على قدم وساق، تجري عملية تقسيم المناصب في الجمعية التأسيسية التي من المقرر أن تضع الدستور الجديد في مصر. وفي سباق مع الزمن، تحاول مختلف القوى حجز أكبر مقاعد لها في الجمعية، بما يضمن لها ترك بصمتها على الدستور الذي سيحكم البلاد، ربما لعقود قادمة. البرلمان بغرفتيه، أي مجلسي الشعب والشورى، والنقابات المهنية والنقابات العمالية ومنظمات رجال الأعمال ونوادي أعضاء هيئة التدريس ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب والجيش والشرطة والمؤسسات الدينية الرسمية، الأزهر والكنيسة، والشخصيات العامة، هي الجهات التي سيجري تقسيم مقاعد الجمعية التأسيسية المائة عليها. والخلاف اليوم ينصب حول النسب التي ستقسم المقاعد على أساسها.
القوى الإسلامية التي ضمنت أغلبية في البرلمان، تسعى إلى تحقيق الأغلبية نفسها في التأسيسية. يطالب الإخوان المسلمون بأن تكون نسبة البرلمان 40% من مقاعد التأسيسية، أما السلفيون فيطالبون بنسبة 70%. فالإخوان الذين يحظون بوجود في مؤسسات مختلفة ستمثل في الجمعية، ليسوا مضطرين للاعتماد على نسبة البرلمان فقط مثل السلفيين. أما القوى الليبرالية، فتطالب بأن تكون نسبة البرلمان في التأسيسية 20%، وان تستكمل المقاعد من خارج البرلمان حتى يتسنى خلق التنوّع الكافي في الجمعية، وحتى لا تسيطر عليها القوى الإسلامية، وتضع دستور الدولة الدينية. إذن، من المقرر أن ينتج السباق على مقاعد الجمعية التأسيسية أمراً من اثنين. إما أن تتشكل جمعية بأغلبية إسلامية، وبالتالي تضع دستور يغلب عليه الطابع الديني، أو أن تتشكل جمعية متنوعة بما يكفي، لوضع دستور دولة مدنية. الحسبة معقدة ومصيرية بكل تأكيد للقوى السياسية باتجاهاتها المختلفة. فليس أهم في اللحظة الراهنة من وضع الدستور الذي يعد إحدى ثمار الثورة. لكن في غمرة هذا السباق المحموم، يبدو الحاضرون أكثر كثيراً من الغائبين عن وضع دستور سوف يحكمهم، ويرسم مستقبلهم لفترة قد تكون طويلة. المفارقة في الصراع الدائر حول الدستور هي أنّ موضوعه لا ينتمي إلى تلك الثورة. إذ لم تكن من ضمن أهداف الثورة أو أسبابها، لا تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وبناء الدولة الدينية، ولا تطبيق مبادئ العلمانية وحماية مدنية الدولة. رفعت الثورة شعاراتها بوضوح: «عيش وحرية وعدالة اجتماعية». واللافت أنّ إحدى أهم المعارك المترتبة على الثورة، تدور بعيداً عن تلك الشعارات، بل وبعيداً عن أصحابها أيضاً. وبالنظر للقوى المفترض أن تمثل في الجمعية التأسيسية، فإنّ قطاعاً واسعاً من أصحاب مطالب العدالة الاجتماعية سيغيبون أو يغيّبون عن الجمعية التأسيسية. فمن شبه المتفق عليه أن يمثل العمال في الجمعية التأسيسية، وسيكون هذا التمثيل عبر كل من اتحاد العمال الرسمي والاتحاد المستقل، ومجموع العضوية التي يضمها كلا الاتحادين لا تتجاوز خمسة ملايين عامل من قوة من إجمالي مشتغلين يزيد على 23 مليوناً. أي أنّ الممثلين في الجمعية ستكون نسبتهم أقل من ربع العمال، فضلاً عن أنّ أكثر من 40% من العمالة هي أصلاً عمالة غير منتظمة، لا تحظى بضمان اجتماعي أو عقود عمل قانونية. فالعمالة المنظمة تنحصر في القطاع الحكومي والقطاع العام والقطاع الخاص المنظم. ولا يزيد عدد العمال في تلك القطاعات على عشرة ملايين من قوة عمل تزيد على 26 مليوناً، وفق الكتاب الإحصائي السنوي الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. إنّ القطاعات العمالية الغائبة عن التمثيل في الجمعية التأسيسية هي بالأساس القطاعات الأكثر معاناة من عدم الحماية وظروف العمل القاسية وغير المستقرة، فضلاً عن العاطلين أصلاً من العمل والذين تتراوح أعدادهم ما بين ثلاثة ملايين، حسب الإحصاءات الرسمية، وتصل لأكثر من ثمانية ملايين، حسب إحصاءات مستقلة.
