عندما وجّه رئيس الوزراء السابق سليم الحصّ وغيره، انتقادات للحكومة اللبنانيّة، التي ترأّسها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري عام 2000، بسبب عدم وجود خطّة للإصلاح الماليّ والاقتصاديّ، ردّ رئيس الحكومة يومذاك بأنّ وضع الخطط هو من مخلّفات الدول الاشتراكيّة (والمقصود الدول الشيوعيّة التي سقطت في أوروبا الشرقيّة)، ما يعني ضمناً أنّ التخطيط هو أمرٌ غير متوافق مع الزمن الحاضر، وبخاصة في اقتصاد «حرّ» كلبنان! وهكذا، تهرّب الرئيس الحريري من النقاش العقلانيّ، مهاجماً في الوقت عينه مُسائليه. أمّا الوزير السابق جورج قرم، فإلى اليوم له حصّته من الهجوم على أساس أنّ «الخطّة الخمسيّة» التي شارك في صياغتها تذكّر بأمور اشتراكيّة «بائدة» و«مفلسة». وحاليّاً، يتلقّى الوزير الرصين شربل نحّاس الهجوم تلو الهجوم، من زعماء في 8 و14 آذار، بأنّه يُدخِل إلى الدولة أفكاراً اشتراكيّة وشيوعيّة!طبعاً القائمون بحملات الدعاية الإعلاميّة ضدّ الوزير نحّاس، وقبله الوزير قرم والرئيس الحصّ، يسعون إلى التهرّب من النقد والمساءلة، ومن المواجهة لسياسات المشاريع المطروحة بالحجّة والمنطق. ووسيلة الدعاية التي يعتمدونها، ترتكز على التمويه الإعلاميّ عن المشاكل الحقيقيّة المطروحة. إنّ حجر الزاوية لهذه الاتّهامات هو المخيّلة الشعبيّة العربيّة التي عملت الدعاية الأميركيّة والعربيّة على غرسها في الوعي الجماعيّ، فصوّرت أنّ كلّ ما هو اشتراكيّ أو شيوعيّ هو متخلّف، و/أو ملحد، وبالتالي مرفوض قطعاً، بل تجب محاربته. بالطبع تتعامى هذه الدعاية عن واقع أنّ الأحزاب الاشتراكيّة حكمت عشرات السنوات، ولا تزال تحكم، في أوروبّا الغربيّة، وما تزال حاضرة بقوّة في المجتمعات، ولم تنتج هناك تخلّفاً ولا إفلاساً. على العكس، إنّ السياسات الرأسماليّة اليمينيّة الحاليّة هي التي تنتج ما نراه من إفلاسات تتوالى، ولصوصيّة تتعمّم في الطبقات السياسيّة والمصرفيّة.
هذا الوضع ليس حكراً على لبنان، فقد بيّن الكاتبان نوام تشومسكي وإدوارد هيرمان، في كتابهما عن صناعة الرأي العام، «صناعة الإذعان»، كيف أنّ الشيوعية صُوِّرتْ، في الولايات المتّحدة، على أنّها الشرّ الأسوأ، واعتمدت حكومات الولايات المتّحدة على هذه الصورة لتوحيد الشعب الأميركيّ ضدّ ذاك العدوّ المطلق، المتمثّل بالاتّحاد السوفياتيّ، وبرّرت لمواجهته كلّ سياساتها على أساس أنّها تواجه الشرّ الأعظم. وهكذا، استُعملت الشيوعيّة كتهمة للوقوف ضدّ حكومات انتُخِبَت ديموقراطيّاً وقامت بإصلاحات ديموقراطيّة اقتصاديّة واجتماعيّة، مهدّدة بذلك المصالح الماليّة للشركات الأميركيّة.
