يستحق أنطوني شديد أن يُكتب عنه. خبر وفاته ملأ الصحافة الغربيّة. لكن خبر وفاته حظي بتغطية في الصحافة العربيّة أيضاً، لأسباب خاطئة أو ضارّة على الغالب. لماذا تمرّ أخبار الاعتداءات على الصحافيّين العرب عرَضاً أحياناً (من غطّى اعتداء أنصار الحريري على سيّارة مراسل «الجديد»، رامز القاضي، في بيروت؟ من غطّى خبر الاعتداء على منزل مراسل «السفير» في سوريا، أو خبر قتل «ثوّار» الحلف السعودي ـــــ القطري في حمص لمراسل فرنسي؟ كشفت جريدة «لو فيغارو» مسؤوليّة «الثوّار»، ما يفسّر صمت الصحافة الغربيّة عن اغتياله، وإلا كان مجلس الأمن قد تدخّل، أو خبر اعتقال النظام السوري المدوّنين والمدوّنات)، ومنظمة «سكايز» مشغولة في خوض صراعات آل الحريري وسائر الممولّين وفي التزام شروط عدم مقاطعة العدوّ الإسرائيلي. لا جدال: الصحافي الغربي لنقل الرجل الأبيض يحظى بأهميّة قصوى، وهو أكثر قيمة في نظر مُستبطني عقيدة الاستعمار بيننا. هناك صحف عربيّة تنشر مقابلات طويلة مملّة مع مراسلين أجانب (أوروبيّين فقط لا آسيويّين أو جنوب أميركيّين) لمجرد أنّ فيهم مسحة الرجل الأبيض، وحتى لو لم يكن لديهم ما يقولون عن العالم العربي. جريدة «السفير» باتت متخصّصة أخيراً، على طريقة «النهار» العريقة، في ترجمة كل ما يقوله أي رجل أميركي عن العالم العربي، حتى لو كان غير عليم في شؤون المنطقة، وهي تحرص على إجراء مقابلات مع كل مارّ غربي في لبنان. إنّها، مرّة أخرى، عقدة الرجل الأبيض. أذكر أنّ جريدة «النهار» أجرت مقابلة مع توماس فريدمان في 1982 ولم يكن لديه ما يقوله عن لبنان والمنطقة. يسألون فريدمان يومها عن توقّعه لمستقبل لبنان وكان بالكاد قد تعلّم اسم عاصمة لبنان. لكن، ماذا تقول عن الذي يرى تفوّقاً في عنصر غيره ويرى دونيّة في نفسه؟ ماذا تقول عن الذي يتسقّط أخبار وطنه عبر استفسار لجوج لكل مارّ غربي في بلاده التي يحبّها حبّاً جمّاً؟ نحن في عصر صحافة يكرّس فيه سركيس نعوم معظم مقالاته لما يُمكن أن يُدرج تحت باب «حدّثني الرجل الأبيض الأميركي قال...»، بعدما كانت مقالاته تندرج لسنوات تحت باب «حدّثني عبد الحليم خدّام قال...».لو كان الذي مات في سوريا من أزمة ربو حادّة غير أنطوني شديد، لما استحقّ أن نكتب عنه. هذا مراسل من غير صنف ومن غير مدرسة ومن غير منهج. وحكاية المراسلين الغربيّين في بلادنا حكاية طويلة تتداخل فيها الصحافة مع السياسة مع الاستخبارات مع الجهل مع الدعاية المدفوعة ـــــ ما يمكن أن يُصنّف في خانة «الحرب النفسيّة» (تسرّبت تقارير في الصحافة الأميركيّة عن شركة متعاقدة مع وزارة الدفاع الأميركيّة لنشر مقالات مفيدة للحرب الأميركيّة في العراق في الصحافة العربيّة بعد ترجمتها، كما تحدّثت «نيويورك تايمز» بعد 11 ايلول عن تنسيق بين الحكومة الأميركيّة و«الصحافة العربيّة الصادرة في لندن» ـــــ ليس في الأسماء أحاجٍ).
