهل غضبات حزب الكتائب وصيحاته واحتجاجاته (مَن يذكر «الأحرار» بعد؟ ماذا بقي من هذا التنظيم الشخصاني؟). الحزب الكتائبي غير مؤثّر. هذا الحزب فقد مبرّر وجوده وسرّ بقائه ومصدر شرّه. وجد للدفاع عن هيمنة طائفيّة في الدولة اللبنانيّة، ولإبقاء العنصر المسلم في النظام الطائفي في موقع دوني، ومن أجل محاربة كل مشاريع ربط لبنان بالدفاع عن الحق الفلسطيني والعربي. كما أنّه هدف إلى ربط لبنان بمصالح إسرائيل في المنطقة سرّاً (قبل 1975 مع أن الحزب تقدّم في كانون الاول 1967 من الحكومة اللبنانيّة بطلب التخلّي عن الالتزام بمقاطعة إسرائيل) وعلناً. لكن، ماذا يستطيع أن يفعل حزب الكتائب والقوات اليوم؟ كانوا في 1975 على أهبة الاستعداد للحرب والفتنة، بأمر من إسرائيل، وتمتّعوا من مقتنيات السلاح بما جادت عليهم به السعوديّة وإسرائيل وأميركا والجيش اللبناني _ الذي أمر سليمان فرنجيّة منذ 1973 بفتح خزائنه لهم. اليوم؟ كم يحتاج حزب الله من المقاتلين الأشدّاء لهزيمة هؤلاء جميعاً في مواجهة؟ عشرة؟ عشرين؟ وكم يحتاج من الوقت لإلحاق الهزيمة بجيش أكرم شهيّب في عاليه (كان من الطريف أنّ حركة 14 آذار عوّضت عن إذلالها في 7 أيّار عبر حبك روايات خياليّة عن بطولات معركة الجبل في 7 أيّار، وهناك من صدّقها بالفعل). هم جزء من مشروع حريري، والأخير جزء من مشروع سعودي. لكن موضوع كتاب التاريخ يشكّل محاولة للعودة إلى الواجهة من حزب يحتضر وهو يجهد في سعيه لقضية تعيد له وهجاً لن يعود له أبداً.
لكن يمكن كتابة التاريخ من وجهتيْ نظر، لا من وجهة واحدة. تستطيع أن تبدأ من الفينيقيّين. هنا، لا خلاف بين أطراف النزاع في لبنان: طرفا النزاع في لبنان يعتنقان ترّهات سعيد عقل عن الفينيقيّين (لا يُسأل سعيد عقل أبداً عن كفاءته أو اختصاصه كي يدلو بدلوه في أمور التاريخ القديم والحديث وفي موضوع أصل الإنسان). هنا، وجهة النظر تلك تروي خرافة «الحضارة الفينيقيّة». يقول سعيد عقل إنّ هناك ثلاث حضارات فقط في العالم، وإنّ الفينيقيّة هي واحدة منها (بالإضافة إلى اليونانيّة والرومانيّة). لا المصريّة ولا الصينيّة ولا الفارسيّة تدخل في حساباته. أما الحضارة العربيّة _ الإسلاميّة التي أمدّت الحضارة الأوروبيّة بما تحتاج إليه في نهضتها، فهي محط ازدراء عند داعي العنصريّة والكراهيّة الذي تبنّى الغزو الإسرائيلي في لبنان في 1982، وشكر أكثر من مرّة جيش العدو على اجتياحه. لكن، ماذا تقول في ملهم «أبو أرز» _ لا تخجل كارول صقر من الدفاع عن طريد العدالة والدها، ولا تخجل من إضفاء صفة الوطنيّة عليه، مع أنّ علاقته بالعدوّ واضحة في كتاب المؤرّخ الإسرائيلي، موردخاي نيسان، عنه. لكن، لمَ لا نقول للطلاب إنّ هناك حضارة واحدة في التاريخ البشري، وهي حضارة زحلة؟ أيمكن أن نقول لهم إنّ هناك حضارة آل سعود أيضاً، وهذا سيضمن طباعة فاخرة لكتاب التاريخ اللبناني (على غرار طباعة كتاب منير الحافي الذي كان يجب أن يُعنوَن «التملّق لآل سعود في لبنان»).
