توالت المراثي عن جورج طرابيشي في الصحافة العربيّة وفي وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا حسن في حد ذاته لأن الكتابة والفكر لا يزالان يأخذان حيّزاً في الثقافة العربيّة. لا أتصوّر أن وفاة مفكّر أميركي يمكن أن تؤدّي إلى نشر مراثي عنه (أو عنها) في وسائل التواصل الاجتماعي —هذا مع أن تقرير «التنمية العربيّة» (السيّء الذكر) قرّر اننا أمة لا تقرأ لأن مُعدّي التقرير لم يسمعوا بتقدّم فن القرصنة في الثقافة العربيّة. لكن الكتابة عن جورج طرابيشي لا توحي دائماً بالاطلاع على إرثه: ليس من المؤكّد أنّ بعض اليساريّين والتقدميّين الذين كتبوا عنه قرأوا له في العشرين سنة الماضية. طرابيشي عاش لردح من الزمن، وترك نحو مئة مؤلّف (حسب تعداده) وتنقّل في الأيديولوجيّات من القوميّة البعثيّة (في سنوات حكمها في دمشق) إلى الماركسيّة (في سنوات انتعاشها وفي وجوديّتها في ما بعد) إلى ليبراليّة عربيّة عاديّة مُتسربلة برداء العقلانيّة. لكن كتابات طرابيشي متنوّعة وهي تحتاج في التعليق عليها إلى تخصّص ودراسة متأنيّة. والرجل كان مجتهداً وموسوعيّاً ومتنوّعاً في قراءاته وإن شاب كتاباته اختلاف في التوثيق أو نوعيّته.
والمراثي عن طرابيشي حاولت في بعضها استغلال وفاته سياسيّاً. فكاتب في جريدة الأمير خالد بن سلطان، «الحياة»، أسرّ لنا ان طرابيشي أخبره عن معارضته لنظام الأسد. لكن صبحي الحديدي (وهو مؤيّد لـ«الثورة السوريّة») في مرثيّته في «القدس العربي» اعترف بأنه كان يختلف مع طرابيشي في الموضوع السوري. ولماذا الإيحاء عن مواقف لطرابيشي في موته وهو كان يتجنّب التعليق في حياته (وقد يكون التجنّب - بإرادته أو من دون إرادته، بوعيه أو بلا وعيه، فرويديّاً- في صالح النظام). هذه مثل وضع عبارة «الممانعة العربيّة» في عنوان كتاب «هرطقات» في جزئه الأوّل الصادر عن دار الساقي، مع ان الكتاب لا يتطرّق إلى الممانعة لا من قريب ولا من بعيد. وتجنّب نقد النظام السوري في سنواته يُحسب وعن حق ضدّ طرابيشي.
المشكلة في بعض
ترجماته أنها كانت
ترجمات عن ترجمات

في حقل الترجمة أنتج طرابيشي الكثير. لكن موضوع الترجمة (من طرابيشي ومن غيره) مناسبة كي نطالب بمشروع إعادة مراجعة وترجمة لأمهات كتب الفكر الغربي —والتي ساهم طرابيشي في ترجمتها. كتبَ العفيف الأخضر في الأخطاء التي وردت في بعض ترجمات طرابيشي وفي تقديمه لترجمة سيّئة لـ«البيان الشيوعي». المشكلة في بعض ترجمات طرابيشي انها كانت ترجمات عن ترجمات (أي ترجمة عربيّة عن ترجمة فرنسيّة، عن أصل ألماني أو إنكليزي أو روسي). ولغة طرابيشي العربيّة أخّاذة وإنسيابيّة لكن ترجمته في «المعجم الفلسفي» لا تفي بالغرض كما أنه اعتمد في المواد عن فلاسفة عرب على ترجمات غربيّة غير حديثة (أنظر مثلاً المادة عن ابن تيميّة، ص. ١٩). كما ان الترجمات المتعلّقة بالمعاجم يجب ان تكون خاضعة للجنة من المختصّين (والمختصّات) في حقول الاختصاص. مثلاً، في المادة عن دريدا، يُترجم طرابيش مصطلح «ديفيرنس» (وهو أساس في فلسفة دريدا) بـ«الاختلاف»، بينما المصطلح يحتمل الاختلاف والإحالة معاً في تمييز المكتوب عن المسموع. (طبعاً ترجمتها تصعب باعتراف دريدا الذي قال عنها إنها «ليست كلمة أو مفهوم»). كما ان المادة عن القزويني أكبر من المادة عن ابن تيميّة في المعجم. لكن غياب المعاجم والموسوعات العلميّة الموضوعة أصلاً في اللغة العربيّة تزيد من الاعتماد على ترجمات عن معاجم غربيّة تخضع لمقاييس ومعايير تختلف في قياس الفلسفة الإسلاميّة مثلاً.
