تعرض ويتعرض العراق، شعباً وقيماً وإرثاً حضارياً، لعمليتي تشويه وتضليل شاملتين. هاتان العمليتان ليستا وليدتي اليوم، فقد أُلصِقَت مفردات العنف والدموية والقسوة والوحشية بالعراقي الفرد والعراق المجتمع على جهة التخصيص، والعربي الفرد والعربي المجتمع على جهة التعميم، منذ أمد بعيد. غير أنّهما اكتسبتا مضموناً وسياقاً جديدين نوعياً مع غزو العراق في 2003، وانهيار النظام الديكتاتوري القائم آنذاك كنتاج ثانوي لذلك الاحتلال، وصعود ظاهرة المقاومة العراقية مع ما رافقها من جرائم بشعة ارتكبتها القوى التكفيرية، وفي مقدمها تنظيم القاعدة باسم المقاومة والجهاد.تتعالى اليوم أصوات، بل جوقات أصوات في شتى وسائل الإعلام ومؤسسات الإنتاج الفكري والثقافي ضمن هجوم فكري وإعلامي تشنيعي يطاول كل ما هو عراقي تركز على مظاهر الرفض والمقاومة والمناهضة للاحتلال والطائفية. وتقوم تلك الأصوات على تشويه صورة المجتمع العراقي لتكون صورة مجتمع مريض بالعنف والإرهاب، وتصوير مقاومته للاحتلال كمجرد حملة من الذبح والخطف والتفجير. هنا محاولة أولى لتسليط الضوء التحليلي والتعريفي على الموضوع ومشمولاته لمناقشة هذا الموضوع، بادئين بإطاره التعريفي والنظري العام.
العُنْفُ في لغة الضاد «ضد الرِّفْق، وهو أيضاً الشدَّةُ والمَشَقَّة / لسان العرب». وأعنف الشيء أخذه بشدة، واعتنف الأمر جهله فلا علم له به، والعنفُ الغِلْظَةُ والصلابةُ، وعنفوان الشيء أولُه وغلب على الشباب والبنات.
والتعنيف هو التوبيخ والتقريع واللوم. سنلاحظ أنّ المعاني التي تنصرف إليها المفردة في العربية القديمة أبعد ما تكون عن «العنف» كما صارت تعني وتنصرف في زماننا هذا.
نلاحظ، ثانياً، أن المضمون المعياري، السلوكي والذوقي، وكلاهما يعني المتشابه الذي تؤول إليه شبكة المعاني التي أتينا على ذكر البعض منها، لا تقترب من المعنى الراسخ والأول الراهن، في مجموعة اللغات الهندو آرية. هنا، في اللغات الهندو آرية تحيل مفردة العنف إلى المضمون الجنسي الشبقي، فعلاً ومصدراً وتركيباً. وهذا ما تعلنه وتشير إليه القواميس المدرسية الأكثر شهرة واستعمالاً. ففي الانكليزية «قاموس المورد لمنير بعلبكي» تجد أنّ من مرادفات كلمة «VIOLENCE» عنف، أذى، اغتصاب لفتاة، اتقاد في الشعور. أما الفعل «VIOLATE» فيعني تحديداً: ينتهك حرمة، يغتصب فتاة، يدنس مقدسات. ومن مرادفات كلمة «VIOLATION» نقرأ أيضاً: انتهاك، تدنيس، اغتصاب لفتاة.
ولا نبتعد كثيراً عن هذه الإحالات والدلالات إذا تصفحنا قاموس اللغة الفرنسية «المنهل لسهيل إدريس»، حيث تتكرر المعطيات السابقة بصورة شبه حرفية، وأحياناً بوضوح دلالي أكبر. فالفعل «VIOLER» يعني: خالف، خَرَقَ، اغتصب امرأة، واسم الفاعل «VIOLATEUR» يعني فقط هاتك أعراض، مغتصب. وأخيراً، فإنّ عبارة «FAIRE VIOLENCE» والتي ترجمتها الحرفية «يمارس عنفاً» تعني «يغتصب» فقط.
