عندما يخرج المرء، ولو مؤقتاً، من منطقة تخوض صراعاً يومياً من أجل «البقاء فحسب»، لا يعود قادراً على ادعاء البطولة. أصلاً، ما من بطولة في ذلك. كلّ ما في الأمر أنّنا نحاول جاهدين الحفاظ على ما تبقى من أنماط عيشنا التي تسبق التصدعات الحالية. وإذا رغب البعض في إسباغ صفة البطولة على ذلك فلا بأس، لكن عليه في المقابل أن يبدي استعداداً لتشاطر هذه اللحظة مع أبطاله المفترضين. ربما يغيّر رأيه إذا جرب الأمر فعلياً، وعندها قد يفضل «الجبن»، وإيثار السلامة الشخصية على الشجاعة التي يفترضها في غيره فحسب. فما يحدث اليوم بالضبط هو توهّم البعض أنّه بالفعل يقود من حيث يقيم (غالباً في مستعمرات الخليج وبعض الرأسماليات الغربية) حراكاً شعبياً مناهضاً للنظام، ولو ادعى عن تعفّف كاذب عكس ذلك. هو يعلم أنّ لا تاريخ نضالياً له،
وأنّه يستخدم معاناة أبناء جلدته من بطش النظام كوسيلة للتكسّب والظهور الاستهلاكي السهل، ومع ذلك يستمر في المنافحة عن معاناة شعب لا يعرف على الأغلب كيف يعيش (أي «المناضل» المياوم على الشاشات)، وكيف يقاوم فناءه اليومي المستمر. وهذه حكاية تستحق أن تروى فعلاً. غير أنّ روايتها لا ينبغي أن تسلك مسلكاً شائعاً يتغنى بالبطولة من منطلق ذكوري، ولا يتعامل مع الشعب الذي ينهض بها، إلا بوصفه «بطلاً». هو «شعب بطل» فعلاً، لكن بطولته الفعلية ليست تماماً في الحيّز الدعائي الذي يراد لها أن تكون فيه. هي في مكان آخر لا تقربه على الإطلاق سرديات النظام ومعارضاته الهزيلة. فأن تكون «بطلاً»» في منطقة سوريّة ساخنة يعني أن تروّض حالة الاستثناء التي تعيشها، وأن تتعامل معها كما لو أنّها لم تكن أصلاً. لقد جرّبت أمم كثيرة أمراً مماثلاً من دون ادعاءات كبيرة، ومن غير أن يهيئ لها الغرب الكولونيالي حياة دعائية موازية. ولو أمكن فعلاً لهذا الشعب أن يعيش مخاضه الدموي بدون تلك الحيوات الافتراضية المصطنعة، لكان خرج بخلاصات أقل إيلاماً وأكثر امتثالاً للوقائع التاريخية. فما تقوله الوقائع مفارق تماماً لما يقوله الفضاء الرمزي. وهذه حقيقة بسيطة وليست معقدة كثيراً، لكن البساطة والعداء للتلفيق الايديولوجي غير مرغوبين كولونيالياً ونفطياً في الحالة السورية. وهؤلاء (أي الكولونياليون وأذيالهم النفطية) «يملكون» الفضاء، لذلك تحديداً يتوهمون أنّ من يتملك الفضاء يتملك الأرض أيضاً. طبعاً هذا «قانون» صوري، أملته شروط الهيمنة الرمزية على فضائنا الإعلامي، ومقاومة هذا النسق من الهيمنة ممكنة إذا ما عاد المرء إلى الوقائع العنيدة على الأرض. والوقائع تقول بأنّ في سوريا اليوم شرائح شعبية تعيش حياتها المستحيلة، بمعزل عن صياغة هذه الحياة مجدداً على الشاشات، وتصديرها كبضاعة مقاومة «للمجزرة» (بات لها أكثر من جانب). هم يقاومون فعلاً، لكن على طريقتهم الخاصة. أعمالهم توقفت ومصادر عيشهم أصبحت في خبر كان، ومع ذلك يستمرون في العيش وابتداع ظروف جديدة