تتمادى محطة «إم.تي.في.» في استفزاز قسم كبير من الشعب اللبناني (والعربي). تتمادى كثيراً. هي تتمرّس في التعامل مع الجمهور على أنه مناصر لجيش لحد، وما يحمله من عقائد وسياسات وأغراض. تتعامل المحطة مع المواضيع بمنطق طائفي، كأنّ كل الشعب في مسخ الوطن، لبنان، يوافق على سياساتها، باستثناء الرعاع الشيعة من أنصار حزب الله (وهذا هو منطق حزب الكتائب أيضاً وحتى عائلة الحريري. وكأنّ الشيعة في لبنان، أو حتى أنصار حزب الله من الطائفة، يشكّلون تفصيلاً صغيراً يسهل كنسه متى نُزع سلاح المقاومة في لبنان). لا يعني ذلك أنّه ليس للمحطة معجبون ومؤيّدون (ومؤيّدات): لا شك أنّ الخط الصهيوني الصريح للمحطة، زائد هوسها بنيل إعجاب الرجل الأبيض ـــــ أيّ رجل أبيض، ولو كان عابراً للسبيل ـــــ يتوافق مع توجّهات عدد لا بأس به من اللبنانيّين. إنّ استطلاعات رأي عام عربيّ وعالميّ في لبنان، تثبت أنّ هناك فئة تناصر إسرائيل، وأنّ نحو ربع اللبنانيّين مثلاً (وفق استطلاع أجري في 2004 من قبل الجامعة الأردنيّة) يعتبر أي عمل عسكري ضد قوّات الاحتلال الإسرائيلي عملاً «إرهابيّاً». كما أنّ حرب تموز كانت مثالاً على حقيقة بشعة: ليس كلّ اللبنانيّين متوافقين على دعم مقاومة إسرائيل. هناك فريق عريض من اللبنانيّين (هم الأكثرية عدديّاً من دون شكّ) ممن قاوم مقاومة إسرائيل منذ 1982 (هل هناك من ينسى أنّ جريدة «النهار» عارضت مقاومة إسرائيل منذ 1982 ـــــ إن لم يكن قبل ـــــ حتى الساعة، أي قبل سنوات من الانسحاب المُذلّ لجيش العدوّ في 2000). وهناك فريق ممن اعتبر نفسه متفرّجاً على مقاومة إسرائيل (كان الحزب التقدمي الاشتراكي متفرّجاً على مقاومة إسرائيل ولسنوات طوال قبل أن يعاديها).ما يساعد «إم.تي.في.» في المضيّ في غيّها الصهيوني، علمها بأنّ فريق 14 آذار السياسي يتماشى مع توجّهاتها: تعلم «إم.تي.في.» أن كوندوليزا رايس في كتابها «ما من شرف أرفع» صرّحت بأنّ خطة السنيورة «النقاط السبع» في عدوان تمّوز، عكست المصالح الإسرائيليّة والأميركيّة في تلك الأيّام، وأنّ السنيورة (خلافاً لوزير الخارجيّة الفرنسي آنذاك) عارض وقفاً فوريّاً للنار. (وعبّرت رايس عن فخرها به ـــــ هذا الذي تشابهت خدماته للمخطّط الأميركي ـــــ الإسرائيلي مع خدمات أنطوان لحد). طبعاً، فضائح ويكيليكس نشرت نصائح قدّمها زعماء في لبنان للعدوّ أثناء عدوان تمّوز كي تزيد في وحشيّتها. هذا سياق جرأة المحطة في المجاهرة بمناصرة العدوّ.
