الموضوع السوري يطغى على السياسة في لبنان، وسيطغى عليها أكثر في المستقبل. من يدرك، أو من لا يعي، أنّ هذه الحماسة والمشاركة القويّة من تيّار الحريري وأذياله في لبنان في الحملة على النظام في سوريا ستكلّفان لبنان مستقبلاً أثماناً باهظة: إذ إنّ أي حكومة سوريّة مقبلة ستفرض تنازلات أمنيّة وسياديّة على لبنان (كما كان يفعل النظام السوري) وسيكون الضلوع الحريري في الموضوع السوري حجّة قويّة لهم (وخصوصاً أنّ الضلوع الحريري في الموضوع السوري لا علاقة له بالشعارات المرفوعة). لن يستطيع لبنان مُستقبلاً الزعم بأنّه ليس مركزاً «للتآمر على سوريا»، وخصوصاً أنّ جيش المعارضة السوريّة (الإخوانجيّة «المدنيّة») بات له وجود في لبنان، لكن في المحصّلة، الشعب السوري ليس أكثر من وقود في صراعات الحركات الطائفيّة في لبنان: الشعب السوري أداة عند 8 آذار و14 آذار على السواء، لكن تيّار الحريري يستطيع دوماً الدفاع عن موقفه بالقول (عن حق) إنّه ليس سيّد أمره، وإنّه يتلقّى الأوامر من الأمير مقرن أو من مساعد مساعديه. يستطيع أن يقول إنّه يتورّط بأوامر خارجيّة. هذا هو فريق السيادة على الطريقة اللبنانيّة.وفي المقلب الآخر، ينشط فريق 8 آذار ومؤيّدوه في الدفاع المُستميت عن النظام السوري. بعض هؤلاء الذين يظهرون على شاشة «الدنيا» أو على شاشة النظام السوري يعتبون على النظام بسبب ما يرونه من رأفة فائقة. لماذا يظهر المؤيّدون اللبنانيّون للنظام السوري أنّهم أكثر مناصرة للنظام السوري من أقطاب النظام السوري أنفسهم؟ بعض هؤلاء، يريد من النظام أن يمعن في مزيد من القمع، وخصوصاً أنّ كل مُعارض للنظام عند بعض هؤلاء هو خائن وأداة في «المؤامرة على سوريا». طبعاً، بعض مزاعم 14 آذار والإعلام السعودي (الذي يستسهل الكذب كما تستسهل «الجزيرة» التكيّف مع متغيّرات السياسة الخارجيّة للدولة القطريّة) عن دور لحزب الله في سوريا يدخل من باب الدعاية الغبيّة، التي تنبع غالباً من مصادر إسرائيليّة لا لبس فيها. التناغم بين دعاية الموساد ومرامي الدعاية السعوديّة لا لبس أو تمويه فيه. تتشارك الجهتان في نقل وجهات نظرهما: «الشرق الأوسط» و«المستقبل» تدرجان على استنباط وجهات نظر صهيونيّة ليكوديّة بصورة اعتياديّة ضد الأعداء المشتركين. ثم، لماذا تحتاج قوّات النظام السوري المُتمرّسة فقط في القمع إلى قوّات من حزب الله المُتمرّسة فقط في قتال العدوّ الإسرائيلي؟ وهل يستطيع حزب الله أن يفيد النظام السوري في ما هو خبير فيه، أي مقاومة العدوّ الإسرائيلي بشراسة؟ إنّ مصدر تلك الدعاية هو نفسه مصدر دعاية الموساد في حرب تمّوز، ونقلتها بفرح جريدة آل الحريري عن العثور (الكاذب) في جنوب لبنان على جثث ثلاثة جنود إيرانيّين.
