لم يعد الكلام عن نهاية سايكس- بيكو ظنوناً بعد أحداث ما بات يعرف بــ«الربيع العربي». كان كل شيء يشهد على أنّ المنطقة آيلة إلى نشأة أخرى وولادة جديدة.تهاوي العروش كدمىً عتيقةٍ أطلق كل الصراعات الكامنة من عِقالها، وهي صراعات كانت الأنظمة الحاكمة وقوى الاستعمار تحتويها بأنساقها وآلياتها وتوازناتها الدقيقة ضمن قلاع محكمة. لكن لم يكن ما يحدث في منطقتنا خارج نبض التطورات الذي يجري في العالم، وخارج ساحة المنافسة بين الدول العظمى، وخارج نظرية «البقاء للأقوى» و«المجال الحيوي» و«السيادة القصوى» و«الساحة المحورية» التي تُظهر بشكل واضح العلاقة بين أحكام الجغرافيا السياسية وبين المعالجات الحديثة في صناعة الخرائط، بل وخارج الثورة التكنولوجية التي فتحت المجال رحباً أمام تغييرات نفسية واجتماعية وأيديولوجية جوهرية على الساحة الدولية وأوجدت تناقضات في شبكة المعايير والمفاهيم التقليدية. يكفي أن نحلل سيرورات التمدد العولمي بما فيها من تدفقات ثقافية وسياسية وإعلامية واقتصادية هائلة وكيف اخترقت جغرافيات وسيادات الدول وهويات المجتمعات لنكتشف أننا «نواجه عالماً كل ما هو صلب فيه يتبدد ويتحول إلى أثير» كما يقول المفكر الأميركي مارشال بيرمان، فماذا لو وقفنا على ما تسعى إليه دول إقليمية ودولية من توسيع ساحات التأثير وانتهاج رؤية جيو-سياسية تستثمر التداخلات الجغرافية والارتباطات العرقية والدينية المتبادلة لتشكيل أرضية لسياساتها التوسعية، أو بالحد الأدنى، إحداث تغيير راديكالي لتعميم رسالتها أو نشر نموذجها التي ليست في الحقيقة إلا عملية استئناف في العمق لأشكال الهيمنة بصياغات ناعمة وبمفاهيم ملساء كما هي توجيهات وتوصيات جوزف ناي، مبتكر مصطلح القوة الناعمة أو القوة الذكية! وفي هذا المدلول لا تظهر القوة الناعمة إلا وسيلة من وسائل الإكراه والتسلّط وإسقاط الحدود وتجاوز قواعد السيادة الوطنية وتحدي الأوضاع القائمة.
وبأقصى نحو ممكن سوف يمضي الاستراتيجيون وكبار المنظرين والميثولوجيين الأميركيين ومنهم ناي في إعادة تخطيط النظام الدولي وفي تحديد دور أميركا «التوتاليتارية» ساعة عبر تسويغ مذهب القوة اللامتناهية وأخرى عبر صيغة التدمير الخلاق التي تقوم مبادئها على تمزيق الأنماط القديمة في الأعمال والعلوم والسياسة والقانون وصولاً إلى الجغرافيا. فأميركا تريد تولّي أمور العالم وإنهاءَ التاريخ تحت شعاع «الدولة الحقيقة» أو «الدولة المخلّصة» أو «الأمبراطورية الفاضلة» والتي يرى فيها هؤلاء أنّ العالم ليس سوى امتدادٍ للمجتمع الأميركي والأمن القومي الأميركي ببعديه الجيو- سياسي والجيو- استراتيجي، ما يعكس رسوخ العقيدة التي أعلنها الرئيس جون كنيدي في ستينيات القرن الماضي والتي يعتبر فيها أنّ العالم كله من شؤون السياسية المحلية للولايات المتحدة الأميركية. وعلى هذه العقيدة عمد بوش الأب والابن إلى التصرف في شؤون العالم كما لو أنّ العالم كله يتصل اتصالاً عضوياً بأمن ومصالح الولايات المتحدة، وعلى أيديهما وأيدي غيرهما من الصقور في الإدارة الأميركية تمت عمليات غزو السيادات وتهشيم الجغرافيات وتفكيك الدول بذريعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!