«إم.تي.في.» ارتكبت أكثر من معصية في فترة قصيرة: أهانت الشعب الفلسطيني وبثّت شريطاً (كوميديّاً نظريّاً) يسخر من الخادمات ومن اغتصاب النساء ومن العمّال ومن الفقراء. نفترض أنّها تساهم في إضحاك من هم وراء «إم.تي.في.». لكنّ للمحطة مهمّة سياسية حازت من ورائها زيارة خاصّة من السفيرة الأميركيّة في لبنان، بهدف التشجيع وتربيت الكتف الذي تجيده الحكومة الأميركيّة. اختارت محطة «إم.تي.في.» أن تعتنق قضيّة تحدّي مقاطعة إسرائيل السارية منذ 1948 في معظم الدول العربيّة. في أوائل 1967، ربما بعد وصول دفعة أوليّة من حكومة إسرائيل لحزب الكتائب الذي كان يتلقّى منذ الخمسينيات نقوداً من العدوّ لدعم حملاته الانتخابيّة، وفق المصادر العبريّة، قدّم نوّاب حزب الكتائب «اللبنانيّة» مشروعاً في مجلس النوّاب اللبناني لوقف التزام لبنان بمقاطعة إسرائيل (وكانت المقاطعة آنذاك صارمة ومعمولاً بها في كل الدول العربيّة، وتسبّبت بخسارة عشرات المليارات من الدولارات للعدوّ، ما حفّز اللوبي الصهيوني في الثمانينيات على التحركّ فنجح في: 1) إصدار قوانين صارمة تجرّم أية شركة أميركيّة تحترم قوانين المقاطعة الصادرة عن الجامعة العربيّة. 2) حثّ الدول العربيّة بعد 1990 على إهمال المقاطعة وفتح أذرع المدن العربيّة أمام أعتى الشركات الصهيونيّة ـــــ يكفي للتدليل مشهد مقاهي «ستاربكس» المنتشرة في المدن العربيّة وهي عرضة للمقاطعة من قبل اليسار المؤيّد لقضيّة فلسطين في كل الدول الغربيّة). لم ينجح مشروع اقتراح حزب الكتائب آنذاك: لعلّ راعي الحزب في تل أبيب لم يبلغ أذياله في بيروت عن نيّته شنّ عدوان على عدد من الدول العربيّة، بعد أشهر فقط من أمر اليوم. لم يتجرّأ حزب الكتائب على فتح الموضوع في ما بعد، إلى أن أصبح تحالفه مع إسرائيل معلناً أثناء الحرب الأهليّة (قال نائب رئيس التحرير في «النهار»، نبيل بو منصف، هذا الأسبوع على محطة «الجديد» عن حزب الكتائب: «عم بيفكّروا مسيحيّاً كتير كتير منيح، وعلى مستوى وطني»).
لكن محطة «إم.تي.في.» تفرط في إهانة عقولنا، وفي تعمية الأمور لتمرير تطبيع مقصود مع العدوّ الإسرائيلي. للتوضيح: إنّ أنصار مقاطعة إسرائيل لا يؤمنون بالمقاطعة كسبيل وحيد لتحرير فلسطين. بالتأكيد، لا. المقاطعة هي واحد من الروافد المتعدّدة التي تساهم في مقاومة احتلال إسرائيل. وللعلم، إنّ قطاعات هامّة في المجتمعات الغربيّة باتت منخرطة في مقاطعة إسرائيل (عدت لتوّي من جولة في جامعات بريطانيّة، ووجدت أنّ المقاطعة باتت، مثلاً، في اسكتلندا من المسلّمات إلى درجة أنّ إحدى أعضاء المجلس التمثيلي الطلابي في جامعة أدنبرة تعرّضت لعقوبة مسلكيّة بسبب قبولها دعوة لزيارة إسرائيل). وهذا مهم لأنّ الرجل الأبيض وأفعاله قدوة عند قطاع بأسره من الشعب اللبناني. تريد 14 آذار و«إم.تي.في.» منا وقف مقاطعة إسرائيل، فيما تنتشر حركة المقاطعة في أرجاء الكرة الأرضيّة، حتى في تلك الدول التي تؤيّد حكوماتها إسرائيل وعدوانها. والطريف أنّ 14 آذار تدعو (بخجل شديد) إلى نضال سلمي ضد إسرائيل، والمقاطعة الاقتصاديّة (وهي ليست بديلاً أبداً من المقاومة المسلّحة بل مكمّلة لها) وسيلة نضال سلمي وبديهيّة من حركات اللاعنف (أليسوا هم من جماعة اللاعنف ـــــ من أجل إراحة إسرائيل؟). يفضح ذلك الغرض الحقيقي لزمرة 14 آذار ومن يرعاهم في الأنظمة العربيّة: هم يرفعون شعارات النضال السلمي أو الحضاري ضد إسرائيل بعدم جديّة وخفّة، وبهدف تحقيق سلام فوري غير مشروط مع الدولة العبرية. هم يرفعون شعارات اللاعنف فقط من أجل تقويض دعائم مقاومة إسرائيل. هم لا يريدون نضالاً لاعنفياً: هم يبغون الاستسلام أمام إسرائيل على طريقة مجلس التعاون الخليجي.
