أصبح الفلسطينيون، كما هو معروف، وبعدما تحوّلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى هيكل لا يحمل إلا الاسم فحسب، أكثر تشتتاً بعدما كانت المنظمة بمثابة «الدولة في المنفى»، حسب تعبير القيادي الراحل شفيق الحوت. وهذه الدولة الرمز، هي دولة الفلسطينيين جميعاً. اليوم تحوّلت هذه الدولة إلى دويلة «حلم»، لكونها اصبحت في الواقع دولة لجزء من الفلسطينيين، هم إخواننا في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أما الباقون فمصيرهم مؤجل إلى الحل النهائي. ويبدو أنّ هذا المشروع الذي حملته اتفاقية أوسلو (1991) وما تبعها، بدأ وقوده ينفد: فالدويلة لم تتحقق، واللاجئون الفلسطينيون يعودون بسبب الخيبة إلى ما توارثوه عن العودة وحقهم فيها، عن فلسطين، كل فلسطين من البحر إلى النهر.قد تبدو هذه الكلمات سابقة لأوانها، وهي قد تكون كذلك، لكن يبدو أنّ الشارع الفلسطيني بدأ يرسم طريقه ويشقّها مرة أخرى.
ولنكن اكثر وضوحاً وموضوعية، فإنّ مسيرتي العودة اللتين شهدتهما دول اللجوء في أيار وحزيران من العام الماضي، كانتا نقلتين نوعيتين في الحياة الفلسطينية، وذلك رغم المعارضة الكبيرة التي أبداها كثير من الفلسطينيين لمسيرة العودة الثانية في ذكرى النكسة، ولهم ما يبرر وجهة نظرهم. إلا أنّ ما حصل في هاتين المسيرتين قد أكدّ نهاية مقولة «الكبار يموتون والصغار ينسون». فمن شهد هذين اليومين، لن يرى إلا شباباً من أجيال المنافي يشقون طريقهم إلى فلسطين، وكان شهداء العودة شباباً في مقتبل العمر. لذلك، فإنّ الفلسطينيين في هذين اليومين أثبتوا للعالم أنّهم متمسكون بحقهم في العودة، وبفلسطين، من بحرها إلى نهرها.
من جهة أخرى، فإنّ الفصائل الفلسطينية كذلك لها في قلوب الفلسطينيين «معزّة» خاصة. فمنظمة التحرير، كما ذكرت سابقاً، كانت بالنسبة لهم «دولة في المنفى». بمعنى أنّ الفلسطيني كان يشعر بالأمان في ظلّها، إذ كانت تنطق باسمه عموماً، ومؤسساتها هي مؤسساته، وهي مرجعية لا يحيد عنها احد عندما كانت تحمل «المشروع الوطني الفلسطيني» الموحّد، الذي يلتف حوله الفلسطينيون.
ومعلوم انّ المنظمة هي أشبه بائتلاف للفصائل الفلسطينية التي تمثل الآراء المختلفة للشارع الفلسطيني، وأنّ هذه الفصائل تتحدث باسم من تمثلهم، في سبيل تحقيق هدفهم المتمثل في العودة والتحرير. وهما الهدفان اللذان يختصرهما الميثاق الوطني الفلسطيني في بنوده جميعاً.
اليوم، وفي العام الرابع والستين على النكبة، والعام السابع والأربعين على انطلاقة الثورة، وبعد تسعة عشر عاماً على توقيع اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو، تغيّرت مكانة الفصائل الفلسطينية في قلوب الفلسطينيين. اليوم يبدو أكثر وأكثر أنّ الهوة تتسع بينهما، وأنّ العلاقة تعاني من إشكاليات عدّة أبرزها أزمة القيادة، وأزمة المسؤولية، وأزمة الحماية، وأزمة الثقة. تاريخ القيادة الفلسطينية سمح للكثيرين أن يكونوا قادة لهذا الشعب. ومنذ الخروج من بيروت، لا يوجد نظام سياسي فلسطيني واحد، بل هيكل نظام، وقد سمح هذا بأن يكون البعض قادة لفصائل أو قادة في فصائل، بالتالي قادة لجزء من الشعب الفلسطيني. وتسمح صفة القائد بأن يتحدث الشخص المعني باسم الشعب العربي الفلسطيني كله.
