يجادل العقل النمطي في السعودية حول إمكانية فصل التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن التنمية السياسية. ينهمك في جمع الإثباتات والأدلة التي تؤكد إمكانية التجزئة، ويجتهد بحشد تصورات ذهنية عن تنمية ومجتمع ذي خصوصية، لا تتأتى في مكان في الكون سوى هنا. موجزها توفر مسارات تنموية لا تتقاطع مع الإصلاح السياسي في أي محطة من محطاتها، وتقود إلى الاستقرار المعيشي ورغد الحياة. ليست المتغيّرات الحاصلة على الساحة الإقليمية فقط من دقّ الناقوس لضرورة مناقشة قضايا الإصلاح السياسي في السعودية، فدعوات الإصلاح بغض النظر عن تقييمنا لها، لا يمر على المملكة جيل، إلا وله نصيب فيها. يحدث ذلك منذ أن ارتطمت التنمية بسلطة أكبر من الدولة، وبفساد يبتلع المشاريع الكبرى، فتخرج من فمهِ عظماً، وببيروقراطية متورمة، عاجزة عن استيعاب المواهب المتزايدة من المتعلمين والمتعلمات، وبتعاظم نوعي في الوعي الجمعي بضرورة المشاركة في صناعة المستقبل.
إذاً والحالة كذلك، نجد أنّ الوعظ والنصح الكلاسيكيين ليس كافياً، فالمطلوب تقديم نقد جذري لعلاقاتنا السياسية، لعلاقة المجتمع بالدولة، ولعلاقة الدولة بالدين، وللعلاقة البينية بين الفئات الاجتماعية السعودية. فالمخاض الطويل والمؤلم الذي يعيشه الشعب بمختلف أطيافه من أجل الانتقال لدولة المؤسسات لا يبدو أنّه يقلق صناع القرار الذين يحترفون مط النقاش حول القضايا الهامشية قبل الملحة منها، حتى تأقلم الناس مع العناء و مع ما تريده النخبة، لا ما يريدونه هم، على أمل أن يأتي يوم يخرج فيه رجل من قلب الصحراء يبدأ عملياً البحث عن معوقات الإصلاح السياسي ويفتش عن حل لها.
إنّ دراسة العلاقة بين المجتمع والدولة يساعد بشكل كبير على فهم معوقات التنمية التي لا بد لها أن تمر من بوابة فهم أنماط الإنتاج. تلك التي شابها تصدع بعد صعود الصناعة الاستخراجية (النفط والغاز) ولم تعد تركن لاستنتاجات ابن خلدون، في الجانب الاقتصادي منها على الأقل، مع أنّ النظرية لا تزال متينة، وتساعد في تحليل نمط الثقافة السائدة في المجتمع السعودي، وعلى طبيعة الانقسامات والولاءات العائلية والمناطقية والقبلية والطائفية، بما تحمل من هرمونات تزيد من خطر التشظّي المجتمعي والاستلاب الحقوقي، ومن مقاومة الاندماج النهائي في جسد الهوية الوطنية. إذ لم تدفن الهويات الفرعية عصبياتها وخصوصياتها وطبائعها تحت آبار النفط بعد، ومحاولات تمدين الأرياف التي قامت بها السلطة، «أرْيَفَت» مدناً خلافاً لإرادة الدولة، بالرغم من أنّ النفط نجح في استيراد منتجات الحداثة من تكنولوجيا وغيرها أيما نجاح، وعزز ثقافة الاستهلاك على النموذج الغربي الليبرالي. إلا أنّ عملية تخصيب الهويات الفرعية فشلت بسبب عدم وجود رغبة لدى السلطة في استيراد الوقود الايديولوجي العلماني الذي من دونه لا تتم دورة بناء الدولة الحديثة.
