لم يجرؤ أي مسؤول أميركي، منذ غزو العراق وحتى الآن، على الكذب والافتراء وتشويه المعلومات لتضليل الجمهور، إذا ما استثنينا أكذوبة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة، كما تجرأ الحاكم المدني الأميركي السابق للعراق بول بريمر في مقالته المنشورة في صحيفة «وول ستريت جورنال» قبل أيام قليلة، التي أعادت يومية «العالم» البغدادية ترجمتها ونشرها.لقد تقمص بريمر شخصية وزير الدعاية السياسية النازي الذائع الصيت جوزيف غوبلز، صاحب المقولة الشهيرة «اكذب واكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس».
تشي أول جملة في مقالة بريمر بالكثير من التحريض وسوء النية. فالعراق، كما يرى بريمر، يعيش إلى الأبد في جغرافيا معادية وجيران فظين، ولذلك كان حكّام العراق يجرون حسابات دقيقة للتعايش مع هذه الجيرة الفظة. بريمر هنا، يحرِّض ويستعدي العراقيين ضد جيرانهم، من دون أنْ يحدد بالاسم مَن هم هؤلاء الجيران، بل وبصيغة قد يُفهم منها أنّه يقصد الجميع، ولكنّه يقصد طرفاً محدداً يمكن حتى للرضيع معرفته من خلال عبارات مبثوثة هنا وهناك، من قبيل «الإرهابيين الإيرانيين» وعبارة «وخاصة إيران». لسنا في معرض تبرئة إيران من تدخلاتها الكثيرة والعميقة في الشأن العراقي، أو التقليل من خطرها على مستقبل العراق؛ فنظامها السياسي الطائفي، بموجب المادة 12 من دستور دولة ولاية الفقيه، يتناقض مع الديموقراطية والعلمانية التي يتطلع إليها العراقيون بأمل وصدق كمنقذ من وحل المحاصصة الطائفية الذي غمرهم به الاحتلال. لكن ما مناسبة تحريض بريمر العراقيين على جيرانهم؟ هل هو لوجه الخير والاستقرار في العراق والمنطقة؟ لا، قطعاً، بل هو يريد أن تدوم الاستعانة العراقية بأميركا على هؤلاء الجيران الأفظاظ ليبسط «اليانكي الأميركي» سيطرته المباشرة على كل مفاصل الإقليم. أما المنطق والقراءة الصحيحة والعلمية للواقع الجغراسياسي فيقولان إنّ على أي نظام وطني ومستقل وديموقراطي «وليس طائفياً» في العراق، أن يحاول، في المدى المنظور على الأقل، احتواء الخطرين الإيراني والسعودي، ويستعد جيداً إذا ما تفاقم الخطر التركي في موضوع تصحير العراق وتجفيف نهريْ دجلة والفرات.
الاحتواء البناء المطلوب يمكن أن ينفذ عبر نَسْجِ علاقات متوازنة مع دول الإقليم كلها باستثناء دولة العدو الإسرائيلي، وتقوم على رفض التدخل في الشؤون الداخلية لكل دولة وإقامة مشاريع مشتركة. إنّ الهدف من سياسة الاحتواء البنّاء هو التفرغ لبناء العراق وتحويله من بلد مهدم ومستباح سياسياً وعسكرياً، يعيش شعبه على الغذاء المستورد بدولارات البترول إلى بلد ديموقراطي قوي، يستطيع الدفاع عن نفسه ومواطنيه واستقلاله ويخوض غمار نهضة حضارية حقيقية. وهذا ما لا تريده أميركا!