كما ان كتابات طرابيشي تختلف من حيث التوثيق: فدراساته في تفنيد والردّ على محمد عابد الجابري هي دقيقة التوثيق والاستشهاد فيما تخلو كتابات طرابيشي في «هرطقات» منها في الكثير من الأحيان. وهذا يصعّب الردّ عليها.
كما ان فكرة الهرطقات، في حد ذاتها، جميلة أدبيّاً لكنها أقل جرأة مضموناً. ويقول الكاتب عن نفسه في الجزء الثاني من «هرطقات» إنّ حب الهرطقة «يغلي» في دمه (ص. ٧). لكن مادة «الإلحاد» في الجزء الأوّل من «هرطقات» هي باعتراف الكاتب نفسه في مقدمة الجزء الثاني «أقلّها هرطقة» (ص. ٨)، والسبب حسب الكاتب يعود إلى أنه كتبها «بموضوعيّة شديدة». هل هذا يعني ان الموضوعيّة الشديدة تتناقض مع الهرطقة؟ ولماذا «الموضوعيّة الشديدة» في كتاب عن الهرطقة؟ وهل أن نقد التراث والهرطقة هي الشيء نفسه، أم ان الهرطقة تتخصّص في نقد المقُدّس والإلهي؟
وطرابيشي في إسقاطاته عن التاريخ الإسلامي يفتقر إلى التأريخ المتقصٍّ فيلجأ إلى التعميم ممّا يدخل كتاباته في خانة البلاغة السياسيّة. فيقول مثلاً (في أكثر من مكان) ان الطائفيّة هي «ثابت دائم» في التاريخ الإسلامي. لكن ما هو معنى الطائفيّة هنا؟ وكيف يمكن الإجمال بهذه الطريقة على تاريخ طويل من «الإسلام» وفي حقبات متعدّدة (والتحقيب بات من أولويّات التأريخ عن الشرق الأوسط)؟ وإلى أي حد كان التاريخ الإسلامي إسلاميّاً، وإلى أي حد لم يكن إسلاميّاً البتّة؟ التأريخ الحديث يأخذ موضوعات ويضعها في حقب محدّدة ويدرس سياقها، كما فعل أسامة المقدسي في دراسته للطائفيّة في لبنان. ويلجأ طرابيشي (مثلما فعل قبله فرج فودة ومحمد سعيد العشماوي) إلى تدوين «كاتالوج» من الدمويّات في التاريخ الإسلامي مستندة إلى «تاريخ الخلفاء» للسيوطي أو لغيره. لكن، أليس لهذه الفتن من سياقات سياسيّة لا دينيّة؟ كان المستشرقون يعتبرون تقليداً ان قتل ابن المقفّع أو بشّار بن برد يعود لقمع إسلامي ضد الزندقة بينما الترجمات الحديثة عنهما تتحدّث عن أسباب سياسيّة او شخصيّة لقتلهما. وكيف نوفّق بين الفتن والصراعات الطائفيّة التي يدرسها ويعرضها طرابيشي وبين التعايش بين الطوائف والأديان (بالملايين بالنسبة للأقليّات غير السنيّة) حتى القرن العشرين؟ هذا لا يعني ان كل الطوائف والأديان كانت متآلفة متحابّة، لكن يعني ان «الإضطهاد كان نادرا بينما التمييز كان ثابتاً»، كما لخّص ماكسيم رودنسون وضع الأقليّات غير الإسلاميّة في التاريخ في كتابه «إسرائيل والعرب». ولماذا يتجنّب طرابيشي نقد الدول النفطيّة في الحديث عن تغليب الشريعة فتراه يقول «ونحن لن نتحدّث هنا عن الدول الخليجيّة النفطيّة التي لم تخرج عن عباءة الدين» (أليس هذا أولى بالحديث من الدول الأقل تلبّساً بعباءة الدين؟) (ص. ١٠٦).