إنّ إقبال تيّارات سياسيّة لبنانيّة مختلفة ومتعارضة، وفي أزمنة مختلفة، على كيل «الاتّهامات» بالاشتراكيّة والشيوعيّة لأشخاص مختلفين في الانتماء السياسيّ، ومتّفقين في ضرورة إصلاح النظام الاقتصاديّ اللبنانيّ، هو سعي واضح لتجنّب مطلق أيّ نقاش عقلانيّ لسياسات الحكومات، وجعلنا نستنتج بأنّ هذه التيّارات تجمعها مصلحة واحدة ألا وهي عدم القيام بتنفيذ (وليس فقط بتشريع) سياسات تساهم في توزيع الثروة الوطنيّة توزيعاً عادلاً على المواطنين جميعاً. إنّ حملات كهذه قد تكون فعّالة عند من تنازل عن عقله لمصلحة انفعالاته الطائفيّة أو لمصلحة استزلامه المطلق لزعيم أو ولاء أعمى لقائد، لكنّها لا تنطلي على من احتفظ بوعيه بأدنى درجات معنى السياسة والوطن. درجات تعني أن يتساوى المواطنون في الكرامة، وأن تعمل الحكومات على السهر على توزيع الثروة الوطنيّة توزيعاً عادلاً، وأن ترسم سياسات اقتصاديّة عادلة متوسّطة وبعيدة المدى تقتضي التخطيط للحاضر والمستقبل، وعدم مخالفة القوانين، وكذلك دعم الطبقات الفقيرة من الأموال المجنيّة من ضرائب تطاول الأغنياء أكثر من الفقراء، وتنويعاً في الاقتصاد (في لبنان الصناعة والزراعة مهملتان). هذا كلّه معمول به في الدول الرأسماليّة، ككندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وكلّها دول رأسماليّة متقدّمة اقتصاديّاً ومعظمها مرّت بحروب طاحنة قتلت الملايين من البشر، لكنها قرّرت أن تكون دولاً لجميع مواطنيها، لا لفئة صغيرة من أغنياء تلك الدول فقط.
هناك مشاريع (يمثّلها نحّاس اليوم ومثّلها قرم والحصّ في السابق) تبدأ بالسير بلبنان في خطّ الاستقرار الاجتماعيّ، في خطّ جعل لبنان وطناً لجميع أبنائه، لا للفئة التي تنهب فقط. فالذي يريد أن يواجه مشاريع كهذه يستطيع أن يستخدم الوسائل الدعائيّة التي تحاول أن تسلب المواطنين حسّهم النقديّ، ليسيطر ماليّاً وسياسيّاً على الدولة، ويزيد من ثروته الخاصّة. أمّا نحن المواطنين، فلنا أن نواجه هذه المحاولات بمزيد من الوعي وبسعي كي ندفع هذه الدولة كي تصير بالفعل وطناً للجميع، لا دولة مفرّغة من معناها، مجرّد ملكيّة لمتموّلين وإقطاعيّين. هذا ليس شيكّاً على بياض أو دعماً أعمى لفريق سياسيّ، إنّه دعوة كي نستعيد عقولنا.
* أستاذ جامعيّ وكاتب
5 تعليق
التعليقات
-
تعقيببسم الله الرحمان الرحيم ليس من حق أحد أن يفرض على غيره أن يأمن له الإنارة(مثلا)، وكما ذكرت في مناسبة أخرى، لا يحق لأي عامل أن يفرض على رب العمل الذي يعمل عنده، أن يفرض عليه زيادة في الأجر إذا لم يكن ثمة إتفاق بين الطرفين بخصوصه، ولا يحق له(أعني العامل) سوى البحث عن بديل قد يناسبه. فشركة الكهرباء ستبحث عنك عندما تجد البديل، وأي رب عمل سيبحث عن عمال عند وجود نقص في الأيد العاملة، وبالتالي سيكون مضطرا ليرفع سقف الأجر.فالخيارات المتعددة، تشكل نقطة القوة لمن يملكها، ولا شيء آخر.
-
لا تُحل المشاكل بالقفز فوق الواقع والتشخيص الخاطيء 1بسم الله الرحمان الرحيم من سمع مناديا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم تثبت مجريات الأمور ومآلاتها، على أن الكلمة الفصل في تحديدها تعود للناس، وليس للحكومات.ونجاح أي خطة يعتمد على مدى فعاليتهم وتأثيرهم، وبالتالي لا قيمة لأي خطة لم يشتركوا في وضعها.فالدافع لوضع الخطط، يأتي عبر وجود نية ما إلى بلوغ هدف معين يتمثل بإنجاز معين. بكل الأحوال، لا تأتي الخطط من فراغ.ووضعها يتم عبر محاولات عدبدة من التمرس.يعني يتم وضعها من قبل أشحاص ذوي باع في التجارب.ومن ليس له تجارب، فإن من المستحيل أو من العسير عليه امتلاك القدرة على مناقشة الخطط التي يجهلها، علما أن المرء عدو ما يجهل، ما يعني فقدان الرغبة إلى البحث في أي شيء منفر بسبب الجهل بماهيته. دعونا من الحكومات وخططها وقدراتها، وركزوا على ما لدى الشعوب من إمكانيات ومؤهلات وكفائات وخبرات.في أوروبا لم توضع الخطط من قبل أعضاء الحكومات هناك، إلا بعدما رأوا إنجازات هنا وهناك لفتت انتباههم وأثارت اهتمامهم، هذا إذا كانوا مستقيمين ومهتمين بالمصلحة العامة.فهم لم يكونوا متقدمين على أصحاب الإنجازات، ولم يكن لهم دور إلا في تبني الثمار. في لبنان كما في غيره، لا تكفي المواطنية لتشفع في ليس في نيل الحقوق، بل في أن توجب الحقوق.ولايمكن لأحد أن يعي الحق فيما لم يشارك فيه ولم يساهم في بنائه.فالدولة لمن يشكل جزئا منها.لذلك من غير المعقول أن يأتي شخص هنا وآخر هناك يطلب أن تكون الدولة لغير من لم يشكل بفعله جزئا من بنيانها ومكوناتها.