لكن الفريق المُوالي للنظام السوري في لبنان طلّق الانتفاضات العربيّة بالثلاث لمجرّد أن انتقلت الانتفاضة إلى سوريا. رفيق نصر الله وغيره من الذين هيّصوا للانتفاضتيْن في تونس ومصر عادُوا وعادَوا الانتفاضات العربيّة برمّتها، ونصر الله يقول اليوم إنه يفضّل كل الأنظمة القائمة بما فيها نظام مبارك الإسرائيلي على الانتفاضات الجارية. بات الكثيرون منهم يروّجون لنظريّة مسؤوليّة أميركا عن الانتفاضات العربيّة ولمصلحة إسرائيل (وهل رتّبت أميركا أيضاً التفجير العاشر لأنابيب الغاز المصري إلى إسرائيل، وهل رتّبت هي أيضاً اقتحام سفارة العدوّ في القاهرة، وهل رتّبت مشاهد الذعر والهلع التي طغت على وجوه الصهاينة بعد سقوط مبارك؟). يخفى على هؤلاء الممانعين أن هذه النظريّة تفيد مصالح أميركا وإسرائيل، من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون.
لنتفق على أن الولايات المتحدة فوجئت بالكامل باندلاع الانتفاضات العربيّة كما فوجئ غيرها. لنتفق على أن الولايات المتحدة لا تريد أن تظهر أمام الشعب العربي على حقيقتها: مُفاجَأة ومذعورة من انتشار الانتفاضات العربيّة. هي، مثل إسرائيل، تعمد عبر السنوات إلى إيهام الشعب العربي بأن قدراتها في معرفة ما يجري في العالم العربي وفي تقرير مصائر الشعب العربي أكبر من أن تصطدم بحاجز الإرادة الشعبيّة العربيّة. من مصلحة إسرائيل وأميركا إقناع، لا إيهام الشعب العربي، بأنّهما تعلمان بتفاصيل كل ما يجري في أنحاء العالم العربي، وبأن ما يجري هو من تدبيرهما معاً: لأن مصلحتهما القضاء على عامل التفاؤل والإرادة في أوساط الشباب العربي، كي تعمّ الاستكانات لا الانتفاضات. إسرائيل نجحت أيّما نجاح عبر العقود في المبالغة بإظهار أو تزييف معرفتها، وفي أعمالها في شؤون العالم العربي. بات الفرد العربي يعلم فقط عن نجاحات (حقيقيّة في القليل من الأحيان، ومُختلقة ومُبالغ فيها في معظم الأحيان) للموساد. هناك من صدّق كذبة الموساد، التي انتشرت في الصحافة العربيّة في الستينات، وما بعد عن نجاحات للجاسوس الإسرائيلي، إيلي كوهين. سيتعرّف الشعب العربي عن كثب بعد نشر الوثائق التاريخيّة على إخفاقات وفشل الاستخبارات الإسرائيليّة. ماذا تقول عن جهاز الموساد الذي لم يكن له أي علم بحقيقة خلفيّات عمليّة ميونيخ، إلا بعدما كتب عنها قادة فلسطينيّون.