يمكن حشو عقول الطلاب بأكاذيب وأساطير عن عظمة الفينيقيّين والترويج لقصة «اختراع» الأبجديّة (يفتقر عقل جريدة «النهار» _ تلك الجريدة اليمينيّة المُحتضِرة عن جدارة، والتي لعبت دوراً كبيراً في زرع الثقافة الفينيقيّة الشوفينيّة العنصريّة والمتصاحبة دوماً مع الصهيونيّة _ إلى العلميّة، إذ إنّه يغرق في التعاطي مع الاكتشافات العلميّة على أنّها «اختراع» يحدث في لحظة في مختبر، من دون اعتبار التراكم الكمّي للإنجازات العلميّة). يمكن الاستمرار في الحديث عن الفينيقيّين وكأنّهم نسق تاريخي أوّلي عن الكيان اللبناني المسخ الجديد، ويمكن الزعم أنّهم شكّلوا إمبراطوريّة عالميّة. أما الأرجوان، فأصبح «اختراعه» _ وهو غير مثبت _ بمثابة مزج الحمّص بالطحينة، ويمكن إدراج هذا من جملة اختراعات فينيقيا. ويوسف السودا (وهو ليس مؤرّخاً) يفيد في هذا الصدد: «أثبت علماء اليوم أنّ مهد الحضارة والعلوم والمعارف هو فينيقيا، لا اليونان، وأنّ فينيقيا أحقّ بتلك الكرامة الجلّى التي لليونانيّة في العالم». («في سبيل لبنان»، ص 20). و«علماء اليوم»، في كتابات يوسف السودا وسعيد عقل، هم مثل الشهود في قناة «الجزيرة»، لا نعرف لهم اسماً أو هويّة. هكذا، بشطحة قلم، تزول الحضارة اليونانيّة (طبعاً، هناك كتب، مثل كتاب «أثينا السوداء» لمارتن برنال الذي ينتقد دراسات حضارة اليونان لأنّها أهملت إنتاج الحضارة الفرعونيّة). وجهة النظر تلك لا تريد حدوداً لمزاعم البطولة الفارغة في التاريخ اللبناني. جريدة «النهار» كتبت أكثر من مرّة عن أكاذيب حول وصول سفن فينيقيّة إلى الشاطئ الأميركي قبل كولومبوس. لكن «النهار»، حرصاً منها على الأمانة العلميّة لم تزعم يوماً أنّ السفن الفينيقيّة قد وصلت إلى القمر. ليس بعد.