لكن الإشارة إلى «عوامل خارجيّة» في إثارة الفتنة مرفوض من قبل طرابيشي لا بل هو يسخر منه كونه برأيه «ثابتة» في «الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة» (ص. ٢٥). وهذه الأيديولوجيّة تتسم بالوحدانيّة والتراصّ ولا يجمها إلا ربما الإصابة بأمراض النرجسيّة التي شخّصها طرابيشي في كتاباته.
كما أن ينسب النزاع بين الطوائف فيما يخصّ المسلمين وغير المسلمين إلى المسلمين وحدهم (على طريقة سامويل هنتنغتون) ويستعمل للدلالة مثال الهند، كأن الهندوس تعاملوا مع الإسلام بتسامح وقبول (راجع حاشية ١٠٧، ص. ٩٠، «هرطقات»، ٢). وعليه، فإن طرابيشي اعتبر أن دور الاحتلال الأميركي (الذي هندس وأشرف على صراع الطوائف وعلى قسمة حصصها السياسيّة) انحصر في «تقديم المناسبة» للحرب الأهليّة (ص. ١١).
وحلول طرابيشي عن الديمقراطيّة تتجاهل التطوّر التاريخي لها. وهو يقول إن الشريعة الإسلاميّة تتنافى مع المساواة مع المرأة لكنه يضيف أن المساواة بين الجنسيْن «باتت من بديهيّات الديمقراطيّة» (ص. ٩١). لكنه يتناسى تاريخاً طويلاً من ديمقراطيّات تجاهلت حقوق المرأة والأقليّات و... العبيد بين مواطنيها (الذين شكّلوا ثلاثة أخماس الأحرار، حسب المعادلة الدستوريّة الأميركيّة الأولى). والديمقراطيّة السويسريّة لم تعط حق المرأة في الإقتراع (على النطاق الفيدرالي) إلا في عام ١٩٧١. ثم كيف يقارن طرابيشي بين الديمقراطيّة وبين الشريعة لإعلاء الديمقراطيّة (أو لذمّ الشريعة)؟ هذه مثلما كان النظام الأميركي يقارن بين الديمقراطيّة وبين الشيوعيّة والاشتراكيّة فيما الديمقراطيّة يمكن أن تتعايش مع الاشتراكيّة كما في الدول الإسكندنافيّة.
يلجأ طرابيشي في
إسقاطاته عن التاريخ الإسلامي إلى التعميم

وبالرغم من الكتابات الغزيرة لطرابيشي وسعة إطلاعه إلا أن كتابات لا يمكن ان تندرج في نطاق الكتابات الأكاديميّة. كما ان تعميماته عن الديمقراطيّات والمجتمعات الغربيّة تفتقر إلى الدراسة والمعرفة الوثيقة. هو يقول مثلاً إنّ الأنظمة الديمقراطيّة تميّز «تمييزاً حاسماً بين مفهوم الخطيئة ومفهوم الجريمة» (ص. ٩٢) وهذا ينمّ عن قلّة معرفة بتطوّر القانون الجنائي الغربي. (يُنصح هنا بقراءة كتاب الصديق جوزيف مسعد «إشتهاء العرب»). إن القانون الأميركي (حتى بضع سنوات في بعض الولايات الجنوبيّة) كان يعطي أسباباً تخفيفيّة لـ«لجرائم الحب» (وهم مفهوم لم يكن يختلف كثيراً عن «جرائم الشرف» في بلادنا، وكان تطبيق المفهوم -مثل مفهوم الشرف- من جانب واحد). كما ان قوانين تجريم المثليّة في بعض البلدان العربيّة لم تنبع من «الشريعة»، كما يقول، بل من قوانين المُستعمر الغربي. وقوانين تحريم المثليّة بقيت مُطبّقة حتى ٢٠٠٣ في نصف الولايات الأميركيّة. يخال طرابيشي ان الديمقراطيّة من شأنها حلّ كل مشكلات المجتمع فيما هي إطار للتمثيل السياسي.