هذا الانقلاب في جذور القيم الوطنية، جعل من القيادة مدخلاً للتصارع الداخلي في كل فصيل للوصول إلى سدةٍ تتيح المنصب والسلطة والجاه والمال. ويقيم قائد كل فصيل تحالفات باسم الفلسطينيين لا هدف لها سوى أن يبقيه تحالفه «قائداً»، حتى درج في الشارع الفلسطيني مصطلح «دكان الفصيل الفلاني». وبين الجد والهزل ترى شباناً فلسطينيين يتحاورون فيقول أحدهم «تعالوا لنؤسس فصيلاً، رأسمالها مكتب وسيارة بيك آب وميكروفون وتحالف مع دولة ما»! إن دلّ هذا على شيء، فإنما على وعي عميق للشارع الفلسطيني لجوهر هذه الفصائل، والفراغ السياسي الذي صنعته مع الغياب الفعلي لمنظمة التحرير، إضافة الى الهوة الكبيرة التي تفصل بين الفلسطيني في واقعه المعيش، وبين المشروع السياسي الذي تسير به الفصائل كل على حدة، أو وفقاً لتحالفاتها.
وإذا كنا نريد الخروج من باب التنظير وندخل باب الموضوعية، فلنستمع إلى آراء كوادر هذه الفصائل قبل الحديث عن عامة اللاجئين. الانتقاد الأول والرئيسي الذي يبدأ به كل متحدث هو الفارق المعيشي الكبير بين القيادات والكوادر في الفصيل الواحد. الفارق في المسكن والمأكل والمشرب والملبس والراتب، أو كما يحلو لبعض الفصائل أن تسميه «المخصص» أو «المساعدة». هذا الفارق الطبقي بين القائد والكادر ليس الانقسام الوحيد داخل كل فصيل فلسطيني. فقادة كل فصيل أيضاً منقسمون على بعضهم، حتى أن بعض الفصائل شهدت تحالفات مختلفة باختلاف تحالفات قادته، أو باختلاف مكان تواجد مكتب هذا الفصيل او ذاك.
وفي كل فصيل، يوجد ما يمكن تسميته بالرجل الثاني والذي يكون قادراً في أي لحظة على شق هذا الفصيل. بالمختصر فإنّ كل فصيل فلسطيني منقسم على نفسه. ويقول مسؤول الشتات في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الدكتور ماهر الطاهر بأنّ التباين الذي قد يحصل أحياناً بين قيادات الفصيل الواحد ما بين الداخل والخارج، مردّه إلى ظروف هؤلاء القادة وإشكالياتهم التنظيمية المختلفة باختلاف المكان وظروفه. لكن تبدو الإشكالية أكبر من ذلك، وإن كان بالإمكان أن يبنى عليها الكثير. فلم تخف مثلاً قيادات حماس في غزة، انزعاجها من الاتفاق الذي وقعته الحركة مع فتح (اتفاق الدوحة).
والانقسام يتوسع إلى دائرة اكبر وأخطر مع بناء كل فصيل لتحالفاته الخاصة بناءً على مصالحه الشخصية والحزبية. وليس الانقسام بين حركتي فتح وحماس هو الانقسام الوحيد بين الفصائل الفلسطينية، لكنّه الأوضح. وليس المشروع السياسي من يحمل الفصائل على الانقسام في ما بينها، وإنما للأيديولوجيا دورها أيضاً.