في المقابل، هناك وجهة النظر العلميّة التاريخيّة التي لا تتحدّث البتّة عن «حضارة» فينيقيّة وعن «لبنانيّة» كيانهم التاريخيّة، إذ إنّ الفينيقيين _ وهذا يهين العنصريّة اللبنانيّة الزاهية _ وصلوا إلى فلسطين. لا تذكر كتب التاريخ اللبنانيّة جانباً مهماً عن الفينيقيّين: أنّهم لم يتركوا أي أثر مكتوب، وإن كان نعمة الله أبي نصر (غير العريق في العنصريّة والطائفيّة _ بنظره هو) يريد أن يخلّد الفينيقيّين بيوم خاص للأبجديّة. ماذا نفعل في هذا اليوم بغياب آثار مكتوبة من الفينيقيّين؟ هل نكذب ونقول إنّ ملاحم وصلتنا من إبداعهم (ومنها ملحمة يحيى جابر عن السيئ الذكر، رفيق الحريري)؟ أم نكتفي بعرض أوانٍ زجاجيّة نكتب عليها أناشيد عن سقم الوطنيّة اللبنانيّة؟ أم نعرض مسرحيّة فرقة كركلا عن الشيخ زايد، ونتحدث عن عراقة فن التملّق الفينيقي؟ يمكن ذلك. ويمكن مصارحة الطلاب بالكلام على صراعات المدن الفينيقيّة وعن أنّه ليس هناك دليل تاريخي على أنّهم رأوا في أنفسهم هويّة سياسيّة جامعة، فالصراع بين صور وصيدا يعكّر على سعيد عقل ترّهاته الجامعة. وهناك النظرة التاريخيّة عن الفينيقيّين عبر النظر إليهم على أنّهم: «مُحتقرون كنصّابين ومرائين وممّن لا يستحقون الثقة. كبائعين طمّاعين وكساعين وراء الربح دون وازع، يخطفون الضعفاء ويتاجرون بالبشر، وكعِرق من الناس فاسد أخلاقيّاً وشهواني ويعمد إلى دفع بناته لبيع أجسادهن، ويقتل أطفاله تكريماً للآلهة. وكلمة «جيزبيل» هي في الأصل اسم لأميرة من صور.» (راجع غلين ماركو، «الفينيقيّون: شعب من الماضي»، ص. 10) لكن هذه وجهة نظر التاريخ، لا الأيديولوجيا الفينيقيّة التي احتاج إليها مؤسّسو الكيان الأوائل كي يجمعوا الطائفة حول فكرة جامعة افتقرت إلى جذور وأسس. هي من ضرورات الطائفة _ الدولة، لغياب الدولة القوميّة (أو حتى الوطنيّة، مع أنّ أكل الأفاعي من قبل مغاوير الجيش يمكن أن يشكّل أساساً جامعاً لبنية الدولة الهزليّة).
أما الإبداع اللبناني في العصر الروماني فهو من اختراع مخيّلة سعيد عقل الشعريّة (ومن يشكّك بموهبة الأخير الشعريّة المميّزة؟). يصبح للبنان في وجهة النظر الأولى أوّل كليّة للحقوق في العالم (يريد لبنان أن يخضع تاريخه لمقاييس كتاب «غينيس» _ الذي شغل أولاد أميركا قبل ثلاثة عقود ويشغل عقول الكبار والصغار في بلد الأرز اليوم)، مع أنّها لم تكن الوحيدة. ويلخّص كتاب التاريخ اللبناني كلّ تاريخ المنطقة وحضارة ما بين النهرين والحضارة الفارسيّة ببقعة صغيرة من الأرض، صودف أنّها واقعة في حدود ما اقتطعه المستعمر الفرنسي الحنون (لا يجب الحديث عن الحضارة الفارسيّة أبداً، مخافة أن ينقطع التمويل السعودي عن حزب الكتائب والقوّات، بعدما انقطع التمويل عن وليد جنبلاط الذي كان يبشّر جيفري فيلتمان في «ويكيليكس» بأخبار موارده النفطيّة والحريريّة). في وطن العنصريّة والجهل التاريخي، يسخر دعاة التعصّب المذهبي في مضارب آل الحريري من الحضارة الصفويّة، مع أنّ منجزات تلك الحضارة، وخصوصاً في عهد شاه عبّاس، نافست مدن العالم في ذلك الحين.
أما ما مرّ من تاريخ على ما يُتعارف على تسميته اليوم «لبنان»، فوجهة النظر الكتائبيّة هي في النظر إلى تاريخه على أنّه تاريخ لكيان لبناني أزلي، لم يتطوّر، إذ إنّه وجد كما وجد الكون، بكلام الديماغوجيا اللبنانيّة. حتى بريطانيا، وهي أوّل أمة ــ دولة (أو الدولة القوميّة) في أوروبا، كانت منقسمة، وكانت تضمّ أراضيها عدة ملوك متناحرين متصارعين. إلا لبنان، تريد وجهة النظر تلك أن تعمّم فكرة ديمومة الكيان كما هو، حتى إنّ بيت الكتائب في الصيفي يضرب في التاريخ إلى ما قبل العصر الحجري.
