في 1989 اجتاح «الربيع الأوروبي» بلدان المنظومة الاشتراكية، مدفوعاً بضرورات تحقيق الانتقال من الدولة الشمولية إلى الدولة الديموقراطية، وانتهى بتفكك عدد كبير من الدول الشمولية. واعتباراً من ذلك التاريخ، تفرّد الوطن العربي بكونه يحتوي على «أكبر تركّز عالمي لأنظمة استبدادية في رقعة جيوسياسية واحدة»، وفق تعبير لجلبير الأشقر (««17 ديسمبر 2010»: بداية سيرورة ثورية طويلة الأمد»، «الأخبار» العدد ١٦٠٥، في 10 كانون الثاني 2012).وهكذا جاءت الثورات العربية، والشعب العربي في جميع الدول العربية يكاد يكون الوحيد بين شعوب الأرض الذي لم يظفر بعد بحريته السياسية، ولا يزال يعيش عبداً للسيّد الحاكم العربي، محبوساً في عصر القنانة.
هذا ما استدعى أن ترفع الثورات العربية شعاراً مشتركاً هو «الدولة المدنية» عكس الدولة الشمولية التي لا تستند إلى إرادة الشعب، بل إلى إرادة الحاكم.
ارتبط مفهوم الدولة المدنية بتطوّر الدول الأوروبية صناعياً، وما رافق ذلك من إعلاء لشأن الفرد ودوره، على عكس دولة القرون الوسطى التي كانت فيها إرادة الملك هي الإرادة الموجهة للدولة، مع التمجيد المتزايد لقوة الحاكم وسلطته، وحيث لا سلطة إنسانية فوق سلطة حاكم الدولة. فتبلورت في القرن السابع عشر إيديولوجيا النظام الملكي الدينية، وراحت تؤكد أنّ الملوك يستمدون سلطتهم مباشرة من الله، لا من الشعب، وأنّهم مسؤولون فقط أمام الله. وقدم الأسقف الشهير «بوسيه» تلك الإيديولوجيا في دعم سلطة لويس الرابع عشر (1643 ــ 1715). ففي شخص الملك تترسخ سلطة الدولة وإرادتها وحتى عقلها.
من ثم، وفي سياق التطور الرأسمالي لدول أوروبا، تأسّس وعي جديد للفرد وللدولة، وعي يؤكد محورية الفرد المواطن. وقد أتاح النظام التمثيلي للمواطنين أن يشعروا بأنّ لهم نصيباً ومسؤولية شخصية في الدولة، وبات الشعب (من الناحية القانونية وليس الفعلية) هو مصدر السلطات. وهكذا تأسست الدولة الحديثة، الدولة الديموقراطية العلمانية التي تستند إلى مبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنين، دون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو القومية.
لا شك في أنّ الثورات العربية تعبّر في جزء منها عن أشواق قطاعات واسعة من الشعب إلى دولة القانون، إلى الدولة المدنية، خصوصاً في بلدان تخضع تماماً لإرادة الحاكم الفرد، فتغيب حرية الأفراد وتنتهك حقوق الإنسان، وتمثّل الرقابة الأمنية هاجساً ورعباً للمواطنين، ويمنع تداول السلطة. فكانت الثورة للتعبير عن رفض احتكار السلطة، وإقامة دولة المؤسسات والقانون، لكن أيضاً وأساساً من أجل إنهاء احتكار الثروة، وإيقاف عمليات النهب المنظم التي تمارسها العائلات الحاكمة في البلدان العربية، ووضع حد للبؤس الاقتصادي والانهيار المعيشي اللذين تعاني منهما فئات واسعة باتت تمثّل أغلبية الشعب. ذلك ما أعطى الثورات زخمها. فعلى مرّ تاريخ الوطن العربي لم يندفع هذا العدد الهائل من الجماهير في مشهد مهيب وتاريخي إلى الساحات، ليرفعوا شعارات: الشغل والكرامة والحرية، ويستبسلوا في معاركهم لإسقاط النظم الحاكمة وتحقيق أهدافهم.
إنّ «التفكير في الحرية هو في الأساس تفكير في الدولة والمجتمع» على ما يذهب عبد الله العروي، وهكذا فإنّ تحقيق الحريات السياسية في بؤرة الديكتاتوريات في العالم، أي في الوطن العربي، كان ضرورة موضوعية تقتضيها الحالة البائسة لمختلف فئات الشعب. حالة تقتضي التحوّل إلى دولة مدنية مؤسساتية يحكمها القانون، وتتيح للفئات الشعبية المتضررة أن تتشكل وتتنظم على نحو مستقل عن جهاز الدولة والنظم الحاكمة، عبر النقابات والأحزاب، وذلك لتدافع عن مصالحها وتحقق ذاتها في دولتها المدنية الجديدة التي ثارت وناضلت وضحّت من أجلها.
وإذا كانت الدولة المدنية لـ«الربيع الأوروبي» مدفوعة أساساً بحاجات روحية وثقافية للإنسان (الحرية والديموقراطية)، فإنّ الدولة المدنية لربيعنا العربي، رغم أنّها مدفوعة بهذه الحاجات، لكن أساسها يبقى في حاجات الفئات الشعبية التي ثارت وضحّت بدمائها، وهي الفئات المفقرة. وعند هذه النقطة من التحليل درجت العادة لدى البعض على اتهامنا بأنّنا ننكر أهمية الفرد ككائن واع، وأنّنا لا نفهم الحاجات الروحية والثقافية للإنسان، فنختصر حاجاته بالجانب الاقتصادي والمعيشي. إنّ إصبع الاتهام لا يجب أن يوجّه إلينا، بل إلى النظام الاقتصادي ــ الاجتماعي في الدول العربية الذي يجعل الحاجة الاقتصادية سائدة وطاغية على غيرها من الحاجات بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من الناس.
إنّ سلوك الإنسان محكوم بدوافع متعددة، منها الاقتصادي وكذلك الثقافي والروحي، ويمكن أن نفرق بين الدوافع الثابتة كالحاجة إلى الغذاء والمأوى التي توجد في كل الظروف والتي لا تسهم الشروط الاجتماعية سوى في إعطائها شكلاً واتجاهاً جديدين، لكن تبقى تلك الدوافع تمثّل هاجساً يقضّ مضجع البشر ومحركاً لتصرفاتهم وسلوكهم في حال لم يجر إشباعها. والدوافع النسبية التي تعود بأصولها إلى نوع معين من التنظيم الاجتماعي تتطور وتزداد بتطوره وتقدمه، وهي الدوافع التي مثّلت أساس تحرك شعوب شرق أوروبا، عند درجة معينة من تطورها أو توقف تطوّرها.
الطبقات الشعبية العربية تعيش وضعية بائسة جداً، فهي لم تلبّ حاجاتها الاقتصادية البسيطة، ما يجعل هذه الحاجات هي الدافع الأهم في سلوكها وتصرفاتها، وهي تنظر إلى الدولة المدنية انطلاقاً من ذلك، وانطلاقاً من السعي إلى تحقيق وضعية وحياة أفضل، لذلك نراها الأكثر جرأة وصلابة، تتقدم الصفوف تاركة المثقفين والفئات الوسطى وكلّ من خانته جرأته وراءها، تناضل وتضحي ببسالة نادرة من أجل «دولتها المدنية».

* كاتب عربي