منذ انطلاقة الشرارة الأولى للربيع العربي من تونس، سارعت وسائل الإعلام المختلفة، وبخاصة العالمية منها، إلى التركيز على مشاركة المرأة وتظهير صورتها كفاعلة أساسية في ميادين الثورات. فلا تزال حتى اليوم الصحف ووسائل الإعلام المرئي وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي، تعجّ بصور لنساء يواجهن آلة القمع ويُقتَلن ويُسحَلن في التظاهرات.
هذا الواقع ليس بجديد، فقد كان للنساء دائماً أدوارٌ ريادية في حركات التحرُّر الاجتماعي، وفي الحركات النضالية. مَن منا لم تنبهر بليلى خالد أو دلال المغربي، كنساء حقَّقن ما لم تتمكن أخريات من تحقيقه، وكان دائماً من مضمار الرجال؟
لا يختلف مجتمعنا الثائر بذكوريّيه ونسوياته في هذا الوقت على اعتبار أولئك النساء اللواتي، اللواتي ظهرن كمحاربات في مواجهة الأنظمة أو الاحتلال، أيقونات يُحتذى بهن، وكمثال أعلى، على المرأة أن تقتدي به لكي تنال جزءاً من الاحترام والتقدير الذي تستحق.
هذه هي المرأة إذاً، التي إذا ما أتيح لها أن تعبُر الحدود وتنطلق إلى الفضاء العام ــ فضاء السياسة والميادين والمؤتمرات وساحات القتال ــ فهي قادرة ومؤثِّرة وفاعلة، ولا أحد يمكنه أن ينكر ذلك .
لكن أين هن باقي النساء؟
لا تزال حرب تموز في ذاكرتي، لكنّني لن أسرد الذكريات المرتبطة بالتفاعل مع أصوات الصواريخ، خطاب البارجة الشهير، الموت المقيت، النزوح، الدولة المتخاذلة، إشاعة استهداف جسر سليم سلام... بل تمرُّ في ذاكرتي صورٌ لخلايا من النحل في المنازل الصغيرة. كان نهار النساء في تلك الحرب يبدأ منذ ساعات الصباح الأولى. لم يكن من السهل الخروج لتعتيل كميات هائلة من الخضار والمواد الغذائية، ونقلها عبر السلالم الطويلة نظراً إلى انقطاع الكهرباء ومن ثم طبخها، وغسل الملابس ورعاية الأطفال.
لقد كان كل ما حولنا ينذر بمزيد من الألم والدمار والموت، لكن المجال الخاص/ المنزل، حيث تقبع النساء ظلَّ صامداً ومتمسِّكاً بمهمته: تأمين استمرار الحياة. حينها توقَّف معظم الناس عن ممارسة أعمالهم الاعتيادية. توقفت النشاطات، وبعض الأشغال أيضاً، وتغيَّر وجه المدينة وطبيعة انشغالها وعجقتها، ولكن ما تبدّلت يوميات النساء، ولم يتوقّف نمو الأطفال، ولم يصبهم وباءٌ قضى عليهم جميعاً، وجدنا دائماً ما نأكله، ما نلبسه، وعرفنا كيف نقتسم المياه الشحيحة للاستحمام، وكيف ننظِّم نوم 9 أشخاص في غرفة صغيرة، وأين نجد حاجياتنا، ونَعِمْنا بقسطنا من الحب والدفء. النساء زاولن أعمالهن المنزلية في مجالهن الخاص، الذي تحوّل حينها إلى منزل مستضيف، منزل مضيف، أو قاعة في مدرسة، أو غيرها... استمررن في توفير كل ما يلزم ضمن إمكانات محدودة جدّاً. كيف أمكنهن حينها إدارة هذا المجال الذي ضم أعداداً هائلة من الناس؟! كيف استمر إطعام الأطفال والعائلة بكميات قليلة من الخبز والموارد؟ كيف خطَّط هذا العقل وأنتج تلك الطاقة لتنفيذ خطة إغاثة فورية والإنعام بها على كل من هم حوله؟
ولكن عندما انتشينا من النصر، كان إلهيّاً! وانتشرت الأغنيات والأهازيج التي تغنَّت بالجهاد على جبهات القتال. فمجَّدنا الأقدام والسواعد التي حملت الأسلحة وقاومت، إلّا أننا نسينا أنّ الصمود صنعته نساء هذه الأرض بسواعدهن، بساعات نومهن القليلة جدّاً، بعرقهن وقلقهن... فكانت المقاومة تقبع تحت أقدام النساء !
لا تنتظر النساء أوقات الحروب والأزمات والثورات ليقمن بتلك المهمات، بل هي جزء لا يتجزأ من يوميات العمل المنزلي المضني، الذي يتجاوز بعدد ساعاته جميع ما تنصُّ عليه قوانين العمل في بلدان العالم. عمل لا مردود ماديّاً أو معنوياً له على النساء، ولا ضمان شيخوخة أو تقاعد له، ولا دوام له، ولا يوم عطلة، لكن هذه هي الحال في الحياة بسيرورتها العادية، التي تعكس قيمة ومردوداً للعمل بقيمته المالية، كما تعدّها أنظمة القمع الاقتصادية الذكورية، وإنكار أيّ قيمة لعمل المرأة داخل المنزل هو ذاته إبان الحروب والأزمات. فالانتصارات تعود دائماً على ما يريد المجتمع الذكوري إظهاره وتمجيده كقيمة لا تضاهى، فنبقى نحن النساء في بيوتنا، ونُمنَع من الخروج إلى المجال العام ليعلنونا غير مرئيّات، نخلق مجالنا في الحيز الخاص الذي ارتأوه لنا سجناً وجداراً عازلاً.
تلك المهنة غير المرئية أو المقدرة، لم تكن خيار النساء في أغلب الأوقات، وما هنَّ أولئك اللواتي وقفن على جبهات القتال، وساحات المعارك، وحلبات المصارعة اليومية مع الكم الهائل من التحرش والتمييز والعقبات العائلية والتقاليد إلا خير دليل على أنّنا لا نقلُّ شأناً عن أترابنا الرجال، إذا ما أتيحت لنا الفرصة في أن نكون في المكان العام إذا ما توافر الأمن، لكن هل يستطيع الرجال أن يقوموا بعملنا ولو يوماً واحداً، إذا ما قررنا أن نُضرِب ونتوقف عن هذا العمل؟
إذاً، نحن شريكات أساسيات في بناء هذا المجتمع، وتطويره، بل وضمان استمراريته. سواء كنا نطلق صاروخاً أو نغيِّر حفاضة.
لذا نحن نطالب أن نُعامل كمواطنات منتجات في كل دقيقة من حياتنا. نريد شوارع آمنة، نريد أجوراً متساوية، نريد قانوناً يحمينا من العنف الأسري، نريد قانوناً يحمينا من التحرش والاغتصاب، نريد محاسبة وسائل الإعلام التي تحرِّض على العنف ضدنا، نريدكم أن تكفوا عن المتاجرة بأجسادنا... نريد المساواة الكاملة.

* من أسرة «صوت النسوة»