في «نظام الخطابة»، يتحدث ميشال فوكو عما يسميه «شرطة خطابية»، تَضبط إيقاع القول باعتباره حدثاً خطيراً يجب التحوط لوقوعه؛ هناك في كلّ حقبة نظام تواصلي نَختبر تجربة وجودنا في ظله. مع كل حقبة، تحدث إعادة توزيع للممارسات على المؤسسات والمنابر: مَنْ يتكلم؟ عمّا؟ وفق أيّ شروط؟ من على أيّ منبر؟ ومَنْ يستمع؟ (مَنْ يمكنه الاستماع، ومَنْ «يجب» عليه الاستماع؟)، وكيف يَستمع، وأين؟ ما الذي «يستحقّ» الأرشفة؟بدلاً من تقصّي نجاح الممارسة أو فشلها، صوابها أو خطئها، يمكننا في هذه الحالة أن نتقصّى التموضع المؤسساتي لها، وكيف حُلّت هذه الممارسة إلى مكونات تتوزّع القيام بها مجموعة من المؤسسات، إلى جانب مكونات من ممارسات أخرى أُعيد توزيعها كذلك، فيجري التعبير عن الممارسة نفسها، بجملة من العبارات، تَرث الأولى منها الجامعة.
كمثال، بعد آينشتاين بات الكلام النظري عن الزمن مسؤولية شخصيتَين، لكلٍّ منهما مؤسسته المتمايزة: الفيلسوف والفيزيائي. وصار لزاماً على كل مَنْ يتصدّى للكلام النظري عن الزمن أن يحدِّد مسبقاً ما إذا كان يبتغي التطرق إلى هذا المفهوم فيزيائياً أم فلسفياً. كذلك الأدب، حيث جرى في الحقبة الحداثية تجميع ممارسات الحديث عنه من مؤسسات كثيرة متبعثرة، ومركزتها في قسم النقد الأدبي الجامعي، الذي هو ابتكار حداثي بحت.
ليس هناك حقبة بصرية وأخرى سمعية، أو حقبة أسطورية وأخرى واقعية، بل إعادة توزيع لممارسة الإبصار والسماع والأسطرة، والاختبار على شبكة جديدة من المؤسسات.
لنأتِ إلى المساحة المؤسساتية لممارسة «التغيير». في «رسالة إلى اليسار الجديد» (1960)، أشار عالم الاجتماع الأميركي تشارلز رايت ميلز إلى أنّ أداة التغيير التاريخي لم تعد الطبقة العاملة (كما في عهد «الماركسية الفيكتورية»)، بل المثقفين الشباب والطلاب، أو الإنتلجنسيا الشابة، مستشهداً على ذلك بريادية الحركات الطلابية في تغيير أنظمة، وتحدّي أخرى في حينها، من تركيا إلى كوريا الجنوبية وتايوان وبولندا وهنغاريا.
بعد ميلز، كان الاحتجاج على حرب فييتنام حركةً طلابية جامعية بامتياز، وكان للحركة الطلابية الديموقراطية «SDS» أثر بالغ خارج الجدران الأكاديمية. وحتى في فرنسا، كانت الجامعات تعيش حالة ثورية تُوِّجت بأحداث أيار 1968، التي بَرهنت على أنّ كوامن الاعتراض والتغيير كانت في الجامعة لا خارجها. فـ«الثورة» حينها لم تتأقلم حتى مع الاتحادات العمالية والحزب الشيوعي الفرنسي، الذين بدأوا يَنسحبون من ذلك التحرك حين خَرَج قادة الطلاب إلى الإعلام بتصريحات عُدّت حالمةً، وفَقدوا التأييد الشعبي خارج الجامعة، وعادت الديغولية أقوى مما كانت عليه قبل التحرك.
كانت الجامعة هي الفضاء الذي تَنتظم فيه قوى الاعتراض والتغيير التاريخي؛ هناك تُنتَج وتُنتِج. لا يَعني ذلك أنّ الجامعة لم تكن قبل ذلك تسهِم في صناعة التغيير، أو أنّ الطلاب لم يكونوا ناشطين في التغيير (الثورات الألمانية في 1848 كانت شاهداً على مشاركة فاعلة من قِبَل طلاب الجامعات، وخاصة في فيينا)، بل أنّ عناصر التغيير تموضعت في تلك اللحظة في حقل تواصلي هو مؤسسة الجامعة. أما لماذا الجامعة بالذات، فهو موضوع آخر يمكن إرجاعه إلى ولادة اليسار الجديد (بالتزامن في الولايات المتحدة وفرنسا) والتسوية الضمنية التي استوت تدريجياً مع نهاية محاكم التفتيش الماكارثية، ومخاض فرنسا في حقبتها الديغولية، حيث التناغم الاستراتيجي بين قوى التغيير والسلطات أوضح، على اعتبار أنّ اليسار الجديد (أو تيارات ما بعد الحداثة) تلاقت مع السلطة في ضرورة إيجاد نهج ثالث (جمهوري غير فاشي) بين الرأسمالية الأميركية والماركسية السوفياتية. في تلك الحقبة، كانت هناك حاجة ماسة إلى مساحة محددة (مؤسساتياً وجغرافياً حتى) ومضبوطة لتراقب السلطات من خلالها فعاليات الاعتراض، على أن تَلتزم كوامن التغيير من ناحيتها بعدم نقل التوتر إلى خارج المخيم الجامعي كشرط لعدم قمعها.