لا شك في أنّ هناك ضرورة للتمييز بين مراسلي أوروبا ومراسلي أميركا ومراسلاتها في بلادنا. كان العرف الصحافي بعد الحرب العالميّة الثانيّة أنّ المطبوعة والإذاعة (والمحطات التلفزيونيّة في ما بعد) تعتمد على مراسل مقيم، ويكون هو ملمّاً بشؤون المنطقة وثقافتها ولغتها وأحوالها. كان (في التصوير المثالي) يعيش مع أهلها ويتحدّث بلغتهم ويتفهّم معاناتهم وينقلها في أحايين. وكان المراسل مقيماً إمّا في الكيان الغاصب وإما في بيروت. وكانت بيروت جذّابة لهم تلك الأيّام (وكتب سعيد أبو الريش في بار السان جورج ـــــ حيث كان يتجمّع الصحافيّون الأجانب ـــــ كتاباً ضمّنه بعض مغامرات تلك الحقبة التي عاش فيه الجاسوس كيم فيلبي، مراسلاً)، وخصوصاً لأنّها سهلة على الرجل الأبيض لفرط معاناة الشعب اللبناني من عقدة الرجل الأبيض. كان المراسل يطير من بيروت إلى تلك المدن التي تشهد أحداثاً جساماً أو انقلابات أو قلاقل أو ثورات. الحياة في رأس بيروت كانت قريبة من الحياة الغربيّة التي يألفها المراسل (كما يفضّل المراسلون الأجانب هذه الأيّام منطقة الجمّيزة). لكنّ عدداً من المراسلين أخذ المهمّة على محمل الجدّ وأصبح خبيراً جديّاً في شؤون الشرق الأوسط. مراسل «لوموند»، إريك رولو، ينافس الكتابات الأكاديميّة في عمق تحليلاته وسعة اطّلاعه وقربه من الحدث. وكان رولو ضليعاً باللغة العربيّة ويتحادث مع عبد الناصر باللهجة المصريّة، ويتكلّم مع الناس العاديّين بلغتهم (اختاره صديقه فرنسوا ميتران في ما بعد سفيراً له في تركيّا). وعاصره عدد من المراسلين البريطانيّين الذين وصلوا إلى درجة عميقة في التخصّص في دراسات الشرق الأوسط: نتذكّر باتريك سيل، مثلاً، في كتابه المرجعي، «الصراع على سوريا» (لكن سيل، للأسف، اعتزل الصحافة وتحوّل إلى كاتب سيَر ترويجيّة لحكّام وأمراء: من سيرة حافظ الأسد إلى سيرة خالد بن سلطان. وهو اليوم يكيل المديح لآل سعود في صحف... آل سعود).
والصحافي ديفيد هرست وضع كتاباً يصلح لأن يكون مرجعاً تعريفياً بالقضيّة الفلسطينيّة («البندقيّة وغصن الزيتون»). وينطبق الكلام نفسه على الصحافي البريطاني بيتر منسفيلد الذي وضع عدداً من الكتب عن تاريخ العرب وعلاقاتهم بالغرب، وكان فيها منصفاً. أما الصحافي السويسري، آرنولد هوتنغر، فقد كان أوّل من درس على مستوى العلوم السياسيّة الحديثة ظاهرة الزعامة التقليديّة في لبنان (راجع دراسته في الكتاب الذي حرّره ليونارد بايندر وكان خلاصة لمؤتمر عن لبنان عُقد في الستينيات بجامعة شيكاغو). وظاهرة تخصّص الصحافيّين تنطبق على المراسلين الروس، مثل يفغيني بريماكوف، الذين وضعوا كتابات أكاديميّة عن الشرق الأوسط (وكان عدد من هؤلاء من متخرجي مدرسة الاستشراق الروسيّة. لكن الاستشراق الروسي يعاني مشاكل وانحيازاً وعداءً لا تختلف عن انحياز الاستشراق الغربي، لكن هذه قصّة أخرى تحتاج إلى دراسة).