لكن هذا الكلام الذي سقناه لا ينفي الخيارات السياسية لشعوب المنطقة وتطلعاتها في الالتحاق بركب الحركة الديمقراطية العالمية، ولا يستبعد العوامل الداخليةَ التي سببت كل هذا التفسخ والتوحش والصراعات المجنونة التي ضربت عميقاً في نسيج المجتمعات العربية، ولكنّ حصر ما جرى ويجري في سلّة من الأسباب والدوافع التي لها علاقة بأوضاع بلدان المنطقة من زاويا سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية سيكون مبتوراً عن سياقاته الأخرى التي هي أشد ضراوة وتأثيراً في مجريات الأحداث، وسيبدو ذلك معزولاً عن دوائر التوتر الإقليمية والصراعات الاستراتيجية بين القوى العظمى التي تضع منطقتنا ضمن أولوياتها، لما تراه فيها من أهمية متعددة الجوانب، ولولا ذلك لما كان سايكس-بيكو، ولما تولّدت كل هذه التطورات الخطيرة التي تشهدها المنطقة.
لا شكّ أنّ بعض المنطقة التي نُقيم في وسْطها تواجه سؤال النهايات. جغرافيتها في دينامية ناتجة أيضاً، من تحوّل التعدديات الدينية والعرقية إلى هويات سياسية وتالياً إلى ساحات للتمزق، وهي الآن، تأخذ أشكالاً معقّدة على وقع التجاذبات السياسية والتطورات الميدانية. والحدود بدأت تفقد شيئاً فشيئاً صفتها القانونية، والقلق بات يساور الدول مما هو حادث وقادم، بعد أن أدّى انكسار التوازنات التقليدية إلى فراغ مدوٍ، لم يعد معه ممكناً إيقاف تداعيات الدم والإرهاب من دون تسويات بين الدول المنخرطة في الصراعات ومن دون ضبط التوازنات الداخلية على دعائم سياسية واجتماعية ودينية تسمح بعودة الاستقرار مجدداً.
ما هو واضح حتى اللحظة، أنّ مشروعات الاتفاقات الإقليمية والدولية لم تكتمل شروط تشكّلها بعد، ولا رغبات جادة في إنهاء الصراعات التي تموج في كل الاتجاهات. ما زال أمام الدول النافذة مخاضٌ صعبٌ قبل التفاهم التام على اقتسام الحصص وتصفية الإطار التاريخي والجغرافي والسياسي القديم الذي كنّا نعيش داخله. المنطقة ستبقى حيزاً حيوياً للتنافس بين القوى ريثما تنضج ظروف لتسويةٍ لا مناص منها، ولكنْ لا أحد يعلم وقت رسوّها بعد. أقول ذلك لكني لا أُسلّم بالنتائج على اعتبارها قدراً محتوماً ويقيناً صادقاً، فمن غير المعلوم أنّ سايكس-بيكو آخر في طريق التحقق لكن لا شك أنّه فرضية تختبر نفسها بإصرار. فبين المطلق والنسبي وبين الثابت والمتحوّل، إرادات شعوب، وخيارات أنظمة، وتدافع مصالح، ومعطيات متبدّلة تنفي أن يكون ما يتأسس قائماً على سننٍ ومبادئ جبرية، ولكنْ أحاول أن أتصور المنطق الذي تنتظم عليه حركة الصراعات والتوليفة التي يمكن أن تنشأ عنها.
علينا أن
نقدم أجوبةً علميةً عن تساؤلاتنا وهواجسنا

أما نحن فما نحتاجه، هو فهم أوسع للأوضاع التي تحكم علينا العيش في دوامة التمزّق والتفتيت والحروب الأهلية، وهو إدراك أكبر لاتجاهات النظام العالمي الجديد، وللتحولات القابعة في الخيارات الاستراتيجية للدول العظمى، القادرة على التأثير في التوازنات الدولية والإقليمية وما يعكسه ذلك من مخاطر أو أمالٍ على وجودنا ومصائرنا.