وجهة النظر الأخرى لا ترى كياناً لبنانيّا أبداً في التاريخ. حتى فيليب حتي كتب أنّه يكتب عن تاريخ ما مرّ على تلك البقعة من الأرض. الأرض التي عليها دولة لبنان اليوم كانت جزءاً من محيط أعمّ، وكان أهلوها متناحرين متصارعين متحاربين: من المدن الفينيقيّة إلى القيسيّة واليمنيّة، إلى الحروب الطائفيّة المتكرّرة. قل إنّ هذه الفرق المتصارعة أظهرت براعة في الحروب الأهليّة. وكان التناحر سمة مؤثّرة في استسهال الاعتماد على الغريب لترجيح كفّة طرف على حساب آخر. وتاريخ لبنان هو حقيقة تاريخ كل من مرّ مستعمراً في لبنان، وتاريخ التحالف والصراع مع هذا المُستعمر أو ذاك.
أما للإضاءة على الحروب الصليبيّة فيمكن الاستعانة بيوسف السودا، واحد من المؤسّسين للعقيدة الفينيقيّة، إذ يزهو بـ«العون» الذي قدّمه اللبنانيّون للغزاة (وهم بتعريف السودا فريق في طائفة، لكن الفريق في الطائفة كافٍ لاختزال الطائفة برمّتها، والتي تختزل كل من يقطن أرض لبنان عموماً، وهم بدورهم يختزلون الخلق كلهم في الأرض قاطبة). طبعاً، حكاية الغزوة الصليبيّة تخضع لأهواء الفريقيْن. هناك فريق يرى في الغزوة مهمّة حضاريّة، وهذا نتاج جهل بوقائع التاريخ: يجهل من يزهو بالحضارة الصليبيّة أنّ أوروبا كانت متخلّفة عن الركب الحضاري العربي (بالرغم من تخلّفه في ذلك الحين وضعفه. يروي الفارس العربي أسامة بن منقذ في «كتاب الاعتبار»، ص. 132 _ 133، حادثة تدلّ على تخلّف الطب الغربي، مقارنة بالطب العربي، وكان الطب الأوروبي طوال القرون الوسطى يتلخّص في فحص لون البول وربطه بحركة النجوم، لا غير). وتغفل وجهة النظر تلك المجازر التي ارتكبها الصليبيّون ضد مسيحيّي المشرق، وتغفل أيضاً مقاومة بعض مسيحيّي المشرق للغزوة الصليبيّة. لكن إسقاطاً تاريخيّاً يجري كي يتقمّص الغزو الصليبي شخص المُستعمر الغربي المعاصر (والحنون).
في المقابل، ترى وجهة النظر الأخرى في الغزو الصليبي حرباً لم تتوقّف ضد الإسلام والمسلمين، وطمعاً لم يتوقّف بخيرات المشرق العربي ومقدّساته. ودحر الصليبيّين هو لحظة تحرّر تاريخي ملهمة لهذا الفريق، فيما يرى الفريق الآخر لحظة حزينة، وخصوصاً أنّه يرى في نفسه ممثّلاً للغرب في الشرق، يعيش بين المتخلّفين، فيما يستبطن الفكر الاستعماري والاستشراقي.