في 2007، زار قيادي في حركة الجهاد الاسلامي في قطاع غزة مخيم اليرموك في دمشق، وسمعت منه يومها في معرض الحديث عن الانقسام، ما اصابني بالذهول. فقد أعلن أنّ اتفاقاً كان سيوقع بين حركتي الجهاد وحماس، لولا استشهاد الراحل محمد ياسين، مما ادى إلى توقف المحادثات. كان الهدف من هذه المحادثات هو أن تسمح حركة الجهاد لحركة حماس بأن تستخدم مساجدها في غزة ثلاثة أيام في الأسبوع، في المقابل تسمح حركة حماس لحركة الجهاد الاسلامي باستخدام مساجدها أيضاً ثلاثة ايام أسبوعياً. عندها، ادركت انّ لكل من الحركتين مساجدها الخاصة بها! ظل السؤال يراودني: الحركتان إسلاميتان، الحركتان نشأتا من جذور الإخوان المسلمين، نهجهما الجهاد (كان حينها نهج حماس أيضاً)، فلم توجد في فلسطين حركتان إسلاميتان؟
كنت أظنّ أنّني سأجد الجواب لدى القيادي في حركة حماس، الدكتور موسى أبو مرزوق، في مقابلة أجريتها معه في 2009. وبعد رفضه الحديث عن موضوع تبادل المساجد، ألححت عليه بتفسير وجود حركتين إسلاميتين، ليخلص في النهاية إلى أنّ السياق التاريخي لنشوء كل منهما متباين، بعدما تبلورت كل حركة بمنأى عن الأخرى وأصبح لها هيكلتها التنظيمية. وقال «لا أظن انّ أميناً عاماً لحركة يرضى بأن يتحوّل إلى عضو مكتب سياسي إذا توحدت الحركتان، ثم ان لحركة الجهاد أيديولوجيا إسلامية تحمل رؤيات لا تتفق مع ما تتبناه حركة حماس». قد يفهم التباين في الرؤيات السياسية، والأيديولوجيا، لكن أعتقد أنّ تعميق الانقسام إلى درجة المحاصصة في المساجد، قد أودى بالمجتمع الفلسطيني في غزة إلى انقسام اجتماعي، تبلور في اقتتال الحركتين أكثر من مرة.
بمثل هذه الانقسامات فقد الفلسطينيون الوحدة حول نظام سياسي جامع في مشروع وطني موحد. هذه الانقسامات التي تمتد من داخل كل فصيل لتظهر معالمه في المحيط. وسيكون للانقسام بسبب التحالفات الفصائلية المنفردة، أثره على الشعب الفلسطيني برمته، الذي سيصبح مضطراً لأن يكون تحت رحمة تحالفات كل فصيل في الدول المضيفة والتي تتحكم بتوزع القوة الفلسطينية.. ويسهل للدولة المضيفة التحكم بكل جماعة فلسطينية لديها، كورقة سياسية للضغط والاستخدام وقت الحاجة إليها، مما سيبلور في ما بعد كل جماعة من الفلسطينين في الدول المضيفة كجماعة مختلفة تماماً عن الفلسطينيين في دولة مضيفة أخرى. وتصبح سياسة الدولة المضيفة هي المحدد الأبرز للرؤيات السياسية للاجئين على ارضها، وبذلك ستفرز الفلسطينيين في دول اللجوء والمنافي وفقاً لسياسات الدول المضيفة. كل هذا هو نتيجة للسياسات الفصائلية المنفردة التي أفقدت الفلسطينيين وحدتهم وأثرت سلباً في الثقة بين الشارع وفصائله، وعلى قدرة الفصائل على تحمل مسؤولياتها تجاه شعبها بعدما تبيّن عجزها التام في امتحان مثل مخيم نهر البارد.