لكنّك لا تستطيع أبداً أن تطرح اسم صحافي أميركي واحد في مستوى هؤلاء. لم يبرز صحافي أميركي واحد في مستوى هؤلاء. هناك من اشتهر في تلك الحقبة، مثل الصحافي أرنو دو بورشغراف، وهو يميني متطرّف اختاره القس سن مينغ مون لتحرير جريدة «واشنطن تايمز» عندما انطلقت في واشنطن لمنافسة «واشنطن بوست» من منظار المحافظين (القدماء والجدد). لكن أرنو هذا لم يلمّ بالعربيّة أو بالتركيّة، ولم يسع في تجواله على المنطقة في الستينيات والسبعينيات مراسلاً لمجلّة «نيوزويك» إلى تعميق دراسته للشرق الأوسط وثقافته وشجونه. على العكس، اتسمت دراساته بالسطحيّة والتركيز على الرؤساء والنخبة. كان يتقرّب من نخبة القوم، وكانت كتاباته تعاني مبالغات وتعميمات وتسطيحات. المهم أنّ الصحافة الأميركيّة لم تنتج ظاهرة برّاقة وساطعة مثل رولو أو منسفلد أو بريماكوف. وكانت الصحافة الأميركيّة ـــــ طبعاً ـــــ أكثر هوساً بمصلحة إسرائيل، لكن الصحافة اليمينيّة (مثل «يو. إس. وورلد اند نيوز ريبورت») كانت أكثر ميلاً لوجهة النظر «العربيّة»، لأنّ الحزب الديموقراطي كان معقل الصهيونيّة فيما كان الحزب الجمهوري أقرب إلى مصالح شركات النفط التي توجّست من الالتصاق الأميركي بمصالح إسرائيل (اليوم، أصبح الحزبان معقلين للصهيونيّة على حدّ سواء).
لم تخل الصحافة الغربيّة من مشاكل، وخصوصاً تلك التي كانت تمثّل وجهات النظر الصهيونيّة. كذلك إنّ التعميمات الاستشراقيّة التي ملأت الدراسات الأكاديميّة أثّرت بدورها على الإنتاج الصحافي الغربي. لكن بعض المراسلين الفريدين كانوا متميّزين في تحرّرهم من سطوة المنهج الاستشراقي. الصحافة الأميركيّة كانت (ولا تزال) أقلّ تخصّصاً من الصحافة الأوروبيّة. المراسل الأميركي، مع استثناءات قليلة، كان جوّالاً حول العالم مع حرص بعض الوسائل الشهيرة على إبقاء مراسل في تل أبيب وآخر في بيروت في تلك الأيّام.
لكن التغطية الصحافيّة ساءت كثيراً في الثمانينيات نتيجة انخفاض المردود المالي لوسائل الإعلام وشراء وسائل الإعلام من قبل شركات عملاقة تسعى وراء الربح (مثل شراء شركة «إن.بي.سي» من قبل «جي.إم» وشراء «إي.بي.سي» من قبل «ديزني» وهلمّ جرّاً). وهذا أدّى إلى تدنّي المستوى الصحافي وازدياد العامل التجاري والضغط المستمرّ لعصر النفقات. وعصر النفقات يُترجم في الصحافة الغربيّة بتقليص نفقات التغطية الخارجيّة (خصوصاً في أميركا) بسبب كلفة إقامة مكاتب وتوظيف فريق عمل في عواصم أجنبيّة بعيدة. والتغطية الخارجيّة تدنّت كثيراً منذ السبعينيات: لا الشعب يريد أن يسمع أخبار الكونغو ولبنان وباكستان ونيكاراغوا، ولا الإعلام يكترث. أصبحت السياسة الخارجيّة مسألة تهم النخبة، ولا تتعلّق بالعوام إلا عندما تريد الحكومة ـــــ أية حكومة ـــــ أن تعبّئ الشعب وراء حملة عسكرية أو غزو أو احتلال. عندها، تنقاد الصحافة مطواعة.