لكن إيمان طرابيشي بالديمقراطيّة كان منقوصاً ومتناقضاً. هو كان يلهج في حمدها في حديثه عن المجتمعات الإسلاميّة لكنه كان يقول أيضاً ان عقول النخبة وعقول العامّة (الفصل في حد ذاته غير ديمقراطي) تحتاج إلى تنظيف أو عقلنة. لكن كيف للكاتب أن يحكم وحده على معيار «عقلنة» أو «لا عقلنة» الملايين من البشر؟ ألا يتعارض هذا مع بديهيّات الفكر الديمقراطي الذي يساوي بين الأفراد؟ كانت الأقليّة البيضاء في أميركا (وفي جنوب أفريقيا) تفرض هيمنتها على السود عبر الترويج للتمييز بين النخبة (العنصريّة) وبين العامّة، وبين المُقترع العاقل والمُقترع اللاعاقل (هذه مثل عبارة اللورد بلفور في تسويغ وعده عندما جزم ان «تقرير المصير العددي» لم يؤخذ في عين الاعتبار). ويعتبر طرابيشي الجوانب اللاديمقراطيّة في تاريخ النظم الغربيّة على أنه الاستثناء (لم يرَ في التاريخ الأميركي إلا الماكرثيّة مع ان هناك كتب تدرس النزعات والتيّارات اللاديمقراطيّة في التاريخ الأميركي). وأما عن تلازم الاقتراع عنده مع الوعي والصوابيّة (راجع «في ثقافة الديمقراطيّة»، ص. ٢٥) واقتراحه بحرمان الأميّين من حق الاقتراع لتفادي فوز الإسلاميّين، فإنه يصبح، كما كتب في نقد ذلك جوزيف مسعد في «اشتهاء العرب»، وصفة للتمييز ضد النساء والفقراء الذين يعانون من الأميّة أكثر من الذكور والميسورين (ص ٥٣ من الترجمة العربيّة لكتاب مسعد).
ومفهوم العقلانيّة عند طرابيشي يلتبس أيضاً، إذ يصبح ما يراه الكاتب صائباً: والتباس المصطلحات والمفاهيم سمة من سمات كتاباته. هو لا يميّز بين «العقل الذاتي» و«العقل الموضوعي» في تمييز ماكس هوركهايمر في كتابه «كسوف العقل». ويلاحظ هوركهايمر ان العقل الموضوعي يصبح في حد ذاته «مصدر تقاليد» (ص. ١٢). ومبدأ الانصهار الاجتماعي العقلاني هو الذي يفسّر عند هوركهايمر نزعة جنوح الليبراليّة نحو الفاشيّة. والعقلانيّة الموضوعيّة تصبح تلك الحقيقة التي ينساق وراءها الجموع. والغريب ان طرابيشي (الذي ترجم —عن الترجمة الفرنسيّة— كتاب هربرت ماركوزه «الإنسان ذو البعد الواحد»)، فاته تحليل ماركوزه عن العقلانيّة الصناعيّة والتكنولوجيّة التي زادت من تفاقم القمع الرأسمالي. لكن طرابيشي بقدر ما ينفي الخلاصيّة عن مفهومه للعقلانيّة والديمقراطيّة بقدر ما يتضح ايمانه بها. لكن ضبابيّة المصطلحات مشكلة تظهر للقارئ في كتاباته في السنوات الأخيرة. فعبارات «تحليل سوسيولوجي» أو «نقد سوسيولوجي» تظهر بمناسبة وغير مناسبة، وهي ملتبسة عندما تصبح مناسبة للتعميم (هذه باتت سائدة في لبنان في الخطاب اليميني الشبابي حيث تُغلّف التعميمات الطائفيّة بصفات الـ«سوسيولوجيّة»).
ويكتب طرابيشي في مواضيع كثيرة مما تفقدها صفة التخصّص. وفي «هرطقات» (الجزء الأوّل) يكتب عن الرأسماليّة (ومن دون مراجع وشواهد) فيقطع ان الأزمات في الرأسماليّة هي (عكس ما «يفهمه» الماركسيّون كما يقول) آلية أساسيّة للدفع نحو الأمام، وللتصحيح الذاتي (ص. ١١٩). إن الأزمات الأخيرة في الرأسماليّة هي عكس ما يذهب إليه طرابيشي، الذي لم يلحظ تحليل توماس بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الواحد والعشرين». أي ان الأزمات في النظام الرأسماليّة تدفعه نحو الوراء، أي نحو تركّز رأس المال في أيد أقل، ونحو زيادة نسبة الثورات الموروثة. كما ان التفاوت بين الطبقات ازداد ولم ينقص. وفكرة «التصحيح الذاتي» للرأسماليّة دُفنت تحت أنقاض أزمة ١٩٢٩.