لارا فابيان ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. هناك حركة سياسيّة مغرضة تهدف إلى ضرب شعارات وممارسة مقاطعة إسرائيل في بلادنا. وليس صدفة أن تنبري محطة «إم.تي.في.» كي تقود حملة التطبيع مع مناصري إسرائيل. وقد أقام جهاد المرّ (بصفاقة) دعوى ضد الرفيق سماح إدريس، وحملة نصرة مقاطعة إسرائيل، فقط لأنّهم مارسوا حقّهم في التعبير عن معارضتهم لدعوة مناصري إسرائيل إلى بلادنا. قد نضيف إنّ لميشال المرّ (الكبير) ولإلياس المرّ (الصغير) تاريخاً من خدمة المصالح الإسرائيليّة: ميشال المرّ عمل ونسّق مع العدوّ الإسرائيلي في ترتيب أمر تنصيب بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة في 1982 (ثم بات لصيقاً بأجهزة الاستخبارات السوريّة في لبنان التي تكرّمت عليه وعلى ابنه بوزارات حسّاسة). كما أن وثائق «ويكيليكس» كشفت في دور الياس المرّ ما لم يكن يعرفه كثيرون. هل تتنطح هذه العائلة للتقريب بين لبنان وإسرائيل؟ هل تحاول المحطّة فرض رؤية وديّة وودودة نحو العدوّ الإسرائيلي ومن يناصر جيشه الإرهابي؟ لا شكّ أنّ الغرض سياسيّ، أولاً وأخيراً، ولم يعد هذا الغرض مُستتراً.
يستقيم حب الحياة وحب الغناء من دون لارا فابيان. يستطيع الشباب اللبناني أن يرقص وأن يغنّي من دون أن يكحّل أعينه برؤية لارا فابيان (أو غيرها من الفنانين والفنانات المناصرين والمناصرات للكيان الغاصب) في لبنان. التحدّي والاستفزاز واضحان في الدعوة. والأمن العام اللبناني يتلهّى بشتّى الشؤون، وبالتضييق على العمّال والعاملات الفقيرات في لبنان، لكنّه يعطي تأشيرات الدخول ذات اليمين وذات اليسار وذات الصهيونيّة، إذا كان الزائر من دول أوروبيّة أو من أميركا (الدول نفسها التي تمارس شتّى أنواع التضييق على الزائرين العرب ـــــ واللبنانيّين بصورة خاصّة في كثير من الأحيان ـــــ لا تلقى في تعاطي الدولة اللبنانيّة مع مواطنيها إلا كل ترحاب وكل طأطأة أمام رجلهم الأبيض. والأميركي يحوز تأشيرة دخول بمجرّد دخوله إلى مطار بيروت، فيما يتعرّض اللبناني لسلسلة لا تتوقّف من الإهانات فقط أثناء تقديم طلب التأشيرة الذي يُرفض في غالب الأحيان). ومحطة «إم.تي.في.» قادت الحملة بالنيابة عن فابيان، بعدما قادت حملة دعوة «بلاسيبو». والمحطة لا تتحرّك بالنيابة عن نفسها فقط: هناك قطاع من اللبنانيّين الممثّل بوفرة في الإعلام اللبناني، الذي يريد إنهاء مقاطعة إسرائيل. هؤلاء يحبّون الحياة بوجود إسرائيل وممثّليها بينهم. لا نريد الإيحاء بأنّ تغلغل جواسيس العدوّ قد وصل إلى جسم الإعلام، مع أنّه ضعضع كل جوانب الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والصناعيّة والعسكريّة في لبنان. لا، الإعلام منيع، وخصوصاً أنّ تمويله خليجي، ودول الخليج تريد أن تتصدّى لإسرائيل بعد أن تزيل إيران من الوجود وترمي أهلها في البحر.