ويمكن المرور بمحطّات تاريخيّة مختلفة للتمييز الفاصل بين وجهتيْ نظر لا تلتقيان. يكفي أن تقرأ «مديحة على جبل لبنان» لابن القلاعي، لتتبيّن البغض الطائفي المتأصّل في رحم المؤسّسة الكنسيّة المارونيّة. والمديحة تلك، التي وصفتها هدى مطر نعمة في مؤتمر «لحفد في التاريخ ودورها الوطن» بـ«نشيد للوطنيّة للشعب الماروني» («المستقبل»، 25 آب 2009)، تعبّر عن مكنونات طائفيّة مبكّرة، لم تكن الحروب الأهليّة المُتكرّرة إلا تعبيراً عميقاً وعاطفيّاً عنها. في المقابل، يمكن النظر إلى الفكر الكنسي الطائفي والمُتغرّب (والذي وجد معينه في الاستشراق الوافد وهذا يُفسّر الترحاب الذي لقيه هنري لمنس وأرنست رينان في ربوع بعض لبنان) كمرحلة جنينيّة من فكر الوطنيّة اللبنانيّة الذي لم يكن يوماً جامعاً (كان الجمع عنواناً يموّه ما يجري من الاستثناء والإقصاء والسيطرة).
لكن الخلاف الحقيقي حول التأريخ يدور حوق حقبة الحرب. حتى حقبة الاحتلال الفرنسي تعرّضت للتزوير من باب التآلف المصطنع. ماذا يعني أن يكرّم كتاب التاريخ إميل إدّه (الصهيوني الذي أدلى بشهادات في صف الحركة الصهيونيّة)، والذي قَبِل أن يتبوّأ سلطة رمزية كأداة أكثر طواعيّة من باقي الفريق السياسي المطواع في حقبة الاستعمار الفرنسي، أو ألفرد نقّاش (وكان صهيونيّاً هو الآخر)؟ وكتاب التاريخ يصرّ على إقحام فرض «الأبطال» في المنهج المُقرّر. لا يُقبَل أن تخضع سيرة رياض الصلح مثلاً للنقاش أو لوجهتيْ نظر. بات لرياض الصلح أكثر من مؤرّخ بلاط: من باتريك سيل (الذي كتب سيرة تبجيليّة لحافظ الأسد ولخالد بن سلطان على حدٍّ سواء) إلى أحمد بيضون (الذي شكّلت أطروحته الجامعيّة في باريس علامة فارقة في نقد التأريخ اللبناني السائد). في السيرتيْن، يصبح رياض الصلح مُوحدّاً للعرب، منصرفاً بلا كلل في عمل مضنٍ لتحرير فلسطين، فيما ليس هناك (في الكتابين المذكورين وفي خارجهما) أي دليل على ذلك أبداً (أو «بنوب» كما يقول الشوام). على العكس، هناك ما يشير إلى أنّ الصلح كان على أقلّ تقدير متصالحاً مع الصهيونيّة (نقرأ الكثير خارج الكتابين عن صداقة الصلح مع حاييم وايزمان مثلاً. ولكن لن يدخل هذا في باب المنهج المُقرّر).
الحرب الأهليّة هي التي ستفجّر الصراع التأريخي، ومن المستحيل الجمع بين وجهتيْ النظر. في الحروب الأهليّة، ينتصر فريق على آخر ويتكفّل هو بكتابة التاريخ. في الحرب الأهليّة الأميركيّة، يتعرّض الفريق الجنوبي الانفصالي في القرن التاسع عشر لتخوين رسمي، لم يخفت مع مرور الزمن. في لبنان، انتصر فريق على آخر، ومن دون أدنى شك. لكن لبنان حريص على إخراج توليفات وترتيبات ووفاقات تعتمد على التزوير والتكاذب. ماذا تعني مثلاً معادلة الطائف التي تصرّ على الاحتفاظ بنظام طائفي (مع وعد بإصلاحه يوماً ما)، على أن يخضع النظام لتوازن عددي لا ينطبق على الحقيقة الديموغرافيّة؟ ما معنى، مثلاً، الزعم أنّ ليس من منتصر في لبنان؟ كان يُقال في القرن التاسع عشر إنّ الدروز يخسرون في السياسة ما يربحونه في ميدان الصراع العسكري والطائفي. أما في الحرب الأهليّة، فقد هُزم حزب الكتائب والقوّات، إلا أنّ التوليفة السياسيّة أعادت لهما الاعتبار، وبثّت فكرة إنكار الهزيمة، بعد 2005، لأنّ النخبة الطائفيّة الحريريّة الحاكمة احتاجت إلى حليف طائفي جديد.
