تحول مهم طرأ على النقاش الفكري والثقافي السعودي بعد الربيع العربي؛ فقد تصدر المشهد شباب على درجة عالية من الوعي، قدموا طرحاً مختلفاً عن السائد في الإعلام السعودي التقليدي، وركزوا على قضايا تتعلق بالحقوق والحريات والمسألة الديموقراطية. ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وبدفعٍ من الربيع العربي، حققوا تغييراً ملموساً في طبيعة القضايا التي يمكن تسميتها «قضايا رأي عام».
لكن أحد إفرازات قضية المدوّن حمزة كاشغري اللافتة، هو المحاولة المنظمة من التيار السلفي الحركي للعودة بالأمور إلى المربع الأول. كانت قضية حمزة الحجر الذي ضرب به هذا التيار عصفورين: الأول تمثل في شد عصب الجماهير عبر استغلال مشاعر غيرتهم على المقدس الديني، وتوجيهها في سياق ضرب الخصوم الفكريين. أما الثاني، فكان إعادة النقاش حول القضايا التي يستعذبون النقاش فيها، بعيداً عن مسائل الديموقراطية والحريات، والحقوق التي لا تزال تمثّل لهم إشكالات فكرية كبرى. من هنا كانت محاولة شيطنة الحرية والديموقراطية، عبر استدعاء المقدس ووضعه في مواجهتهما، واتهام الفكر الديموقراطي ومروجيه بالعداء لله ورسوله وإنتاج الإلحاد.
لعبة الجدل الفكري العقيم وغير المنتج، تعود من جديد عبر الدخول في سجالات بلا قيمة تأخذ طابعاً شخصياً في الغالب. ويمكن اعتبار النقاش الدائر حول المؤامرة على الدين والأخلاق جسراً للعودة إلى لذة خوض الحروب الصغيرة والسطحية، التي لم تنتج غير العقم الفكري خلال العقود الثلاثة الماضية. المتوقع أن يرحب طرفا اللعبة (السلفيون والليبراليون) بالعودة إليها وتعميمها وإشغال الرأي العام بها عن النقاشات الكبرى وفق القواعد الرئيسية لهذه اللعبة، التي لا تتغير ولا تتبدل مهما طال الزمن وأحدث من متغيّرات. وهي، أولاً النقاش في القضايا الهامشية؛ إذ تتراجع القضايا المحورية في هذه اللعبة لمصلحة صخب النقاش في الفرعيات، ويركز الطرفان على أمور لا تثير حساسيات عالية سياسياً أو اقتصادياً، ولا تعد مربكة لهم على المستوى الفكري، كذلك فإنّ النقاش فيها لا يحتاج إلى جهد كبير، لأنّه لا يتطور.
من المهم ملاحظة المراوحة في المكان ذاته في هذا النقاش، فالقضايا التي هي محل الجدل لا يحصل أي تقدم فيها، ويبقى الجدل فيها لتفريغ الطاقات. لذلك، لا نية أبداً للحسم فيها، والحسم في واحدة منها يعادله إيجاد أخرى لاستمرار الجدل في الدائرة نفسها. كذلك إنّ هذه القضايا تبقى دليلاً على عدم تقدم المجتمع، واستخدام عدم وعيه في مخاطبة الخارج، وتظل أيضاً أداة لتخويف الجميع من الجميع؛ إذ يخشى الليبراليون من سيادة كاملة لفكر السلفيين، ويخشى السلفيون على مكاسبهم الصغيرة في قضايا المظاهر الدينية في البلاد.
يرتكز اللعب في هذه القضايا على مفهومي الفساد والتحرر؛ إذ يضيق هذان المفهومان ليقتصرا على المسائل السلوكية والقضايا الاجتماعية، وخاصة تلك المتعلقة بواقع المرأة الاجتماعي. فيبدو التيار السلفي مشغولاً بمكافحة ما يراه فساداً أخلاقياً ناتجاً من الابتعاد عن الدين وعدم تطبيق التعاليم الدينية بصرامة، فيما لا يشغله الفساد المالي والإداري الذي يفتك بالبلد وناسه ومقدراته. كذلك لا يشغل بال النخب الليبرالية المنخرطة في هذا الجدل غير التحرر السلوكي/ الاجتماعي المتمثل في قيادة المرأة للسيارة أو السماح بإقامة صالات السينما في المملكة، لكن التحرر السياسي أو التحرر الاقتصادي من قبضة الاقتصاد الريعي ليست أبداً ضمن أدبيات هذه النخب.
