«تحادثني والدتي على الهاتف وتسألني عن أحوالي، أخبرها عن التظاهرة التى نحضر لها في ١٤ كانون الثاني، والتي تطالب بتجريم العنف الجنسي ضد النساء أكثر. تصمت ولا تعلق، أحاول ان أبرر لها موقفي. تتدارك الموضوع: «حياتك وحرة فيها، اصطفلي! بس ليش عم تعملي فيّي هيك يا ماما، ليش؟». أصمت بدوري، كيف أحاول إقناع الوالدة التي يرعبها مجتمعها، بأنّ التظاهرة تتخطى الحدث. التظاهرة تمثل لي نمط حياة اخترته أنا. كيف ألخص للوالدة مئات التجارب السيئة والحاجة الماسة الى كسر الصمت. أغيّر الموضوع وأعدها بغداء سمك يعجب خاطرها (المكسور دائماً مني)، أصغر أخواتي، على حد تعبيرها، أكثرهن هضامةً وأثقلهن هماً، تقفل الهاتف وهي تقول «باي» للمرة الخمسين.
أشعر بعد المحادثة بحاجة ماسة لوجود أمي في حياتي، لوجود غير مشروط. لا أدري لماذا يخاف البعض مني، حين أعرّف نفسي بأني نسوية، يتغير الموضوع او يفتعل أحد ما نكتة غير مضحكة، يقهقه البعض بانفعال مفتعل. عادة ما يكون لدي نكتة مضادة جاهزة: لا تخافوا على أعضائكم التناسلية فأنا لا عنفية (هاهاها!). يسود الصمت وننشغل بالأحاديث الجانبية. أحس بالوقت يمضي سريعاً ويخلّف للنسويات في لبنان كمّاً هائلاً من العمل للالتفات له. أحس انّ الوقت عدو النسويات الاول، كل يوم يمضي ولا يكثر عددنا نوعاً وكمّاً، تصبح المخاطر أكبر، والطريق تصبح اصعب…» (المقطع السابق منقول من دفتر يومياتي الشخصية).
في الكتابات السابقة، خلال اعداد يوم المرأة في «الأخبار»، انتبهت إلى أنّ كتاباتي فيها شيء لا يشبهني، ولا يشبه الكتابة التي نبحث عنها كنسويات عربيات (او بعضنا على الاقل). هي تشبه الكتابة التي نوّد في جدّيتها الزائدة أن تضفي على المعلومات التي في داخلها إلحاحاً، وعلى الرأي الذي يتضمنها «وهرة» (لو كان بيدي ان أرسم «عبسة» فوق مقالاتي ما ترددت). فأنا أعاني قلق الكتابة، ككاتبة «شابة» (أمام الكاتبات المخضرمات)، أعاني خوف أن لا تؤخذ على محمل الجد اذا مزجت فيها بعضاً من تجربتي الذاتية والشخصية. ولأنّي «شابة» ولأنّي نسوية، أخاف أن يجري التهجم على كتابتي بصفتها «معادية للرجال»، او «كارهة للرجال»، دون الخوض في الأفكار التي أطرحها، والتي في أغلبها تؤول الى دعوة للنظر وإعادة النظر في الامتيازات الجندرية والعنف المتنوع الأشكال، والتسميات والممارسات على أساس الجندر فقط لا غير.
كنسوية لديّ هاجس التدوين والتوثيق، كما لديّ هاجس الكتابة والمعرفة. فكيف نكتب عن أنفسنا كنساء؟ وما هي العوامل التي نأخذها بعين الاعتبار؟ وما هي العوامل التي علينا الاستفاضة بشرحها؟ وكنسوية أيضاً، لدي هاجس اللغة والكلمة والمصطلح والصفة، وكل ما يمكن ان يزيد معنى على أي كلمة يمكن أن تساعدني على ان أفهم هويتي «الأنثى» وطبقاتها المتعددة، وكيف انّ الهوية تلك غير جامعة مقارنةً الهوية الجندرية الاخرى. فمثلاً، أتساءل دائماً إن كان الرجال حين يجلسون فيما بينهم، يبوحون لبعضهم البعض بمشاكلهم المتعلقة بهويتهم الجندرية، وهل يدعمون بعضهم البعض حين يدخل أحدهم في متاهة «هل أنا أب فقط؟ ام انا رجل أيضاً؟».
ان يصبح المرء نسوياً، معناه أن يعيد النظر في العديد من العوامل التي تشكل هويته او هويتها، وفي اساسها هي عملية تحرر على المستوى الفردي، ومن ثَمّ المستوى الجماعي، ولا يستطيع الفرد منا أن يهرب من هذه المستويات. فأن يكون المرء نسوياً في لبنان، معناه أن يقوم بعملية تعّرّ خاصة جداً، تبدأ بأسئلة شخصية غير أنّها سياسية محض. وعملية التعري تلك، ضرورية كي يرى المرء نفسه دون الطبقات التي عادة ما تحول دون ذلك.
أن تكوني نسوية في لبنان معناه أن تدركي أنّ النظام الطائفي هو وليد ووريث وحامي الأبوية في كل أشكالها. وحين تقررين الخروج عن سلطة الطائفة، عليك أن تعلمي مسبقاً أنّك تخرجين الى ارض مجهولة، حيث كل خطوة ستكون محفوفة بالأخطار المحدقة من كل حدب وصوب، والهدف الذي تصبين اليه غير واضح. العديد من المهتمات بالشأن النسوي، يفترضن أنّ النسوية هي المطالبة بما يسمى «حقوق المرأة»، وهذا هو الهدف البعيد الذي يجب ان نعمل عليه. لذلك، في مواضع عدّة، لا تفهم هؤلاء المهتمات لماذا لا تلبث ان تفشل جميع الادوات التي يستخدمنها للوصول الى هذا الطريق. في الحقيقة، لا شيء اسمه «حقوق المرأة» في فقاعة منعزلة، تسبح في فضاء شاسع تنتظر من يصلها بالعالم الحقيقي. وفي العادة نحن لا نفهم لماذا تلك الحقوق (البديهية) لا تلاقي الاستعطاف والآذان الصاغية من صانعي القرار (الحرب) في لبنان، ولماذا توجد هذه العقبات. وغالباً ما تبدأ المهتمات في تطمين المجتمع، إلى أنّ العائلة لن تمس وواجبات المرأة التقليدية لن يشوبها شيء، ويعلقن في دوامة محيرة جداً، ولا يحققن أياً من المكاسب (الحقوق).