وفي الطور الأخير من التحوّل الأيديولوجي لطرابيشي عندما مزج بين العقلانيّة والديمقراطيّة والعلمانيّة والفرويديّة، فإنه يستعين بطريقة لا تتوافق مع شروط علم النفس الحديث في تطبيق نظريّات فرويد عبر تعميمات عن مجمل العرب والمسلمين. هو يدرك ذلك فيقول في كتابه «المثقّفون العرب والتراث: التحليل النفسيّ لعصاب جماعي»، عندما نتحدّث عن عصاب جماعي عربي، فإننا لا نعمّمه ليشمل جميع العرب في جميع بلدانهم وبجميع أجيالهم وطبقاتهم، بل نخصّصه لنقصد به حصراً الخطاب المعصوب الذي تنتجه وتعيد إنتاجه شريحة واسعة من الإنتلجنسيا العربيّة» (ص. ١١). لكن كيف يكون «جماعيّاً» ولا يكون تعميماً؟ لكن هذه النوع غير العلمي في التحليل النفسي ليس جديداً وقد يكون بدأه قبل طرابيشي الأنثروبولوجي في جامعة جورجتاون في الخمسينيات والستينيات، مختار العاني (وهشام شرابي فيما بعد، ويذكره شرابي عرضاً في مقدّمة كتابه «مقدّمات لدراسة المجتمع العربي» كشريك له في المنهج المذكور)، كما ان صادق جلال العظم استعان بتعميميّة «الشخصيّة الفلهويّة» لحامد عمّار في «النقد الذاتي بعد الهزيمة». أي ان هزيمة ١٩٦٧ أدّت عند بعض الأكاديميّين العرب إلى نقد العرب (على مستوى «الذات العربيّة» وتحليل «الذات العربيّة» الجوهرانيّة) بطريقة غير علميّة (بمعنى علم الاجتماع) لكن باسم العلم. وهذا التطبيق لا يختلف البتّة عن منهج رافييل باتاي، المُستشرق الإسرائيلي، في كتابه «العقل العربي» (إستعمل الأخير الأنثروبولوجيا وعلم النفس لذم الذات العربيّة، لكن عنصريّة الكتاب جعلته منفيّاً في دوائر علم الاجتماع والإنثروبولوجيا الغربيّة، باستثناء دوائر «دراسة الإرهاب» والعسكريّة الأميركيّة التي تعاملت مع الكتاب —كما روى سيمور هرش— كـ«الإنجيل» بعد ١١ أيلول.
وهناك جانب الاستشراق العلماني لطرابيشي خصوصاً فيما كتبه عن المؤرّخ الإسرائيلي، إيمانويل سيفان. لكن طرابيشي الشديد النقد الحادّ لزملائه من الكتّاب العرب، شديد الانبهار بالكتّاب الغربيّين. وهو يعيب على العرب عدم ترجمتهم لكتابات الاستشراق بسبب العقيدة «القوميّة» حسب قوله (ص. ٩٩، «هرطقات»، جزء ١) (وهذا غير صحيح إذ ان معظم كتابات المستشرقين تُتَرجم وهناك اهتمام بها حتى من قبل الناقدين الإسلاميّين، وبرنارد لويس يزهو دوماً بأن كتاباته تُترجم إلى العربيّة). لكن العرب لا ينجون من نقده حتى لو ترجموا كتب الاستشراق: فهم لا يفهمونها لو قرأوها لأنهم مصابون بعصاب من نوع ما. لا، وطرابيشي يقول إن فهم الاستشراق ليس سهلاً لأن المُترجم العربي قد يؤثّر على عقل القارئ العرب سلباً من خلال نقد وترصّد الفكر الاستشراقي (ص. ١٠٠). هذا يعني ان طرابيشي وحده كان قادراً على فك طلاسم محاسن الفكر الاستشراقي. لكن اطّلاعه على الفكر الاستشراقي الغربي ليس وافراً وهو لهذا لا يدرك ان مساهمات إيمانويل سيفان لا تُقارن بإسهامات حقيقيّة لاستشراقيّين تقليديّين. لا يعلم ان سيفان ناقل وليس مُبتكراً: إن كتاباته عن الإسلام السياسي ليست إلاّ عرضاً وصفيّاً لكتابات عرب وإسلاميّين في موضوع الإسلام السياسي. لكن طرابيشي يتعامل معه باحترام وتقدير، فقط لأنه مُستشرق ولأن عقله —خلافاً لكل عقول العرب— غير متأثّر سلباً ضد الاستشراق.