ما الذي نريد التأشير عليه دلالياً بعد هذا الجرد؟ أولاً، إنّ الاتفاق الاستعمالي في عصرنا بين عنف «العربية» ومقابلاتها الهندو آرية، لا ينفي، بل يؤكد طبيعة البُنْيات والبيئات التاريخية والحضارية المختلفة، وما ينتج منها على صعيد المعطيات النفسانية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية. ثانياً، إنّ الانفصال والتباعد بين المعاني القديمة التي تحيل إليها مفردة «عنف» في اللغة العربية القديمة والتي تصب في مآل «ضد الرفق»، لا تعني، أو لا يجب أن تعني، موت واندثار تلك المعاني على المستويين الشعوري واللاشعوري. وذلك في الوقت الذي يجب فيه الاعتراف بأنّها صارت تنطوي على أغلب المُرادفات «الاجتماعية، والنفسانية، والسياسية، وبدرجة ما الأخلاقية» الخاصة باللفظة اللاتينية ومشتقاتها المعاصرات تحديداً، ضمن أطر الظاهرة التاريخية المبحوثة. ثالثاً، إنّ التأكيد على لزوم وضرورة استعمال المنهجيات «العلم نفسية» المختلفة في دراسة ظاهرة العنف، لا ينفي أو يعطل أيّة إمكانية مجدية لاختبار منهجيات تاريخية نقدية أو اجتماعية أو فينومنولوجية «علم ظاهراتية»، ضمن ما يمكن أن نطلق عليه المنهجية النقدية الشاملة التي لا تخلو من أسس انتقائية ذات أبعاد واستهدافات برغماتية. رابعاً وأخيراً، إنّ مناقشتنا هذه النظرية أو تلك، في علم النفس المجتمعي تحديداً كنظرية «فطرية التحريض العدواني» عند فرويد ولورنز، أو جدلية «الإحباط والعدوان» عند ميلر ودولارد وغيرهما، ليس تبنياً إيمانياً «ذا رائحة أيديولوجية»، بل هو توضيحي بالدرجة الأولى وتفسيري بالثانية، هدفه إعطاء صورة بانورامية مقتربة من الدقة باستمرار للظاهرة المبحوثة «العنف» وللوسائل النظرية «في علم النفس بشقيه».
تعتبر رسالة مؤسس علم النفس العام سيغموند فرويد الشهيرة والموجهة إلى الفيزيائي الألماني وصاحب نظرية النسبية ألبرت أنشتاين (وردت رسالة فرويد هذه ومجموعة من الدراسات المهمة لعدد من علماء النفس بين دفتي كتاب هو «حراكيات العدوان» والذي ترجم إلى اللغة العربية على يد الدكتور عبد الكريم ناصيف، تحت عنوان «سيكولوجية العدوان: بحوث ديناميكية العدوان لدى الفرد، الجماعة، الدولة»)، تعتبر وبحق شهادة ميلاد حقيقية لعلم النفس المجتمعي، وإشارة الانفصال الأكيد بين شقي هذا العلم الفتي إلى علم النفس الفردي والآخر المجتمعي. وبمعنى معين، يمكننا القول إنّ علم النفس الذي بدأ وشبَّ فردياً، معنياً بالإنسان الفرد، ظلّ في واقع الأمر هكذا، إنما كفرع خاص بعلم النفس المجتمعي وقد تفرع عنه. وقد شاء السياق التاريخي الموضوعي، أن يكون محور تلك الرسالة العنف الجماعي أو الحرب بوصفها شكلاً قصوياً من أشكال العنف. فقد كتبت في السنة ذاتها التي انتخبت فيها الأغلبية الألمانية المصوِّتة النازي أدولف هتلر زعيماً لألمانيا.
كان موضوع الرسالة، أو سؤالها الأول، قد أثير من طرف أينشتاين الذي كان المبادر لتلك المكاتبة، فقد طرح سؤالاً جامعاً مانعاً على فرويد، فيما كانت نذر الحرب العالمية الثانية تحوم في السماء، يقول: ما الذي يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها؟ ويعترف فرويد بأنّه شعر بالفزع لشعوره بالعجز عن معالجة ما كان يعتبره مشكلة عملية ومن مشمولات رجال الدولة. هكذا كانت البداية، وبمقدار ما كان فرويد عبقرياً ومتفرداً في دراسة موضوعه بأدواته العلم نفسية فقد كان ساذجاً كأي مواطن غربي من الطبقة الوسطى في قراءته التاريخية والسياسية لجدلية الحرب والسلام. إنّ العالِم المتميز في ميدان علم النفس يتحوّل إلى مادح ومروّج لانتصار الإمبراطورية الرومانية الدموية على العالم واستعبادها لشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط وما بعدها، ويعتبر أنّ الحروب الرومانية ساهمت في تحويل العنف إلى قانون، غدا استعمال العنف بموجبه مستحيلاً وأدى كل ذلك إلى إقامة نظام جديد، لم ينعته بالعالمي مع أنّه كان كذلك فعلاً، لحلّ الصراعات. وبهذه الطريقة، يضيف فرويد، أدى احتلال الرومان للبلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط لإعطاء هذه البلدان السلام الروماني الذي لا يقدر بثمن. والحقيقة، فقد كان بإمكان نازي ألماني نابه، إحراج مؤسس مدرسة التحليل النفسي من خلال سؤال مُقارِن، يقول: ولماذا تبيح للرومان ما تحرمه على النازيين الألمان؟ وكيف كان سيبدو العالم لو قُدِّرَ لهتلر أن ينتصر؟ لا أحد يستطيع المناكفة والعناد في أنّ «سلاماً نازياً لا يقدر بثمن هو الآخر» سيسود، لكنّه سيظل قائماً على العنف والعدوان على شعوب الأرض الأخرى كشقيقه السلام الروماني تماماً. وهنا، فإنّ الفرق بين «السلامين» الروماني والنازي سيكون فرقاً في درجة «عدد جثث الضحايا» وليس في النوع «المضمون الحقيقي».
* كاتب عراقي