في الأرض المجهولة تلك، تطرأ عملية تحوّل حصلت لكل شخص منا. فأن تكوني نسوية، عادة ما يعني أنّك تملكين قدرة هائلة، دون ادنى جهد منك، في أن تستفزي مشاعر العديد من المحيطين بك من اصدقائك، رجالاً ونساء. وفي الوقت نفسه، ستكونين عرضة لانواع عديدة من العنف الرمزي والتهميش والعزل. وفي فترات لاحقة، قد تصبح محاولة قمعك وصدك عنيفة اكثر، وقد تصبح حتى عنيفة جسدياً. ربما ستدفعك الحماسة الى إعلان نسويتك (التي تعتقدين مثلاً انّها حقوق المرأة، ولم تبدئي حتى في التعمق في الأبوية والتاريخ والجنسانية والكولونيالية وعلاقتها بالنسوية) وتواجهين أسرتك بالحقيقة، وتقولين إنّك مع المساواة وتودين في أحد الايام الاستقلال بمنزل خاص بك، وأن تقومي بما تريدين. قد يضحك أبوك وأخوك للوهلة الاولى، ويعدّان تفانيك في سبيل العدالة والمساواة امراً إيجابياً (الى جانب مهارتك في الترتيب المنزلي). وعندما تمارسين هذه القناعات، كأن تخبري أباك مثلاً انّك تريدين مزيداً من الحرية في مسألة الخروج والسهر، ستتغير ملامح وجهه، وسيسألك «هل تلك هي المساواة التي تنادين بها؟ هل هذه حقوق المرأة التي تتكلمين عنها؟ أم هذه دعارة وانفلات أخلاقي؟». هنا إما ستخضعين وتعودين الى ممارسة يومياتك العادية والتحضير خفية لأقرب طريقة للهرب (تستطعين أن تسميها ما شئت، عقد عمل في دبي، ماجيستر، او دكتوراه ومرات أخرى عريساً، وهو خطأ كبير)، أو ستسلكين درب الآلام.
إذا أردت أن تكوني نسوية في لبنان، فعليكِ أن تعلمي انّها طريق طويلة، ولا صلة لها بالافلام الاميركية التي شاهدتها عن الحق في الاقتراع مثلاً. وهي ليست ايضاً تظاهرات في الشارع مرة في الشهر، وهي ليست ان تأتي الى «نسوية» لحضور نقاش او حضور فيلم. كي تكوني نسوية في لبنان، عليكِ أن تعلمي انّها ممارسة يومية لحرية النساء. هي ان تدركي كيف تعيش النساء في عائلتك، وكيف يجري التعامل مع العاملة الأجنبية في بيتك اذا وجدت. هي أن تسألي نفسك «من أي طبقة أنا؟ وماذا أملك من امتيازات، وماذا فعلت بهذه الامتيازات؟». هي أن تسألي نفسك «ماذا سيحصل إن لم أضع الماكياج كل يوم؟». أن تسألي نفسك «ماذا يحصل للنساء في الأحياء الاخرى والمناطق الاخرى في لبنان؟». هي أن يصبح التحرش اكثر من احتمال فعل يطرأ كل يوم، بل يصبح خطة وطنية في ظل رفض السلطات أخذه على محمل الجد.
رغم إدراكك القمع العائلي التي تعيشينه، والأذى العاطفي المرافق له، ستعيدين النظر في العلاقة مع أمك، فهي السيدة الاولى في المنزل، وستنتبهين أنّها هي ايضاً عانت وعاشت تجارب عديدة، وقد انتصرت في بعض منها. ستنتبهين إلى أنّ طريق حريتكما واحدة، انت وهي حتى وإن كانت تطلب منك المحافظة على التقاليد والعادات. ستعلمين أنّك تكملين شيئاً هي بدأته، وهو صمتها. حين تكونين نسوية في لبنان، سيتحوّل الإيمان بالقضاء والقدر الى الايمان بالأضعف (أي النساء)، وستدركين أنك فرد موجود حقيقي، وقادر على ممارسة الحرية في يومياته، في العمل والسيارة والجامعة والبيت والعلاقات الشخصية والحميمة. فرد يقول لا ويقول نعم.
أن تكوني نسوية في لبنان، هو أن تأخذي قصة حياتك كما هي، وتأخذي في الحسبان، أنّ الفارس القادم على حصان أبيض والقصر الذهبي والعرس ذا الأربعين يوماً، وأطفالك «جاد ولين»، وعيد زواجك الخمسين، قد تكون كلها نسخة مملة عما تريدين، فأنت تريدين أن تكوني. ومن بعد أن تكوني تستطيعين أن تلتقي أو لا تلتقي شريكاً في الحياة، وتستطيعين أن تنجبي أو لا تنجبي. أن تكوني نسوية معناه أن تطالبي بالحق في الخيار في أن تكوني ما تريدين جعله من نفسك. النسوية، لمن يهمها الأمر، ممارسة يومية لحرية النساء.
* من «صوت النسوة»