محطة «إم.تي.في.» ردّت على حملة مقاطعة فابيان بالكذب. قالت إنّها تعرّضت لتهديد (هل بات تهديد أنصار العدوّ الإسرائيلي تهمة في مسخ الوطن لبنان؟ أم أن التهمة يجب أن تطال من يدافع عن أنصار العدوّ الإسرائيلي بيننا؟)، والتهديد لم يأت في الحقيقة، ولقد اجترّت فابيان كذبة اخترعها مناصروها في لبنان. كانت حملة المقاطعة واضحة في إصرارها على التزام لبنان بقوانين مقاطعة إسرائيل التي لم تقرّر الدولة اللبنانيّة العليّة بعد نبذها (لا يستبعد المرء أن يكون أحد أطراف الدولة، ربما رفيق الحريري، قد وعد الحكومة الأميركيّة بنبذ قوانين المقاطعة ضد إسرائيل، وخصوصاً أنّه كان يدفع دفعاً بلبنان للانخراط في منظمة التجارة العالميّة التي لا تسمح بمقاطعة إسرائيل). ومحطة «إم.تي.في.» ردّت عبر حملة دعائيّة صبيانيّة وغبيّة بالنيابة عن فابيان، واستنكاراً للحملة (السلميّة حتى الساعة). لكن قريحة «إم.تي.في.» وقريحة باقي وسائل الإعلام الصهيوني المتعدّد في لبنان تفتّقت عن عبارة «الإرهاب الفكري» أو «الإرهاب الثقافي» (عثرت جريدة «النهار» على ممثّل لـ«الإقليّات» بين كتّابها كي يتخصّص في التنديد بـ«الإرهاب الثقافي»). لا ندري من ساعدهم في سك العبارة: هي تذكّر بخطاب اللوبيات الصهيونيّة حول العالم. حتى أصحاب البرامج الفنيّة والاجتماعيّة في محطة «إم.تي.في.» تحدّثوا عن «الإرهاب الفكري» وواحد منهم (لديه برنامج يحظى بمشاهدة عائلته والجيران على أكثر تقدير) أفتى بأنّ الفن لا سياسة له. هكذا أفتى خبير الفن في المحطة. الفن لا سياسة له؟ هذا القول ينطوي على جهل مزدوج. الفن هو تعبير عن سياسة دوماً. إنّ البناء الغنائي في أي دولة هو جزء من البناء الحاكم. علي الديك هو جزء من البنية الحاكمة في دمشق، كما أنّ الكم المسرحي للأخوين رحباني ساهم في الترويج لأسطورة احتاجت إليها الدولة اللبنانيّة الفتيّة. إنّ كل فن هو تعبير عن مصالح سياسيّة واقتصاديّة معيّنة. تحتاج ظاهرة «روتانا» إلى أطروحات جامعيّة لفهم الدور التدميري والهدّام (على أكثر من صعيد) الذي لعبته الشركة في السياسة وفي الفن في العالم العربي. لكن مفهوم «صناعة الثقافة» عصيّ على فهم مقلّدي نمط بورجوازيّة الرجل الأبيض في «إم.تي.في.». عند هؤلاء، تكمن الحضارة في التقرّب وتلمّس البركة من الرجل الأبيض، وخصوصاً إذا كان صهيونيّاً متعصّباً. عند هؤلاء، تهب الثقافة والفن من الهواء وهي لا تؤثّر في السياسة لأن عالم الفن يقطن في كوكب مختلف عن كوكب الأرض.