وإغلاق المكاتب غيّر طبيعة التغطية الإعلاميّة في الشرق الأوسط. لم يعد الإعلام يحرص على «تربية» أو «تنشئة» خبراء مقيمين ومقيمات (بدأ الإعلام متأخراً في السبعينيات في الاعتماد على مراسلات). العمليّة باتت مُكلفة وغير ذات جدوى. عدم الاكتراث يطغى، والناس مشغولون بأخبار المشاهير والصراع بين الحزبيْن. أصبحت الشبكات التلفزيونيّة والصحف تعتمد على المراسل الجوّال: يأتي إلى لبنان، مثلاً، حسب الحاجة (عندما تندلع اشتباكات تصيب أميركا بالضرر أو عندما تندلع تظاهرات تنادي بحياة بوش كما حصل مع انتفاضة «ثورة (حرّاس) الأرز»). ديفيد شبلر، مراسل سابق لـ«نيويورك تايمز»، خدم في فلسطين المحتلّة ثم خدم في موسكو (ووضع كتابيْن عن التجربتيْن، مع أنّه لم يقم أكثر من سنة ونصف أو سنتيْن ولم يلمّ بالعربيّة ولا بالعبريّة ولا بالروسيّة). مراسلة «لوس أنجلوس تايمز» القديرة في بيروت، ميغان ستاك، أقامت في لبنان وغطّت بمهارة «ثورة (حرّاس ) الأرز» ـــــ وكان أحمد فتفت يأخذ راحته في الحديث المذهبي أمامها كما أخبرتني ـــــ لكن إدارة الصحيفة عادت وطلبت منها أن تذهب إلى موسكو لتغطية أخبار ذلك البلد (أصرّت على تعلّم الروسيّة من دون أي طلب من الصحيفة). إن معرفة لغة البلد المُغطّى ليست شرطاً في أي من وسائل الإعلام الأميركيّة.
توماس فريدمان يأتي من هذه الخلفيّة. درس الشرق الأوسط في واحدة من أعتى الجامعات صهيونيّة في أميركا (جامعة برنديس التي عيّنت كنعان مكيّة أستاذ الدراسات العربيّة فيها بعدما تلقّى شهادة دكتوراه فخريّة من إسرائيل تقديراً منها لصهيونيّته، رغم عدم حصوله على دكتوراه غير فخريّة، ورغم عدم حيازته أي شهادة في العلوم الاجتماعيّة)، ثم درس العربيّة لسنة في أوكسفورد (ولم يبلغ في دراستها أكثر من الدرجة التي تتيح له طلب سندويش فلافل بالعربيّة وبصعوبة بالغة وبلكنة غير مفهومة). توماس فريدمان كان مراسلاً في بيروت ثم في فلسطين المحتلّة، ثم أصبح مراسلاً اقتصاديّاً، قبل أن يصبح معلّقاً حول كل المواضيع (مثلي يعني ـــــ بس الشبه بعيد، في المرتّب وفي الوجهة السياسيّة وفي النفوذ والتأثير).
لكن أنطوني شديد كان من غير صنف. لم ألتق به قطّ، لكنّه اتصل بي للمرّة الأولى في 2001، وكان مراسلاً لـ«بوسطن غلوب». وفي عمله للصحيفة، غطّى بشجاعة وثبات الانتفاضة الفلسطينيّة، وسرعان ما ميّز نفسه عن المراسلين الكسولين الذي يكتفون بترداد المقولات الصهيونيّة عن الصراع، أو الذين يدركون الحقيقة لكنّهم يخافون الجهر بها. هذه الشجاعة التي بدرت عن شديد أزعجت قوّات الاحتلال: وفي 2002 في رام الله، تعرّض شديد لإطلاق نار من قبل قوّات الاحتلال. لم يشكّك لحظة في هويّة مطلقي النار، إلا أنّ «نيويورك تايمز» رفضت تحميل قوّات الاحتلال المسؤوليّة، وتحدّثت عن تعرّضه لإطلاق نار في رام الله، موحية بخبث أنّ مُطلق النار فلسطيني.