-
لا تحل المشاكل بالقفز فوق الواقع والتشخيص الخاطيء 2بسم الله الرحمان الرحيم لذلك من غير المعقول أن يأتي شخص هنا وآخر هناك ويفرض نصيب من الدولة لغير من لم يشكل بفعله جزئا من بنيانها ومكوناتها. نعم للإشتراكية إذا كانت تعني وجوب الحق لكل فرد في أي شيء على قدر قيمة مساهمته ومشاركته، وعلى قاعدة"وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى"(39-41)، وتنفي الحق لكل مفصر مهمل مستهتر، على قاعدة"فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"(الزلزلة 7-8)مع الأخذ بعين الإعتبار حقوق العاجزين السائلين المحرومين والذين لا يسطيعون حيلة فب الأرض ولا يهتدون سبيلا. فكما أن المقصر يتأذى من ضرر المنحرف الضال، فمن غير المعقول أن يجني ويسفيد من ثمار سعي المستقيم العامل المجد المجتهد.ولن ينفع أي شخص أن يقارع الذين يفسدون ما ليس له فيه، وإن كانت دولة.والأجدى به أن يهتم بما ساهم في إنجازه وبنائه ويشكل أحد أعضائه، وجزءا من مكوناته.ولا قيمة لمن يطلب شيئا دون مقابل.
-
لا تحل المشاكل بالقفز فوق الواقع والتشخيص الخاطيء 1بسم الله الرحمان الرحيم أللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم من سمع مناديا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم تثبت مجريات الأمور ومآلاتها، على أن الكلمة الفصل في تحديد حال الواقع، تعود للناس، وليس للحكومات.ونجاح أي خطة يعتمد على مدى فعاليتهم وتأثيرهم(أعني الناس)، وبالتالي لا قيمة لأي خطة لم يشتركوا في وضعها.فالدافع لوضع الخطط، يأتي عبر وجود نية ما إلى بلوغ هدف معين يتمثل بإنجاز معين. بكل الأحوال، لا تأتي الخطط من فراغ.ووضعها يتم عبر محاولات عدبدة من التمرس.يعني يتم وضعها من قبل أشحاص ذوي باع في التجارب.ومن ليس له تجارب، فإنه من المستحيل أو من العسير عليه امتلاك القدرة على مناقشة الخطط التي يجهلها، علما أن المرء عدو ما يجهل، ما يعني فقدانه الرغبة في البحث في أي شيء منفر بسبب الجهل بماهيته. دعونا من الحكومات وخططها وقدراتها، وركزوا على ما لدى الشعوب من إمكانيات ومؤهلات وكفائات وخبرات.في أوروبا لم توضع الخطط من قبل أعضاء الحكومات هناك، إلا بعدما رأوا إنجازات هنا وهناك لفتت انتباههم وأثارت اهتمامهم، هذا إذا كانوا مستقيمين ومهتمين بالمصلحة العامة.فهم لم يكونوا متقدمين على أصحاب الإنجازات، ولم يكن لهم دور إلا في تبني الثمار. في لبنان كما في غيره، لا تكفي المواطنية لتشفع لأحد ليس في نيل الحقوق، بل في أن توجب الحقوق له.ولايمكن لأحد أن يعدي الحق فيما لم يشارك فيه ولم يساهم في بنائه.فالدولة يكون منها نصيب لمن يشكل جزئا منها وبقدر قيمته(وقيمة امرء ما يجسن).
-
معك كل الحق! يجب ان ندافع عنمعك كل الحق! يجب ان ندافع عن ما تبقى من عقولنا!