أما الجانب الآخر من المنطق الجاهل في الزعم أن الفن لا سياسة له، فيكمن في حالات يكون فيها الفن واضحاً وصريحاً ومُجاهراً وصارخاً في مراميه السياسيّة. هناك فنّ يرفع الأعلام و«يرفّه» عن جنود الاحتلال ويكيل المديح لحكومات معيّنة. لارا فابيان لم تكن تخفي مقاصدها السياسيّة، والبحث على «يوتيوب» وفي الإنترنت يغني عن نقاش وعن جدال. إنّ الذين يقولون بـ«الإرهاب الفكري» يحتاجون إلى توضيح، فهو لا يعني إلا الإصرار على التعبير الصريح عن الرأي ومن دون هوادة أو مساومة. إن المجتمع الديموقراطي قائم على حق الجميع في التعبير والتعبير المضاد عن كل الآراء (من ضمن حدود ينصّ عليها القانون في كل الدولة، حيث تمنع أميركا مثلاً التعبير عن آراء مناصرة لمن تضعهم في صفّ الأعداء أو الإرهابيّين. سجنت الحكومة الأميركيّة رجلاً ذا أصول هنديّة فقط لأن خدمة «الكايبل» التي يملكها وزّعت بالجملة محطة «المنار»). إذا كانت مقاطعة فابيان واستنكار دعوتها إرهاباً فكريّاً، فإنّ «إم.تي.في.» لا تفهم معنى الإرهاب ولا معنى الفكر ـــــ وهذا مرجّح، وخصوصاً أن القيّمين على المحطة يعانون من ضعف مستشرٍ في اللغات ـــــ ليس العربيّة إلا واحدة منها.
وقد تكافل عدد من الكتاب في مطبوعات ومواقع سعودية وحريريّة للنيل من حملة المقاطعة. حازم الأمين كان حازماً وقاطعاً في جريدة الأمير خالد بن سلطان («الحياة»): قال إنّ المقاطعين ينتمون إلى منظومة قديمة بائدة. والأمين سبق له أن عبّر في موقع «ناو حريري» عن نظريّة جديدة له مفادها أنّ لبنان هو وحده الذي لا يزال ينتمي إلى «المنظومة الإقليميّة القديمة». الأمين لم يفصح عن تعريفاته ومعاييره: إذا كان لبنان هو الوحيد الذي ينتمي إلى «المنظومة الإقليميّة القديمة»، فهل هذا يعني أنّ السعوديّة والبحرين وعمان وقطر والكويت والأردن، على سبيل المثال، تنتمي إلى «المنظومة الإقليميّة الجديدة»؟ هل فاتتنا منظومة قطع الرؤوس مثلاً؟ وما هو عماد هذه المنظومة، إلإ إذا كان الأمين يعتبر أنّ الديموقراطيّة هي معيار المنظومة، وأنّ لبنان متخلّف عن ديموقراطيّة آل سعود. هذا احتمال. لكن لماذا تصبح حملة مقاطعة إسرائيل جزءاً من «منظومة قديمة»، وهي تذكّره بالدبّابات السوفياتيّة «الصدئة»؟ هل الرفاق في حملة المقاطعة (سماح إدريس وأسعد غصوب وغيرهم) هم من فريق الشيوعيّة الستالينيّة البكداشيّة ـــــ الحاويّة؟ على العكس، إنّ الستالينيّين (مثل كريم مرّوة الذي قال في مقابلة مع جريدة «الديار» في 15 آب 1999 إنّ حافظ الأسد وفيديل كاسترو هما الشخصيّتان «المميّزتان» اللتان أثّرتا به وفيه) هم في صفّ 14 آذار (الحزب الشيوعي اللبناني بعيد كليّاً بالمناسبة عن حملة المقاطعة، أي أنّ الناشطين والناشطات في حملة المقاطعة هم وهنّ من اليسار الجديد الذي لم يلتق يوماً بمبعوثين من ستالين). ويزيد الأمين من علمنا عبر إخبارنا بأنّ هناك «منظومة قيم جديدة». لكن لم يفدنا عن موقع هذه المنظومة: في الرياض؟ في باب التبّانة؟ في عمان؟ أم في البحرين؟