شعرت من أوّل مقابلة بأنّه غير المراسل الأميركي التقليدي. كان حريصاً على الكتابة عن الشرق الأوسط من خارج القوالب والصيغ والتعابير الجامدة السائرة. كان آنذاك يكتب عن موضوع «الإسلام السياسي» ويرفض المناهج الاستشراقيّة الجاهزة في الصحافة الغربيّة الأميركيّة بصورة خاصّة. وكان جدّيّاً في العمل على تحسين لغته العربيّة، وقد تحسّنت بعد انتقاله إلى العالم العربي. برز شديد في «بوسطن غلوب» وانتقل بعد سنوات إلى «واشنطن بوست» حيث غطّى الحرب الأميركيّة على العراق. تلك التغطية نال عليها شديد جائزة «بوليتزر»، وهي أرفع شرف يناله صحافي في هذه البلاد. وأسلوب شديد في التغطية هو عكس أسلوب فريدمان. فريدمان لا يكترث للناس العاديّين. فريدمان يذهب إلى بلد ما (يقضي فيه ساعات أحياناً فقط) ويتحدّث مع عِلية القوم في قصور أو فنادق فخمة، ثم يعود بانطباعات وتعميمات عن الرأي العام وعن تطلّعات الناس. أنطوني شديد ليس من الصنف الذي يعوّل على آراء النخبة. يتحدّث مع الناس العاديّين ويقضي وقتاً طويلاً في التحدّث إليهم.
غطّى شديد «ثورة (حرّاس) الأرز» وكانت تغطيته (مثل تغطية ميغان ستاك في «لوس أنجلس تايمز») فريدة من حيث عدم وقوعها في غرام آل الحريري وفي عدم انقيادها لتوجّهات إدارة بوش. حافظ شديد على مسافة ورفض أن ينقاد وراء الشعارات الفارغة لحركة الأمير مقرن في لبنان، عندما كانت كل الصحافة الغربيّة تنقل بيانات المكتب الإعلامي في قريطم بحذافيره (وللأمانة، لم يكن زميل شديد في الـ«تايمز»، روبرت ورث، مأخوذاً بـ«ثورة (حرّاس) الأرز»). كان شديد مميّزاً أيضاً في تركيزه على الانقسام اللبناني في الوقت الذي كانت فيه الصحافة الغربيّة تفترض أنّ آل الحريري يحظون بتأييد كل الشعب اللبناني.
كنت عبر السنوات على تواصل مع شديد. كان ـــــ مثل غيره من الصحافيين والمراسلين الأميركيّين العاملين والعاملات في الصحف والشبكات المعروفة ـــــ يطلب منّي ألا أفصح على مدوّنتي عن تواصلنا. التواصل مع «عربي غاضب» مضرّ بالمستقبل المهني حتى لمن كان يتمتّع بسمعة شديد. كان شديد حريصاً على ألا تكون تغطيته مماثلة للتغطية الأميركيّة العاديّة التي أنتقدها يوميّاً على مدوّنتي. وكان شديد التواضع في ردوده، كذلك فإنّه كان رحب الصدر في تلقّي الانتقادات. وكان من القلائل الذين كنت أحياناً أكيل المديح لمقالاتهم. لكنّه تبرّم من نقدي مرّة واحدة على ما أذكر. كنت شديد النقد للتغطية الأميركيّة للوضع في سوريا، وخصوصاً أنّ الصحافيّين كانوا (وبعضهم لا يزال) يعتمدون على واحد أو اثنيْن من المهاجرين السوريّين المقيمين في واشنطن (والقريبين من المنظمات الصهيونيّة). وافق شديد على هذه النقطة، لكنّه أضاف في رسالة خاصّة أرسلها لي: «ولوّ، يا أسعد. لقد حوّلتني إلى ألعوبة بيد الصهاينة... وأنا الذي جازف بحياته لتغطية المجازر الإسرائيليّة». تأثّرت بردّه وتيقّنت أنّه حريص جدّاً في ما يفعله وأنّه يفكّر في تغطية الحدث وفي نمط التغطية معاً، وفي الوعي لعدم تقاطع التغطية مع النمط المألوف في التغطية التقليديّة.
