لم تعلم عاملات نسيج المصانع الأميركية اللاتي تظاهرن وطالبن بخفض ساعات عملهن ورفع أجورهن في 8 آذار/ مارس 1857، أنّ تظاهرتهن ستتجدد في نيويورك بعد نصف قرن في 1909، من قبل أخريات يطالبن بالحقوق الاقتصادية والسياسية، ومنها «حق الاقتراع العام»، حتى قررت الاشتراكية الدولية المجتمعة تخصيص يوم عالمي للمرأة في 1911، وأن تقرّه وتعتمده الأمم المتحدة في 1977.
بالمثل، لم تعلم العربيات أنّ ما هزّ مجتمعاتهنّ قبل عام، من ثورات تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا ...، سيجعل من مناسبة «8 آذار/ مارس» مناسبة مقرونة بتلك الثورات. فقد شاهدنا وعشنا معارك المرأة والرجل للمطالبة بالكرامة والمواطنة الكاملة والحرية معاً، إذ انخرطت النساء بكثافة في الاعتصامات والمسيرات، وساهمت الشابات منهن في التعبئة عبر شبكات التواصل الاجتماعي وإصدار البيانات والمذكرات المناهضة للظلم والفساد والتمييز. التونسيات أول من خرجن إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهن كمواطنات وكنساء. في مصر، نزلن إلى ميدان التحرير بكثافة اتحدت فيها «المسلمات والمسيحيات، السافرات والمحجبات»، وأصبح الميدان المنطلق التضامني بين الرجال والنساء، الشباب والشابات. أما في اليمن، فكنّ في الطليعة، وأتقنّ بمهارتهن النضالية المتميزة فن قيادة المحتجين. في المغرب، انخرطت قطاعات واسعة من الشابات في حركة «20 فبراير الشبابية». في السعودية، تجرأت 80 امرأة على قيادة سياراتهن، كتحدٍّ وكتعبير عن مطالباتهنّ، إضافة إلى مشاركتهن في المسيرات الاحتجاجية في المنطقة الشرقية. في البحرين، نزلن إلى الشارع بكثافة وحضور لافت تعبيراً عن حيوية ودينامية المجتمع البحريني، مقارنة بالمجتمعات المجاورة. لماذا لا وحضورهنّ بمثابة استكمال لحضورهنّ المبكر في ساحة العمل السياسي. كيف نقرأ في الثامن من آذار نتائج تلك المشاركة في مواجهة التحديات؟ لا شك أنّ المد النوعي الذي شهدته الميادين العربية ولا تزال، يعدّ في أحد جوانبه تعبيراً عن ثورة العربيات التي بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالي يمكن مراقبتها وتفكيكها وتحليلها وقياس أهميتها ودلالتها، للتعرف على دورهنّ في صنعها وإنجازها، ومعاينة الفئات الاجتماعية المشاركة وانتماءاتهنّ الإيديولوجية والسياسية، ولا سيما أنّ الإعلام الغربي ركز على مشاركة الشابات تبعاً لانتماءاتهن الدينية «إسلاميات ومسيحيات محجبات، وسافرات ... الخ»، وعبّر عن دهشته لجرأتهن وتحررهن، وخصوصاً مع ما يستبطنه من خلفية كون «المرأة العربية المحجبة معزولة ومتخلفة»، فيما كشف الواقع النقيض أنهن غير معزولات أو خاضعات ومستلبات الإرادة، وإنما «أشكال مقاومتهن للتمييز والعنف الواقع عليهن في المجال العام والخاص هي التي تتغير وتتطور»، حسب خلاصة إحدى الدراسات. إن مشاركة النساء كمناضلات في هذه الثورات تمثل ظاهرة جديرة بالدراسات السوسيولوجية، فقد تم قبول وجودهن مع الرجال في الساحات والميادين، وتعرضن للعنف السياسي والأمني المفرط في قوته. إلا أنّ ثمة مخاوف وهواجس تتزايد يوماً بعد يوم، نستشفها علانية أو بصورة مضمرة، تشكك في قدرة الثورات على الإيفاء بحقوق المرأة السياسية والاجتماعية. كيف ذلك؟ في مصر، وبمجرد سقوط نظام الديكتاتور، تمّ التصدي للنساء بعنف من بعض المتشددين، وأبعدن عن اللجنة المكلفة بإصلاح الدستور، تماماً كما أبعدت التونسيات عن الحكومة الانتقالية وعن اللجان السياسية، وحضورهنّ في لجان إعداد مشروع الإصلاح الدستوري مقارنة بمستوى تمثيلهنّ في 2009 بنسبة (27.6%) من النواب المنتخبين كان ضعيفاً. كما لم تمثل في المجلس الوطني الانتقالي الليبي إلا امرأة واحدة، ما يجعل الأمر تهديداً حقيقياً للنساء، لو اعتمدنا كمرجعية منهج عمل الأمم المتحدة للنهوض بالمرأة لجهة تعزيز التدابير القانونية لمصلحتها. وتبدو استعدادات المصريات وإصرارهنّ على الانطلاق هذا العام في مسيرة يوم المرأة العالمي إلى البرلمان، وتسليم مطالبهن في المرحلة الانتقالية بشعارات فاقعة كـ«مطلب واحد للستات ... مش حنسيب المكتسبات، مش عاوزين نخسر مكاسبنا، حقوق المرأة مش هنسبها»، تعبيراً عن الصدمة التي تلقّينها من الثورة. أما شعار «ما احناش بنات سوزان، حقوق المرأة = حقوق الإنسان» فهو تعبير عن نزع الشرعية عن مكتسبات المصريات والتونسيات باعتبارها ممنوحة من الأنظمة الديكتاتورية كقانون الأحوال الشخصية ومنح الجنسية. أما شعار «بره الشعب، وبره الشورى ... ليه الست بقت مقهورة»، فهو دلالة على التهاون بتأجيل المطالب الحقوقية للنساء كونها أقل أهمية وإلحاحاً مقارنة بتحديات المرحلة السياسية وقضاياها. في السياق، جرت محاولات لتشويه مشاركة المرأة في الميادين بربط حضورها بالخلفية الجنسية والأخلاقية، كما حدث في القاهرة من حادثة الاعتداء على فتاة شابة وتجريدها من ملابسها أثناء الاحتجاجات من قبل قوات الشرطة، وقيام المجلس العسكري بفرض اختبارات العذرية على 17 سجينة لمحاكمتهنّ أمام محكمة عسكرية، بحجة السعي إلى حماية الجيش من تهمة الادعاء بالاغتصاب أثناء الحبس، وفي اليمن اتهمن بسوء الأخلاق، «لأنّ النساء اللاتي يحترمن أنفسهن لا يتظاهرن مع الرجال جنباً إلى جنب ولا يختلطن بهم»، كما قال المخلوع علي عبد الله صالح. وتم استغلال قضية الاغتصاب كسلاح في ليبيا لإذلال النساء والرجال على حد سواء، والدفع بعائلات بأكملها لمغادرة مساكنها خوفاً من الاعتداء على نسائهن. كما بدأت بعد سقوط النظام هجمات عنيفة ضدهن للضغط عليهنّ لارتداء الحجاب قسراً ومنع الاختلاط. أما في البحرين، فقد شاهد العالم على الفضائيات كيف يتم التعامل مع النساء في الاحتجاجات، وكيف يرشّ عليهن بعض المواد كأنّهن حشرات، وكيف تم اعتقالهن، فضلاً عن شهادات المعتقلات والتحقيق معهن المثبتة في تقرير «لجنة تقصّي الحقائق»، وما تردد عن السباب والتفوه بأقذع العبارات للبنات الصغيرات ممن يخرجن مع أهاليهنّ في المسيرات، إذ جاء الرد الرسمي على ذلك بما مضمونه: «الأولى استهجان من يستغل النساء ويزج بهن في أعمال مخالفة للقانون».
في تفسير ما سبق، كشفت بعض الآراء عن إشكاليات سجالية حين لا تضع في اعتبارها اختلاف أوضاع النساء في كل بلد، بل تكتفي بإعادة إنتاج الخطاب النمطي حول علاقة المرأة بالرجل، في الوقت الذي برهن فيه الواقع أنّ الأوضاع المتدنية التي تعانيها العربيات لها ارتباط وثيق بالاختلالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مجتمعاتهن. يقودنا ذلك إلى إثارة السؤال الآتي: هل نزول آلاف النساء إلى الشوارع، وما حدث من تحوّلات سياسيّة وتضحيات النساء ومعاناتهنّ سيحمل لهنّ الآمال، أم أنّ التاريخ سيعيد نفسه؟
للإجابة، لا بد من إدراك أنّ تحرك النساء حدث في مساحة زمنية شديدة الدقة والتعقيد. ورغم أنّ الشوارع والميادين قاربت بين الجنسين، إلا أنّها لا تستطيع تغيير واقع النساء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بكبسة زر، تماماً كما احتفالات «8 آذار». لماذا ذلك؟ لسبب بديهي يستوجب عملاً ضخماً وتراكمياً يحتاج إلى جهود التنظيمات النسائية والتيارات الحداثية، بدءاً من إعادة قراءتها لظروف مجتمعاتها بشكل مغاير، وخصوصاً علاقتها مع الإسلام التنويري، وتالياً بعدم الاكتفاء بالتفرج والنقد اللاذع واجترار التحليل التقليدي العقيم ذاته حول إما تخلف الدين وإما الارتماء في أحضان أنظمة الاستبداد كمنقذ.
* كاتبة بحرينية