كذبة كبيرة أخرى يطلقها بريمر حين يعلن أنّ رئيسه بوش هو من «أنقذ العراق من مخطط مخزٍ لتنظيم القاعدة بقراره الشجاع لاعتماد استراتيجية الزخم وبإضافة قوات أخرى في وقت مبكر من 2007». يريد لنا بريمر أنْ نصدق أنّ بوش هو الذي أنقذ العراق من شرور تنظيم القاعدة، وأن ننسى أنّ بوش هو مَن جاء بسفاحي القاعدة وفتح لهم أبواب العراق عبر تبنيه للاستراتيجية العسكرية القائلة «سحب العدو إلى داخل الميدان العراقي وسحقه هناك عوضاً عن مقاتلته في شوارع نيويورك وواشنطن». غير أنّ ما حدث هو أنّ القاعدة وحلفاءها تمكنوا من سحق رؤوس المدنيين العراقيين ولم ينل الأذى والشرر إلا أعداداً قليلة من عساكر بوش، فالإحصاءات الغربية تقول إنّ عدد التفجيرات التي وقعت في العراق من 2005 وحتى 2010 بلغ 23 ألف تفجير، وهو عدد يفوق ما شهدته الكرة الأرضية كلّها من تفجيرات خلال نصف قرن. وكانت حصة الأهداف المدنية العراقية منها 18 ألف تفجير، خلفت ما يقرب من مليون قتيل وجريح مدني عراقي. أما حصة الأهداف العسكرية الأميركية والعراقية، فلا تتجاوز خمسة آلاف تفجير، تلك هي الثمار المرة لخطط الرئيس بوش وساعده الأيمن بول بريمر.
يحدد بريمر الأهداف الأمنية في العراق بثلاثة هي: «ضرب القاعدة والإرهابيين الإيرانيين» و«تدريب القوات العراقية» و«كبح التوترات على طول الخط الأخضر بين الشمال الكردي والجنوب العربي». بريمر يعدّ هذه الأهداف أميركية، وهو يتحسر لأنّ انسحاب القوات سيزيد من صعوبة تحقيقها. لكن هل تلك الأهداف حقيقية؟ لقد أخبرنا بريمر في موضع آخر من مقالته بأنّ خسائر المدنيين قد «انخفضت هذا العام إلى 5%، وبعد تحسن الأمن، ازدهر الاقتصاد العراقي». ويأتي بعدة أدلة على هذا الازدهار الاقتصادي، بعضها مضحك قليلاً، كقوله إنّ استعمال الهواتف (ربما كان يقصد الهواتف النقّالة؟) قد تضاعف خمس مرات، وإنّ كمية المياه الصالحة للشرب تضاعفت إلى ثلاثة أضعاف عما كانت عليه في عهد نظام الدكتاتور صدام حسين.
حسناً، إذا كان الوضع بهذه الصورة الزاهية، فلماذا يريد بريمر أن يُبْقي قوات الاحتلال في العراق؟ الهدف الثاني أكثر بؤساً من سابقه؛ فهو يريد البقاء في العراق للمساعدة في تدريب القوات العراقية! ولكن ماذا كان يفعل مئة وخمسون ألف عسكري أميركي في العراق طوال تسع سنوات تقريباً؟
أما الهدف الثالث، أي «كبح التوترات على الخط الأخضر بين الشمال الكردي والجنوب العربي» فهو صناعة أميركية من حيث نشأته، أو من حيث الهدف من إبقاء نيرانه مشتعلة أو قابلة للاشتعال. ومع ذلك، لا يمكن نكران وجود خلافات ومآسٍ إثنية وطائفية كثيرة تلقي بظلالها على الحاضر العراقي، وخصوصاً بسبب ما عاناه الأكراد العراقيون في عهد النظام الشمولي السابق. أما في عهد الاحتلال، فقد اخترع المحتلون مشاكل جديدة، وحلولاً تؤدي إلى مشاكل جديدة من قبيل «المناطق المتنازع عليها»، و«المادة 140»، و«الفيتو الرئاسي»، و«فيتو المحافظات الثلاث» ومواد دستورية خطيرة أخرى. ويبدو أنّ الوقت قد حان ليستثمر بريمر هذه القنابل والألغام التي تركها خلفه.