لكنْ خمسون عاماً بعد ميلز، حدثت فيها تبدلات في مأسسة الاعتراض والتغيير، وانزياح في تموضع أدوات «الثورة»، كما انتقل الاعتراض من الطبقة العاملة إلى الجامعة، بحسب ميلز، فالجامعة اليوم لم تعد تَحتضن فعاليات الاعتراض، بل مؤسسة أخرى، وعلينا في وقت ما أن نَكتشف التسوية الماكارثية الضمنية التي أفضت إلى هذا الانتقال، كما حصل في الانتقال الأول.
الربيع العربي وحركة «احتلوا وول ستريت» كانا حَدَثَين أشارا إلى عمق التغيرات في مؤسسة الاعتراض. بدل الجامعة فإنّ الحديث اليوم يدور عن مواقع التواصل الاجتماعية. في الواقع، لم يكن للجامعات أثر جدّي في الربيع العربي و«احتلوا وول ستريت»؛ ليس هناك اتحاد طلابي ديموقراطي يقود الجماهير. بدلاً من مدرجات جامعة بيركلي، هناك اليوم صفحات فايسبوك وتويتر، فيها يجري التداول في شأن الثورة وتحديد مواعيد للتظاهر وتُنشَر أخبار التحركات. وبدل نجومية قادة الاتحادات الطلابية (طبعاً، ليس قادة الاتحادات العمالية) هناك نجومية ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي؛ وائل غنيم بدل ماريو سافيو. بدل «لجنة احتلال السوربون» (حيث كان القادة الطلابيون يوجهون التحركات العمالية أيضاً) بات هناك «احتلوا وول ستريت» (التي بدأت نشاطها من مواقع التواصل الاجتماعية)، فالجامعة لم تعد أصلاً موضوع النقاش. حين نَقرأ عن هذين التحركين، هناك كلام كثير عن مواقع التواصل الاجتماعي، وغياب شبه تام للاتحادات الطلابية، أو فكرة الجامعة كفضاء لإنتاج الاعتراض. وبالتالي لن يكون مستغرباً اقتراح البعض تسمية «ثورة الفايسبوك» على حركات التغيير الأخيرة.
طبعاً، هي ثورة الإخوان المسلمين في مصر، لكنّهم سيَلجأون إلى مواقع التواصل الاجتماعي بدل جامعة القاهرة ليَقودوا الثورة. وحتى معارضو الثورة سيشنّون حملاتهم المضادة من خلال فايسبوك، لا بخلق اتحاد طلابي موالٍ سراً للنظام.
لعقود مرت، كان الأكاديمي يعبِّر عن احتقاره لوسائل الإعلام، التي تَتلاعب بالعقول وتقوِّض الديموقراطية. كان الإنترنت هو الكابوس الأسوأ للأكاديمي؛ وبدلاً من أن يَستوعب الفضاء الجديد في حركة إبداعية، فإنّه يُفاخر (لأسباب ليس هنا مجال ذكرها) في أنّه لم يتمكّن من التأقلم معه، ولغته الوحيدة في وصف الفضاء الافتراضي كانت الشيطنة وعدم الثقة. حتى إنّه مع كل وسيط جماعي (mass medium) جديد كان يَرى أنّه انحدار جديد: ثقته بالإنترنت أقل من ثقته بالتلفزيون، وثقته بالتلفزيون أقل من الراديو، ثم أقل من الصحيفة (التي لم تعد تحظى بالنقمة الأكاديمية نفسها، كما كانت الحال في البدايات)، طبعاً دون أن نَعلم بالتحديد طبيعة الموقع النبوي الوصائي الأخلاقي الذي منه يقوّم هذه المؤسسات.
لكن لم يَخطر ببال الأكاديمي أنّ هذا الفضاء الجديد سيَسرق منه قوى الاعتراض. في الربيع العربي و«حركة احتلوا وول ستريت» يبدو الجامعي خارج اللوحة، رغم وجود فيض من النصوص التي تدّعي التنبؤ بوقوع الثورة وإلهامها. قبل ذلك بسنتَين، اقترح عضو مجلس اللوردات البريطاني اللورد فيليب براون على حكومته إيقاف الدعم الحكومي لأقسام الإنسانيات في الجامعات البريطانية، إثر مراجعة طلبتها منه لرسوم التعليم.
لا يعني ذلك بأي حال أنّ الفضاء الجديد، البنية التحتية الجديدة التي تَسمح ببلورة الحركات وتنظيم جهود جماعية، أفضل أو أكثر عدلاً... كل ما هنالك أننا نَحتفي بقدرتنا على أن نكون مختلفين في كل مرة: التغيير كهدف استراتيجي بحدّ ذاته.
على الجامعة أن تعي أنّ دورها يتغيّر وأن عقداً أو تفاهماً جديداً في طور التبلور، والمرحلة الآن هي تقطيع وقت بانتظار إعلان صياغة رسمية لهذا العقد.
* باحث لبناني