وكأن الأمين يصرّ على أن ندرك مراميه، فيحشر آموز عوز في القضيّة، ويبشّرنا بأنّ كتاباً له ينبئ بانتحار إسرائيل. لكن الأمين يُسرّ بنفسه عندما يروي أنّه وجد أدلّة قاطعة على أنّ هناك في حملة المقاطعة من قرأ لعوز، وهناك من استمع لفابيان. من المؤكّد أنّ الأمين اكتفى بالعناونين في قراءته عن حملة المقاطعة. لا يدري الأمين أنّ دعاة المقاطعة لا يقاطعون الاستماع إلى الأغاني على أنواعها، ولا يمانعون في قراءة كتب الأعداء، وهم في طليعة من يلتزم بمبدأ «اعرف عدوّك». لكن يفعلون ذلك من دون الإسهام ماليّاً في خزينة أجهزة الدعاية للعدوّ الصهيونيّ. نستطيع أن نقرأ كتب «أموس عوز» إما على الإنترنت، أو عبر استعارة كتاب من المكتبة. أما الترجمة العربيّة الرسميّة للكتاب، فهي تسهم في دعم داعمي الحروب الإسرائيليّة ومجازرها. المبدأ نفسه ينطبق على السيّدة فابيان. يستطيع من يتشوّق أو يتحرّق إلى رؤيتها والاستماع إليها ـــــ خصوصاً من يريد أن يُصاب بقشعريرة الحضارة الغربيّة ـــــ أن يبحر على الإنترنت، وأن يشاهدها على «يوتيوب» أو مواقع أخرى. لا حاجة لأن ندعوها إلى لبنان. لا حاجة البتّة، مع العلم بأنّ «إم.تي.في.» تمثّل فريقاً سياسياً لا يتورّع عن دعوة فابيان أو أي فنان صهيوني إو إسرائيلي، وهو لا يتورّع عن دعوة الجيش الإسرائيلي العدوّ لغزو لبنان. إنّ تصريحات الماريشال للّو المرّ ونصائحه وإرشاداته في «ويكيليكس» تمثّل الفريق الذي تنتمي إليه محطة «إم.تي.في.».
لكن الأمين يتصنّع الحياديّة: فقد وازى بين حملة المقاطعة والعنصريّة المفضوحة لمحطة «إم.تي.في.». وفات حركة معارضة حملة المقاطعة ممن ينظر إلى الولايات المتحدة كمرشد روحي ومادّي، أنّ هذه الأخيرة تمارس المقاطعة الاقتصاديّة والسياسيّة، أكثر من أي دولة في العالم. هي التي ابتكرت حصار الدول الخانق بصورة لم تُمارس من قبل: الحصار ضد كوبا تعتبره الولايات المتحدة ذروة الحضارة والدبلوماسيّة. لكن أميركا ـــــ مثل دعاتها في العالم العربي ـــــ تحاضر بضرورة تحريم مقاطعة إسرائيل، فيما تفرض أميركا عقوبات اقتصاديّة متنوّعة على أكثر من مئة دولة في العالم.
على أنصار إسرائيل بيننا ـــــ الذين واللواتي يتستّرن خلف رداء لورا فابيان و«بلاسيبو» ـــــ أن يدركوا أن هناك فئة في الشعب اللبناني، (وهي قد تكون أقليّة وقد تكون أكثريّة، لا يهم) لن تسمح بتسرّب الدعاية الإسرائيليّة إلى ثقافتنا، ولو جاءتنا بالرداء العربي أو حتى بكوفيّة مزيّفة. هؤلاء، لن يهادنوا في مقاطعة إسرائيل، فيما ينشط في الغرب نشطاء من غير العرب في حملة المقاطعة. يستطيع أنصار لارا فابيان بيننا أن يذهبوا إلى باريس لسماعها، أو للرحيل إلى فلسطين المحتلّة لسماعها برفقة أنطوان لحد. الإكثار من الكلام عن حريّة الرأي والتعبير لن يليّن من عزيمة المقاطعين. يستطيع جمهور «إم.تي.في.» أن يحب الحياة وأن يحبّ أنصار إسرائيل، لكن أن يتوقّعوا أنّ حريّة التعبير تسري عليهم فقط، فهذا مؤشّر على غربة في داخل مسخ الوطن. المقاطعة واجبة ومستمرّة، ضد إسرائيل، وضد «إم.تي.في». تتمادى المحطة في استفزاز مشاعر الكثير من اللبنانيّين والعرب والبشر. ومقاطعة المحطة باتت واجبة. أما إذا اعتبرت المحطة أنّ في ذلك «إرهابا فكريّاً»، فهذا شأنها. لكن «الإرهاب الفكري» هو أدنى وسائل النضال ضد إسرائيل وأعوانها بيننا.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)