وفي لبنان، يعاني الفلسطينيون الجزء الأكبر من المعاناة، وإن كان شعورهم بهذه المعاناة بدأ ينحو منحى آخر. فوجودهم كلاجئين إلى حين العودة بقرار سياسي، جعلهم يكثرون على مدى العقود الماضية من إلقاء اللوم على الحكومات اللبنانية المتعاقبة، ويحمّلونها مسؤولية حرمانهم، بقرارات مجحفة، من حقهم في حياة كريمة. اليوم يبدو واضحاً، ومن خلال المقابلات التي أجريتها في المخيمات، أنّ الأمور تتوجه نحو مسار آخر. فالفسطينيون يلقون اللوم على أنفسهم في وضعهم الحالي. وتسمع في المخيمات الكثير من العبارات التالية: «كيف لنا أن نسعى إلى العيش الكريم في دولة مثل لبنان في الوقت الذي لا يعير فيه قادتنا الذين يتحدثون باسمنا أي اهتمام لمعاناتنا، ولا نسمع سوى خطابات ولقاءات بين الجانبين الفلسطيني واللبناني لم تسمح لي بالعمل، ولم تسمح لي بأن يكون لي منزل أورثه لأبنائي؟» كما يقول محمد، أحد كوادر فصيل فلسطيني في لبنان. والحل كما يراه محمد هو الثورة على السياسة الفلسطينية الحالية.
الوضع مماثل في مكاتب الفصائل في سوريا، حيث نجد جمود الحراك داخل الفصائل، إشكاليات موازنات المكاتب، والتأثيرات الكارثية للانقسام على الحياة الاجتماعية. هذه السياقات كلها، وبكافة مستوياتها، فجّرت الغضب الشعبي الفلسطيني في السادس من حزيران 2011، إذ لم يسلم قيادي فلسطيني واحد من لسان الغاضبين. يقول أحد القادة الفلسطينيين البارزين في ذلك اليوم: «عندما سمعت الهتافات تتصاعد ضدنا، ركبت سيارتي وغادرت التشييع»، (في إشارة الى تشييع شهداء المواجهة في الجولان في ذكرى النكسة والذي تحوّل الى مواجهة فلسطينية ــ فلسطينية). بينما أكدت القيادة العامة وهي إحدى الفصائل الفلسطينية الخمس الكبرى، في ذلك اليوم أنّ الهوة التي تفصل بين الشعب وفصائله قد كبرت إلى حد إطلاقها الرصاص الحي على المتظاهرين الفلسطينيين العزّل، فأردت قتلى، وتسببت في جرح العشرات، ممن وجد هذا الفصيل لأجلهم.
وفي ظل الربيع العربي، بدأ الغضب الفلسطيني يتعاظم. وهو وإن بدأ يعبر عن نفسه بمساندة الثورات العربية والشعوب الثائرة، فإنّه يوجد اليوم من المؤشرات ما يدفعنا للقول بأنّ انطلاقة ثانية للثورة الفلسطينية على أهبة الانفجار.
الغضب الفلسطيني الذي عمّ الأراضي المحتلة عام 1948والضفة الغربية، دعماً للثورات العربية، ليس سوى امتداد لما يشعر به هؤلاء الفلسطينيون جميعاً من الحاجة الماسة إلى أن تعود إليهم الروح الفلسطينية الجمعية. فالفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948والذين عانوا تاريخياً من إهمال منظمة التحرير الفلسطينية لهم، تُركوا وحدهم بعد النكبة في مواجهة آلة التهديد الاسرائيلية، التي حاولت إعاد صياغة الوجود الفلسطيني في إطار مجتمع إسرائيلي، مستخدمة ما سمّاه المفكر الفلسطيني عزمي بشارة «أسرلة» الفلسطينيين. وإسرائيل، وإن نجحت بشكل محدود في إعادة تشكيل الأقليات الفلسطينية، إلا أنّها دائما ولا تزال تفاجئ عند كل مناسبة ممكنة بالعمق القومي للعرب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948. فضلاً عن التهديد المستمر بالتهجير داخل أو خارج فلسطين، مما يجعل الفلسطينيين في حال توتر وتأهب دائمين لمواجهة أي محاولة لتنفيذ مخططات كهذه.
* كاتب فلسطيني مقيم في دمشق