في وجهة نظر واحدة، إنّ حزب الكتائب قاد «مقاومة لبنانيّة». وهناك من يردّد بلا خجل مقولة الدفاع عن لبنان بوجه محاولة من الفلسطينيّين للتوطين. السرديّة طارئة لأنّ حزب الكتائب في سنوات الحرب كان يعبّر عن خلاف مع «الشريك المسلم»، وتصريحات بيار الجميّل لم تكلّ في هذا الصدد (إلى درجة أنّ لويس الحاج في كتابه «من مخزون الذاكرة» يعترف بأنّ جريدة «النهار» كانت تشذّب تصريحاته لحدّة عدائها الطائفي). كان بإمكان تلك السرديّة أن تمثّل وجهة نظر فريق لو أنّ حقائق الحرب غير مثبتة بالصور والوثائق: إنّ حزب الكتائب والقوات شنّا حرباً ضروساً على المسلمين في المناطق «الشرقيّة»، وفي غيرها. لم يسمح حزب «الوطنيّة اللبنانيّة» لأي مسلم بالبقاء في المنطقة «الشرقيّة»، طبعاً باستثناء أفراد، مثل كامل الأسعد وعثمان الدنا وأدوات أخرى من الفريق الطائفي المتنفّذ هناك.
يكفي أنّ هناك خلافاً حتى على موضوع مقاومة إسرائيل. في فرنسا، لا يحظى فريق المتعاونين مع الاحتلال النازي (وليست القوّات والكتائب والأحرار و«النهار» إلا أقراناً لهؤلاء) بأي تعبير ليبرالي مبتذل عن وجهة نظرهم. لا يتعرّضون إلا للتنديد والتخوين. كتاب التاريخ الفرنسي يعبّر عن فريق مقاومة الاحتلال. لكن فريق الكتائب والأحرار يريد الموازاة بين مَن قاوم العدوّ الإسرائيلي ومَن ناصره. يصبح أنطوان لحد صاحب وجهة نظر. لماذا يصبح عَوْنُ المُحتل جديراً بالاحترام في كتاب التاريخ، وجديراً بوصفه مقاومة؟ ولكن، في المقابل، هناك وجهة نظر تسوّغ التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي (ماضياً وحاضراً ــ ويكيليكس كاشفة ــ ومستقبلاً أيضاً) ووجهة النظر تلك تسود في مرحلة ما قبل الصراع الأهلي. وفي لبنان، لنا عودة إلى الصراع الأهلي، وعندها فقط تسهل كتابة تاريخ جديد للبنان، وخصوصاً إذا لم يتدخّل الجيش السوري كما تدخّل في 1976، لمنع التغيير الوطني المنشود.
هناك وجهتا نظر في موضوع كتابة التاريخ: هذا إذا لم نأخذ في الحسبان وجهات نظر قيادات الطوائف «الكريمة». يمكن دمج الوجهات تلك في كتاب واحد على طريقة بعض المأكولات اللبنانيّة. لكن ذلك سيزيد من تأجيج الصراعات. ويمكن كتابة تاريخ موحّد وشامل يعتمد الحقائق والوقائع والمعايير المعادية للاحتلال الإسرائيلي. لكن ذلك سيحتاج إلى جلسات أخرى: يحتاج إلى عودة مؤجّلة إلى الحرب الأهليّة لهزيمة فريق لم يرض بهزيمته في المرّة الأولى.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت:
english.al-akhbar.com)