إنّ المتأمل في احتكار أنماط الإنتاج، ولطبيعة الخلل الذي أنتجته في ميزان القوى بين السلطة والمجتمع يرى ما أحدثته السيطرة التامة على مصادر الإنتاج من علاقات تابع بمتبوع، ومن أفول الاستقلال الاقتصادي مقابل قوى السلطة، في نموذج خليط من الدولة «الباتريمونيالية» بتعبير ماكس فيبر، والدولة «الزبونية» كما وصفها الدكتور حليم بركات. إذ قال هذا الاخير: «انتقلت الدولة من العصبية القبلية الخلدونية إلى تجنيد البيروقراطية والجيش وربطها بشخص الحاكم، وهي دولة يكون ولاء مؤسساتها قائماً على العلاقة الفردية وطاعة أوامر السلطان». ذلك في حين تقوم العلاقات الزبونية على ربط مصالح الطبقات ما دون الحاكمة بشبكة مصالح ذيلية برؤوس السلطة. بكلمة واحدة، نسف هذا الاقتصاد المغلق عملياً إمكانية الاستقلال عن السلطة، وخلق علاقات تبعية بالنخبة الحاكمة.
في ما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة، نجد أنّ في المجتمعات العربية ارتباطاً وثيقاً بين الدين والسياسة، والأنظمة العربية في معظمها تستمد شرعيتها من الدين وتفسيرات رجاله، فكيف بدولة كالسعودية، التي تأسست على تحالف عائلي ديني قبلي. والدين في السعودية يكاد يشمل جميع مظاهر الحياة، وهو ذو مقدرة فذة على التعبئة الجماهيرية في شتى قضايا الشأن العام، في ظل انعدام المساحات السياسية المسموح التحرك فيها، وغياب تام للموحد السياسي الذي تنتجه الدولة القومية. وعليه يصبح غير مستغرب أبداً هذا التغوّل لرجل الدين في المجتمع، مما ساهم في نسج علاقة مصالح بين رجل الدين ورجل السياسة، كانت أحدى نتائجها المشاركة في ضبط حركة المجتمع. وعلى أثرها سرعان ما تحوّل رجال الدين إلى «طبقة كهنوتية لذاتها» بحسب حليم بركات، لها مؤسساتها التي ترعى مصالحها وتعزز نفوذها. من هذه الخلاصة نفهم طبيعة دور رجال الدين في إجهاض مساعي الإصلاح السياسي في السعودية، ومنها أيضاً، نستمد الشعور بضرورة تبنّي فصل أو حياد الدولة الديني، الذي لا يعني فصل الدين عن حياة الناس، بقدر ما يعني إنهاء الاستغلال السياسي للمؤسسة الدينية والعكس.
نستنتج إذاً من هذه المقاربة أنّ معوقات التنمية ليست ناتجة من خلل في خطط التنمية الخمسية التي يعلن عنها، أو من التلكؤ في تنفيذ المشاريع التنموية في شقيها الاجتماعي والاقتصادي، أو في ازدياد عدد المدن الصناعية المتكاثرة على الورق، وإنما من وجود معوقات بنيوية في عمق جذور الدولة السعودية ينبغي التفكير في معالجتها.
في مخيلتنا الجماعية يجول شكل الدولة الحلم التي نرنو إلى وصولها، والتنمية الشاملة التي نرغب في مشاهدتها، وفي موقعية المواطن كإنسان أولاً وأخيراً في مؤسساتها، أي دولة المؤسسات وسيادة القانون، بالمعنى السياسي الحديث. دولة مدنية علمانية، حياد الدولة الديني سمة من سماتها، العدالة الاجتماعية لازمة من لوازمها، التوزيع العادل «للثروة والأمل» ضرورة من ضرورياتها، وتطور العلاقة بين الحاكم والمحكوم من علاقة إكراهية قسرية إلى طوعية تعاقدية واجب من واجباتها.
* كاتب سعودي (ينشر المقال بالتزامن مع موقع المقال السعودي www.almqaal.com )