للتكيّف مع الواقع. يفعلون ذلك بمعية الإعلام طبعاً، فهو يساعدهم على إيصال ما يرون أنّها قضيتهم، إلى أوسع شريحة ممكنة من الناس، غير أنّهم لا يسمحون له بأن يكون أكثر من ذلك، أي مجرد وسيلة للعبور إلى الجانب الآخر. أحياناً كانوا يغالون في توظيفه، وفي جعله متناً للقضية، لا هامشاً لها، لكنّهم سرعان ما يعودون عن مغالاتهم، بمجرد اكتشافهم أنّها ستجرّد قضيتهم من بعدها الأخلاقي. فالميديا اليوم ما عادت معنية كثيراً بالشأن الأخلاقي في مقاربة الأحداث الساخنة، ولو كان الأمر غير ذلك لما كانت حربا الخليج الثانية والثالثة (غزو العراق) قد ظهرتا بذاك المظهر. والناس في سوريا يدركون ذلك، ولأنّهم يفعلون يتحايلون على آليات الإعلام، تماماً كما تتحايل هي عليهم. لنقل إنّه نوع من التواطؤ المتبادل على ممارسة فعل يأتي بالمنفعة على كلا الطرفين. هم يعتقدون أنّهم يستخدمون الميديا في معركتهم ضد النظام، والميديا من جهتها «تعرف أنّها تستخدمهم» في معركة رأس المال الذي يملكها مع من يقف إلى جانب النظام على الضفة الأخرى من العالم («الرأسماليتان» الصينية والروسية). والأرجح أنّ كل ذلك الجدل، على أهميته في تحديد مسارات الصراع، لا يعني أهلنا في المناطق الساخنة. فما يعنيهم حقاً اليوم هو أن «يعيشوا بكرامة»، وأن لا يتسبب خيارهم في هذا العيش بمزيد من الإنهاك لهم ولبيئتهم الاجتماعية المحيطة، ولآخرين يشاركونهم «العيش ذاته» من دون أن تكون خيارات هؤلاء السياسية متطابقة بالضرورة مع ما يعتقدون هم أنّها الكرامة والحرية. والمشكلة الفعلية أنّ هذا العرض الموجز لرؤية المنتفضين لكرامتهم لا يناسب كثيراً السردية الدعائية التي لا تريد لسوريا أن تحيا خارج «نظرية الجحيم الأهلي» على طريقة لبنان وكوسوفو والبوسنة والهرسك والصومال والسودان إلخ. كلّ ما نراه على الشاشات الكولونيالية اليوم («بي بي سي» بشقيها العربي والغربي، «فرانس 24»، «سي إن إن»، و«سكاي نيوز»... إلخ) لا يعبر إلا عن «واقع جزئي» يراد لنا ولأهلنا في المناطق الساخنة أن يتقوقعوا داخله، وأن يعيشوه كحقيقة مطلقة وكلية. لكنّنا مع الأسف، خيّبنا أملهم ولم نفعل ذلك إلا بمقدار ما يسمح وعينا الفطري بإدراكه. فهناك في المناطق التي انتفضت ضد النظام توجد اشتباكات متبادلة بالرصاص الحي وقصف متبادل بقذائف الهاون والـ«ار.بي.جي». ويوجد أيضاً مسلحون يجوبون الشوارع معبرين عن سخطهم على كل شيء، وقناصة يتمركزون في الأبنية العالية، ويصوبون «على كل» من حمل سلاحاً ضد النظام، أو لم يحمل. كلّ ذلك موجود وأكثر، لكنّه غير كاف لحملنا على التصديق أنّنا بتنا وقوداً لإعلام ينمّط عيشنا المضطرب، ويضعه تحت عنوان نمطي بدوره: الحرب الأهلية. قد يكون ما نعيشه هناك حرباً أهلية فعلاً، أو ما يشابهها، لكنّنا نحياها كما لو أنّها وقعت وانتهت. مثلاً، لا يستطيع المرء منا الخروج من بيته بعد الساعة الثالثة ظهراً، إلا إذا كان قد