انتقل شديد من «واشنطن بوست» إلى «نيويورك تايمز» في السنوات الأخيرة. والثانية تُعَدّ قمّة الصحافة في الغرب، رغم عنصريّتها وانحيازها المفضوح ضد الشعب الفلسطيني. لكن شديد كان محظوظاً بأنّه انتقل إلى «تايمز» بعدما بنى اسماً لنفسه: أي إنّه كان قويّاً في قدرته على الثبات في مواقفه وفي نمط تغطيته والتمتّع بشيء من الاستقلاليّة. لم يحتج شديد إلى الرضوخ لمعايير «تايمز» الصهيونيّة. ومن دون مبالغة، يمكن القول إنّ المئات من مقالاته لم تتضمّن مرّة مسايرة للصهيونيّة أو للمصلحة الإسرائيليّة. وهذا ليس بالأمر اليسير في بلد مثل أميركا وفي جريدة مثل «نيويورك تايمز». حتى عندما تطرّق شديد إلى الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، لم تكن إشاراته مزعجة خلافاً لكل تطرّق في الصحيفة الصهيونيّة المقيتة.
الكسل والجهل والصهيونيّة سمات أكيدة في التغطية الغربيّة للشرق الأوسط. لكن شديد لم يعان أياً من تلك العوارض. على العكس. شجاعته هي التي قادته للتسلّل إلى سوريا في محاولة لمعرفة الواقع. وهو كان قد عبّر لي عن امتعاضه من اعتماد التغطية الغربيّة على وجهة نظر واحدة في سوريا. ولم يكن شديد يوافق على التغطية السائدة للانتفاضات العربيّة، لكنّه كان يعترض على طريقته: عبر العمل الدؤوب والشاق والصادق. لاحظ شديد أنّ البحرين وقضيّة انتفاضتها منسيّة في الشرق وفي الغرب، فطار إلى البحرين بمبادرة من تلقائه، وكتب تحقيقاً طويلاً عن المعاناة جراء قمع آل خليفة والتحريض المذهبي الذي لجأت إليه. (أرسلت له بعض الملاحظات على مقالته التي أرسلها لي بعض الناشطين والناشطات في البحرين).
إنّ تراث شديد لا يكفي لكسر طوق الحصار الإعلامي المفروض على الشرق الأوسط. الحكومات على اختلافها تفرض رؤية لا تتطابق مع الواقع. النظام السوري يكتفي بـ«فبركة» مقابلة طويلة مع هنري كيسينجر لكي يسوّغ قمعه. يزعم كيسينجر في المقابلة المزعومة أنّه أبو الانتفاضات العربيّة وأمها (هل كان أولاد درعا مُحرّكين وفق رواية النظام السوري من قبل كيسينجر عينه؟). والجزيرة تقاعدت عن التغطية الإعلاميّة وتحوّلت إلى منبر تحريض مبتذل وبذيء. تستطيع أن تسمع عن أخبار بعض مصر وبعض فلسطين بعد 45 دقيقة من بدء نشرة الأخبار. التقارير ليست إلاّ بيانات دعائيّة فظّة من آل ثاني. أما معظم الإعلام العربي، فخاضع لسيطرة آل سعود الغارقين حتى ما فوق الأذنيْن في تحريض مذهبي رخيص وسوقي. إعلام آل خليفة لا يختلف عن السياق: حوّل الناشطة الفلسطينيّة الشجاعة هويدا عرّاف إلى مجرّد ناشطة في «الشذوذ الجنسي» (راجع صحيفة «الأيّام» العدد 8344، 13 شباط/ فبراير، 2012).
إنّ الإنترنت مجال لتغطية مختلفة، كذلك فإنّه مساحة للدعايات والاختلاقات وضخ الكذب والفتنة. لن تصطلح حال الإعلام من دون تغيير الأنظمة ـــــ لا إصلاحها. والإعلام الغربي ليس في حال أحسن. لكن تجربة أنطوني شديد مثال لمن كسر قوالب جامدة في التغطية وأحدث مساحة لنفسه، بتواضع وأمانة وشجاعة. لعلّ في ذلك رسالة لنا جميعاً.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)