وبعد هذا اللف والدوران، يفاجئنا بريمر بأنّ الداعي الحقيقي إلى بقاء قوات أميركية في العراق هو سياسي بحت، بمعنى أنّه قفز على أهدافه الثلاثة السابقة بحركة واحدة، وعدّها كأنّها لم تكن. وليبرهن على أهمية وفوائد هذا البقاء ويؤكد صحة «الداعي السياسي» له، يستشهد بما يسميه «الحريق السياسي الذي شب في غضون 42 ساعة من رحيلنا». فقد «أصدر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الشيعي، أمراً قضائياً بإلقاء القبض على نائب رئيس البلد، السني، الذي فرَّ إثر ذلك إلى المنطقة الكردية في الشمال». يلاحظ أنّ بريمر يتبنى وجهة نظر أكثر تطرفاً من قائمة علاوي؛ فهو يضع القضاء العراقي برمته في جيب المالكي، الأمر الذي لم يزعمه علاوي ولا حتى الهاشمي. بل إننا استمعنا إلى نقد وجهه النائب حامد المطلك وهو من «العراقية» إلى الهاشمي حين شكك، مجرد تشكيك، بنزاهة القضاء العراقي. يحاول بريمر أن يقنعنا بالآتي: لكي يعيش العراقيون بسلام، يشترط عليهم ألا تحدث عندهم حرائق سياسية كحريق الهاشمي، وعليهم، وهذا هو الأهم، الموافقة على بقاء جيوش أميركا على أرضهم وبحصانة يصدّق عليها برلمانهم وهم صاغرون!
خبر كبير يطلقه بريمر في هذا السياق، ومفاده أنّ مسألة بقاء قوات أميركية التي قدرها بعشرين ألفاً حظيت بـ«عدم معارضة المرجع السيستاني» بفضل الدبلوماسية الهادئة التي استخدمتها أميركا. هذا الخبر يأتي مخالفاً لما صدر من تصريحات نسبت إلى المرجع السيستاني والناطقين باسمه. ومع ذلك، على المرجعية أن تبادر سريعاً إلى توضيح موقفها من هذا الخبر الخطير الذي أورده بريمر بمنتهى الثقة؛ إذْ ليس من مصلحتها السكوت عليه، وإلا فسيكون أشد ضرراً على صورتها من واقعة عدم الإفتاء لمصلحة الجهاد ضد الاحتلال في 2003 وما بعدها!
وفي السياق، يعرب بريمر عن شكوكه في أنّ هناك أطرافاً في الحكومة الأميركية كانت تتعمد عدم التوصل إلى اتفاق مع العراقيين بشأن مسألة حصانة القوات الأميركية الباقية، والتي كان الجانب الأميركي يشترط أن يصدّق البرلمان العراقي عليها. وهذه الفكرة الساذجة، إن صحَّت، وكان لها من فائدة أو مبرر، فهو لن يكون إلا تشديداً على أنّ هزيمة أميركا في العراق كانت من القسوة لدرجة أنّ أطرافاً حكومية أميركية كانت تريد عرقلة بقاء القوات بأي شكل كان، وإنهاء الوجود الاحتلالي، وتلك هي «الجائزة الكبرى» التي يتحمل بريمر شخصياً حصة كبيرة وربما الأكبر عن مسؤولية حدوثها.
وأخيراً، إنّ المناحة التي يقيمها بريمر في ختام مقالته والتي يقول فيها والدموع تكاد تفرُّ من عينيه «لقد ارتكب الرئيس أوباما خطأً جسيماً بسحبه كامل القوات الأميركية. لكن، لديه فرصة البدء بمعالجة النتائج، إلا أنّ لا وقت طويل أمامه ليضيعه»، هذه المناحة لن تثير شفقة الكثيرين، وخصوصاً في العراق، أللهم إلا أولئك الشواذ سياسياً واللصوص المحترفين والذين فقدوا الحامي والسند برحيل قوات الاحتلال ومعها أشباح بريمر وغوبلز!
*كاتب عراقي