أجرى اتصالاته (غالباً ما تكون مقطوعة خلوياً، ومتوافرة أرضياً)، وتأكد أنّ الهدوء النسبي يتيح له ذلك. وما إن يخرج ويعود، حتى يبدأ تبادل الاشتباكات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة. تمرّ ساعات والأمر على المنوال ذاته، ثم تهدأ الجبهة في المساء، ويعود الناس لمزاولة «طقوسهم الاعتيادية» داخل المنازل فحسب، إذ لا «حياة طبيعية» في المساء إلا داخل المنزل العادي وغير المحصّن غالباً ضد الرصاص والقذائف الصاروخية. هذا سرد كلاسيكي لتفاصيل أناس يعيشون حرباً أهلية. كلّ من عايش حروباً مماثلة في العالم يعرف ذلك. لكن هنالك في ريف حمص مثلاً من لا يريد أن يصدق ذلك، أو أن يحبس ذاته داخل قوقعة إخبارية تجلده يومياً برموزها المفتعلة، وتقول له إنّك لا تصلح للعيش اليوم إلا ككائن سياسي بائس ومصاب بداء الحرب. أعرف رجلاً مثلاً يجوب الشوارع وهو يعاين القذائف المتساقطة على البيوت والأحياء، وعندما تفاتحه بأنّ ذلك يشكل خطراً على حياته، وأنّ للحرب قوانينها الخاصة تماماً كما للحياة العادية قوانينها يقول: لكل امرئ أجل. كيف يمكن أن تقنع شخصاً له هذه الصفات بأنّ الإعلام الذي يتوهم أنّه يسانده في قضيته لا يولّف مأساته ويكثّفها صورياً، إلا لكي يحرمه هذا الخروج الدوري المحبب، ويقول له: «اجلس في منزلك فحسب، فأنت في بلد يخوض حرباً أهلية، وخروجك الآن لا يلغي وجود الحرب، لكنّه يمسّ في العمق الصورة التي نريد تصديرها للعالم عن تلك الحرب». لا أعرف إذا كان الرجل الجميل يدرك أنّ خروجه من البيت له كل هذا الأثر الرمزي.
لقد حاولت مراراً أن أقتفي أثره وأخرج أثناء الاشتباكات وتبادل القصف، لكنّني لم أفلح. ربما هي جدلية الشجاعة والجبن التي ذكرتها أعلاه، وربما تكون أيضاً تماهي من يخرج لمعاينة القذائف والاطمئنان إلى أحوال الناس مع قضيته، أكثر بكثير مني، ومن باقي «النخب» التي تحيا القضية صورياً، وتعيشها على نحو عضلي في المقاهي وأمام الشاشات فحسب. لقد أدركت ذلك عندما أتيت إلى دمشق. يشعر المرء بالأسى فعلاً عندما يشاهد كل هذا الفصام في حياة السوريين اليوم. فمن يمجّد بطولة المنتفضين ومن يذمّهم لا يعرف شيئاً عما يجري هناك، وعما يدور في خلد ذاك الرجل الذي بقي مع من بقي (والباقون كثر حتى لو خرج البعض) ليحرس الحارة، ويحفظ ما تبقى من حيوات أهلها. من يفعل ذلك لا يعبأ كثيراً بما يقال عنه في الخارج. وما يقال هناك إن هؤلاء أبناء الحرب الأهلية، لذلك لا نريدهم ولا نريدها. ومن يقول كلاماً مماثلاً إنما يفعل بتأثير الإعلام الذي «يساند» القضية وذلك الذي يذمّها على حد سواء. كلاهما مأجور وعميل لرأس المال (النظامي والنفطي)، والرجل الجميل هناك يعرف ذلك، ويعرف تأثيره على صورته وصورة أهله في الخارج. لذا يبدو كمن لا يعبأ كثيراً، ويحاول أن يستمر في مزاولة ما يعرفه وما يتقنه جيداً: فن الحياة والمقاومة اليومية، رغم أنف الجميع.

* كاتب سوري