وبالإضافة إلى العاطلين من العمل والعمالة غير المنظمة وغير الرسمية، هناك قطاع واسع من السكان لا يظهر في الصورة بالمرة، عند الحديث عن الجمعية التأسيسية، وهم سكان العشوائيات والذين يصل عددهم إلى 11 مليوناً، فضلاً عن خمسة ملايين يسكنون المقابر. وتلك الفئتان تشكلان قطاعاً يعاني الحرمان شبه الكامل من مقومات الحياة الآدمية. وكما تظهر الإحصائيات، هؤلاء هم جزء مهم من شعب مصر ممن لن يحظى بالتمثيل في تأسيسية الدستور، وسيغيب صوتهم في الجدال بين المدنية والدينية.
الفلاحون المصريون أيضاً سيغيبون عن التمثيل. ولا يمكن النظر إلى هؤلاء دون التمييز بين الفلاحين الأجراء الذين لا يملكون أي قطعة أرض، وصغار المزارعين الذين يمتلكون أو يزرعون قطع زراعية قزمة، لا تغنيهم عن العمل الأجير، ومتوسطي الملكية وكبار الملاك. إنّ طبيعة الحضور في الجمعية التأسيسية هي بالذات ما يحدد طبيعة الغياب. فتركز الجدال حول مدنية الدولة ودينيتها، جعل المزاحمة على مقاعد التأسيسية تنحصر تقريباً بين القوى الدينية والقوى المدنية. حتى أنّ المقاعد التي من الممكن تخصيصها للنقابات المهنية والعمالية وباقي الجهات، ينظر لها على أنّها محل صراع بين القوى السياسية التي تحظى بسيطرة على تلك المؤسسات، وليس فرصة لتمثيل الطبقات الاجتماعية المختلفة. إذ تحاول كل جهة سياسية زيادة عدد ممثليها عبر وجودها في النقابات والجمعيات الأهلية والمؤسسات الممثلة في الجمعية التأسيسية.
بالنسبة إلى القطاعات التي تغيب عن الجمعية التأسيسية، لا يبدو هناك فارق هام في حياتهم، مهما كانت نتيجة انعقاد الجمعية، وما ستضعه من دستور للبلاد. هل هناك فارق حقيقي بين أن يعاني الفقراء من الفقر، والعمال من الاضطهاد، وسكان العشوائيات من التهميش في دولة دينية أو دولة مدنية؟ ربما يعني الأمر الكثير بالنسبة إلى القوى السياسية المدنية والدينية، لكن بالنسبة إلى القطاعات الغائبة عن وضع الدستور، لا فارق بين الفقر في ظل دستور ديني أو علماني. الغريب في الأمر أنّ إهمالاً شبيهاً عانته الطبقات الكادحة في مصر، كانت نتيجته انتفاضة ثورية أطاحت مبارك. لا يبدو أنّ الدرس كان كافياً، والظاهر أنّ المزيد من الإفقار والتهميش ينتظر من أطاحوا مبارك، وأفسحوا الطريق للقوى السياسية التي كبلتها الطوارئ والانتخابات المزورة والاستبداد على مدى عقود. والمسافة التي فصلت بين القوى السياسية وطموحاتها وبين قطاعات الفقراء والمهمشين قبل الثورة، لا تزال تفصل بينهما حتى الآن. الجولة التي تخوضها اليوم القوى الدينية والقوى المدنية، ضد بعضها البعض، ستسفر بالتأكيد عن خاسر. لكنّها بتجاهل طموحات عشرات الملايين من المصريين في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وعدم الالتفات لوضع المواد الدستورية التي تضمن للفقراء والمهمشين أبسط الحقوق الإنسانية والحياة الكريمة، وعدم وصول صوت تلك القطاعات لواضعي الدستور، ستجعل جولة الصراع تلك بلا أي فائز.

* صحافي مصري