ثانياً، الإقصاء المتبادل؛ إذ ينتج من الجدل بين الطرفين تنميط كلٍّ منهما للآخر بغرض تشويهه عند الرأي العام. فالسلفيون يتهمون الليبراليين بمعاداة الدين والأخلاق والترويج للانحلال، والليبراليون يصفون السلفيين بأنّهم منتجو الإرهاب والمعادون للفن والجمال والأدب والثقافة. وهكذا ينتج الجدل في القضايا الهامشية معاركه التي تتخذ طابعاً اتهامياً يصل للشخصنة وتبادل الشتائم.
تعلو ثقافة الإقصاء على المبادئ المدعاة من الطرفين، وفيما يقدم التيار السلفي الحركي نوعاً من المكيافيلية يتفوق فيها على مكيافيللي نفسه، يتعارض فيها مع مبادئ دينية تحث على التسامح ورفض الكذب والإيذاء بالقول والفعل، ولا تتعارض مع مبادئ التيار الذي يحلل كل شيء باسم حراسة الفضيلة والذود عن الدين، فإنّ الليبراليين الذين يتغنون بالحريات وحق الاختلاف يسقطون بشكل أكبر حين يرفضون رأي الآخرين ويدعون علانية لإخراسهم.
ثالثاً، تحريض السلطة. إذ يُتَوَّج العقم الفكري هذا بالتحريض المتبادل من الطرفين المتخاصمين، وتصبح السلطة حَكَمَاً بينهما تستمر محاولات استمالته وتحريضه على الخصم. ويؤسس هذا الأمر في الوعي الجمعي لفكرة الخصومة مع الآخرين في مناطق محددة مسبقاً، تحت سقف رأي السلطة الذي تجري محاولة استثماره في المعركة وتسجيل النقاط من خلاله على الطرف الآخر.
تحريض السلطة على الليبراليين والعلمانيين واتهامهم بالترويج للإلحاد ومعاداة الدين جزء من التكتيكات المستخدمة في هذه المعارك، وهي لا تختلف مثلاً عن تحريض النخب الليبرالية (وغالبيتها من الصحافيين الحكوميين) للسلطة السياسية على الشيخ سعد الشثري، حين قال رأيه في الاختلاط في «جامعة كاوست». يسهم هذا التحريض واستجداء النصرة من السلطة السياسية، أساساً، في خفض سقف حرية التعبير وتشريع كل قمع فكري.
إن التحذير من العودة إلى النقاشات العقيمة والسجالات السطحية لا يعني أبداً إغفال ما هو مهم وأساسي في قضية حمزة كاشغري، إذ لا يمكن من يتمسك بثقافة الحرية والديموقراطية، ويدعو إلى ثقافة حقوقية أن يغض الطرف عما حركته «نشوة الانتصار» في قضية حمزة من هجوم شرس. هجوم أطلق محاكم التفتيش لتنقب في النيات قبل الكتابات والتدوينات، وتمتحن الناس في إيمانهم وأخلاقهم، وتطلق اتهامات الكفر والإلحاد وتصدر الأحكام مباشرة.
القضية هنا ليست هامشية، بل تتعلق بحرية التفكير والتعبير ـــــ التي لا تسيء إلى المقدس كما يدعي البعض ـــــ في مواجهة حرية التكفير وهدر الدماء التي لا يؤمن الموتورون بحرية غيرها. فثقافة القانون والحقوق والمؤسسات تتناقض حتماً مع إهدار الدماء وإطلاق الأحكام عشوائياً والإرهاب الفكري باسم المقدسات. ويبدو ضرورياً الدفاع عن قيم الحريات العامة من دون الإغراق في الصراعات العبثية التي يسقط فيها الجميع حين يطحن بعضهم بعضاً ولا ينتصر أحد.
لا يمكن تجنب سيادة العبث الفكري بغير وقفة الشباب الذي غير مسار النقاش إلى القضايا المتصلة بالحريات والديموقراطية والثقافة الحقوقية في وجه المعارك الإلهائية. كذلك يمكن القول إنّ الظرف تغيّر بفعل عوامل مختلفة، بما يجعل الاستمرار في تقديم معارك صغيرة وهامشية وإشغال الرأي العام بها غير ممكن على المدى الطويل.
* كاتب سعودي
(ينشر المقال بالتزامن مع موقع «المقال» السعودي: www.almqaal.com )