فعندما يقف الإنسان أمام خياري الوجود واللاوجود، الحياة أو الموت، لا يعود جائزاً الذهابُ بعيداً في تجريد التحولات التي تخفي وراءها نزعة انهزامية أو نزعة انسحابية أو نزعة مكابرة في مواجهة الأحداث. أما الأخطر فهو الانخراط في تهديم النظام السياسي القيمي الاجتماعي الحقوقي الذي يفتح المجال إلى انفلات الغرائز من كل نطاق. فمع اندلاع الأزمة في سورية لم تكن الصورة متعذّرة التمييز، وأنّ ما يجري هناك لا يقف عند حدود الاعتراض على النظام وبنيته السياسية الأمنية، وإنّما له صلة بمشروع كنّا قد خبرنا بعض زخمه خلال عدوان تموز الإسرائيلي عام 2006 ومفاعيله التقسيمية والديمغرافية والعنفية، ولكننا وضعنا أصابعنا في آذاننا واستغشينا ثيابنا، لأننا لا نشاء الاقترابَ من حقائق أنفسنا ولا نريد تعديلاً على منطق خطابنا الأيديولوجي. فمعظم مقارباتنا لقضايانا الداخلية والخارجية تجيء وفق شروط إمكانياتنا وتحيّزاتنا ومنازعاتنا الطائفية، وحاجات غيرنا لنارٍ يريد إيقادها أوفتنةٍ يريد إيقاظها. لذلك لم نعرف مقاربة وطنية واحدة تفترض إدراكاً مكانياً ينسجم مع الوعي بالوجود. نحن في الأصل لم نتعرّف على أنفسنا بما يجعلنا جماعة متماهية في العيش والتطلعات، ولم نتصرف ككتلة تُظهِر للملأ نظامَ عيشها والحدودَ التي تُقيمها في وجه الغير متى ما راودت الغير غريزة التعدي على بلدنا. اليوم بدأنا نشعر بالذعر ونتمنى لو تكونُ الحروبُ بمنأى عن بلدنا أو في أبعد نقطة ممكنة عنه، وأن لا يحلّ بنا ما يحل بغيرنا. وكأننا نستطيع العيش خارج مسوّغات الآخرين بالعدوان والتدّخل، أو أن نفصل حياتنا من حيواتهم، وأرضنا عن أرضهم، وساحات اختلافاتنا عن ساحات حروبهم.
لم يشأ البعض الاعتراف حتى اللحظة من أنّ اكتساب صفة العضوية في هذه المنطقة تتطلب بناء قوة عسكرية ضامنة للوجود والسيادة، وتأليف إرادة سياسية صلبة، واستيلاد شروط معاكسة لتلك التي برزت منذ سنوات وجعلت لبنان مهدداً بالفناء، أما الانكفاء إلى الخطوط الخلفية فإنّه لن يقينا الأخطار ولن يحمينا من تيارات الإرهاب مهما بالغنا في إسباغ مفردات التسامح والحوار. ولا شيء يعيقنا عن تلك الأهداف أكثر من الخلل الذي يصيب منظومة حياتنا السياسية التي تتطلب إحياء الدولة وتشييد جمهورية المواطنة.
صورة لبنان والمنطقة من حولنا معقدة بلا ريب، ولكنْ علينا أن نتعلم، وأن نقدم أجوبةً علميةً على تساؤلاتنا وهواجسنا، لا يبقى فيه حاضرنا كماضينا يتغذى من مفاهيم الحمايات الخارجية وقرارات الأمم المتحدة التي لا تجد من يطبقها ويلتزم بأحكامها، غير مدركين أنّ هناك من يعمل على استئناف عملية تاريخية تختل معها مقاييس وجودنا.
سنجد أنفسنا عراة وسط صقيع التحولات إنْ لم نجب على أسئلة تسمح برؤية مفتوحة وعقلانية بين ما هو واقعي وممكن، وبين ما هو مأمول ومتوقع، بدل التمسك الساذج بشعارات تنفع في الطقوس والمهرجانات، لكنّها لا تلائم سيرورة البقاء وشروطه. على هذا الوطن تنطبق مقولة الإمام علي عليه السلام «ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت»!
* كاتب وأستاذ جامعي