وفي تقييمه لاستشراق سيفان، يُقحم موضوع العقل ويعتبر ان دوافع وسمات الاستشراق هي العقل، وان الذي يستوعب الاستشراق هو الذي يقبله عقليّاً. وهنا، ينفي ان يكون العقل متأثّراً بعوامل سياسيّة أو معرفيّة، لأن العقل عنده «كوني»، وعليه فإن فرائضه ومكامنه لا تُردّ. ويعيب على الثقافة العربيّة مقاطعة كل ما هو إسرائيلي، وهذا ليس صحيحاً. فحتى في عصر الصعود القومي (الذي انتمى طرابيشي إليه والذي سخر منه فيما بعد) فإن مبدأ «اعرف عدوَّك» كان سائداً، إلى درجة مبالغ فيها. لكن طرابيشي يضيف أن مبدأ مقاطعة «الإسرائيلي» هي نفسيّة ولا عقلانيّة: أي انه يوحي ان خطوة أنور السادات في القفز على «الحاجز النفسي» (كما أسماه السادات) كان عملاً عقلانيّاً. والقبول بالفكر الإسرائيلي (أو العقلانيّة الكونيّة من قبل إسرائيل، حسب تصنيف طرابيشي) يتطلّب «قدراً مضاعفاً من العقلانيّة». ويضيف أن المُستشرق الإسرائيلي هذا «أثبت موضوعيّته» —والموضوعيّة هي نتاج «العقل العلمي» (ص. ١٠١). أي ان العقل العلمي هو عقلاني لأنه عقلاني. ويميّز طرابيشي بين الخطاب العلمي والخطاب الأيديولوجي، والاستشراق الإسرائيلي هنا يقع في الصنف الأوّل فيما يقع نقده في الصنف الثاني. ويقول إنه «أرخى حسّه النقدي» في قراءة سيفان، مع ان طرابيشي هو آخر مَن يرخي حسّه النقدي. لكنه قد يقول إن ذلك واجب في قراءة المُستشرق الإسرائيلي لأنه ينطلق من «العقل الكوني» (طبعاً، لا مجال لعرض كتاب سيفان هنا لكن الطريف ان الكتاب قد يكون من أكثر كتب المؤلّف أيديولوجيّة —وهل هناك تأليف خارج الأيديولوجيا— وهو يعيد اجترار فرضيّات الاستشراق الإسرائيلي، والاستشراق الإسرائيلي هو أكثر أنواع الاستشراق ابتذالاً وأقلّه معرفة وسعة وجدّة).
لا، ويأخذ طرابيشي بمقولة سيفان (السياسيّة والأيديولوجيّة) في التقليل من أهميّة القدس في «الوعي الإسلامي للعصر الوسيط» (ص. ١٠٧). لكن أهميّة القدس ليست موضع شك حتى في كتابات مستشرقين إسرائيليّين ضليعين أكثر من سيفان (مثل يهوشواه بورات في كتابه عن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة). ويقبل طرابيشي بلا كيف زعم سيفان أن المسلمين ما قبلوا مركزيّة القدس في الدين إلا بعد ان جلبها إليهم «معتنقي الإسلام الجدد من اليهود». لكن طرابيشي يرفض عزو عامل سياسي احتلالي لنظريّة سيفان لأنه —حسب وصف الكاتب— علماني، والعلماني بعيد عن الغرض والهوى والاحتلال، مع ان مؤسّسي دولة العدوّ كانوا في غالبيّتهم من العلمانيّين.
إن إرث طرابيشي كبير ويستحق الدراسة والتمعّن والنقد، على طريقته في التدقيق والدخض والتفنيد والتفكيك. لكن من المعالم الأكيدة لفكره ان سمة من الخلاصيّة والنهائيّة وسمت فكره في تنقّلاته لكن التجلّي الأيديولوجي الأخير له كان أكثر انغلاقاً لأنه أنطلق من فكرة «العقلانيّة الكونيّة» التي لا تُردّ، والتي تجعل من الليبراليّة تجنح نحو الفاشيّة. كما ان المبالغة في التحليل النفسي على نطاق جماعي جعل الكاتب يشطّ في التعميم التنميطي عن ملايين من البشر، وبعيداً عن العلميّة والعقلانيّة التي كتب باسمها. يُضاف إلى ذلك الالتباس في استعمال المصطلحات ما يضفي على بعض كتاباته طابعاً بلاغيّاً (سياسيّاً). والعقلانيّة باتت أدهى على الثقافة العربيّة من القوميّة لأن الأولى تقطع بسيف الدولة العظمى.