لا تريد أو لا تستطيع أميركا أن تظهر أمام الرأي العام العربي مظهر من أُخذ على حين غرّة، مظهر من لا يُسيطر على الأحداث وتفاصيلها. إسرائيل والولايات المتحدثة عملتا كي يظنّ الشعب العربي أنّه لا حادثة ولا حتى اشتباك في الأحياء يحصل في العالم العربي من دون علمهما وإذنهما. وكم نجحت الدولتان في تلك الخدعة. هناك في لبنان ليس فقط ريمون إده وسليمان فرنجيّة (الجدّ) من لا يزال يصدّق أنّ هنري كيسنجر هو الذي خطّط لكل مسار الحرب الأهليّة، وأنّه حتى في سنوات الكهولة لا يزال يُشرف على ما يجري في حي التعمير أو في باب التبّانة. وصل الشعب العربي إلى مرحلة من اليأس ومن الاعتراف بالعجز إلى درجة سمحت لأنظمة الاستبداد بالتنعّم بديمومة استبدادها. هذا العامل سمح للأنظمة الجمهوريّة بإنشاء سلالات، على طريقة كوريا الشماليّة. الأنظمة العربيّة تعلّمت من أسلوب المُستعمر: إذ إنّها استعملت أسلوب الحرب النفسيّة عينها في التعامل مع شعوبها، كأن يظهر محمد ضرّار جمّو، من أكثر أبواق الأنظمة ابتذالاً وإرهاباً في التعبير، على شاشتيْ النظام السوري ويخاطب المحتجّين والمعارضين بالقول إنّ النظام يعلم أين ينامون وأين يأكلون ومن يزورون. إن صور الطغاة وتماثيلهم في كل العالم العربي تهدف إلى وضع عيون رمزيّة للنظام في كل ناحية وحي وساحة. كيف ننام ملء جفوننا بعد ذلك؟
هذا ما يعني أن مؤيدي النظام السوري وقعوا أسرى لحبائل الحرب النفسيّة لإسرائيل والولايات المتحدة، لكن يمكن ألا يكونوا قد وقعوا أسرى لتلك الحبائل، وأنّهم يزعمون اعتناق نظريّة سيطرة الولايات المتحدة على مقدّرات أمور الانتفاضات العربيّة عن قصد وتصميم، لأنّها تتوافق مع مصلحة النظام السوري في تصوير خصومه كلّهم بأنّهم أدوات لمؤامرة أميركيّة إسرائيليّة ضد النظام السوري (يساوي النظام مثله مثل باقي الأنظمة العربيّة بينه وبين البلد الذي يحكمه، لعلّ في ذلك ما يخيف الناس من التغيير). وهنا، يتحول الأمر الى توافق بين دعاية مؤيدي النظام السوري ووسائل الإعلام القريبة منه، مع مصلحة أميركا وإسرائيل في تصوير ما يجري في العالم العربي على أنّه لم يكان مفاجئاً لهما.
الحقيقة التي لا لبس فيها أنّ إسرائيل وأميركا فوجئتا بالانتفاضات العربيّة. من يذكر كلمات جيفري فيلتمان أرفع «خبير» أميركي في شؤون الشرق الأوسط، مع أنّه أقلّ واحد ممن تولّوا هذا المنصب كفاءة، بعد انتفاضة تونس؟ ألم يقل إنّ مصر هي غير تونس، مُحاولاً أن يهدّئ من روع الصهاينة في الكونغرس الذي وضعوه في منصبه؟ ألم يهرع فيلتمان إلى تونس ثم إلى مصر في محاولة منه لترتيب الأوضاع من أجل إحداث أقلّ قدر ممكن من التغيير؟ ألم تعمل واشنطن على مدار الساعة على امتداد أسابيع وأشهر لتهدئة روع إسرائيل بعد اندلاع الانتفاضات؟ ثم، من يظنّ أنّ أميركا أو إسرائيل كانت وراء سقوط حسني مبارك؟ حسني مبارك كان أهم عنصر من عناصر النظام الإسرائيلي الإقليمي المفروض. ليست الدول العربيّة إلا أدوات مُنفّذة في هذه المنظومة الإقليميّة. (هل هناك من يصدّق أن أنظمة الخليج التي ورثت عن حسني مبارك مهمّة ترتيب البيت الإقليمي العربي بما يتلاءم مع مصلحة إسرائيل تعبّر عن شعوبها في تعبيرها عن الخوف المتعاظم من سلاح نووي إيراني موجود، وفي التعبير عن الراحة الكليّة من أسلحة الدمار الشامل الإسرائيليّة؟).
وبعض الصحافة الصهيونيّة يحاول إخفاء الذعر والهلع الصهيوني، الذي لحق بقادة إسرائيل ومؤيّديها بعد سقوط نظام مبارك. تخشى الصهيونيّة إدراك الشعب العربي مكامن قوّته الخلاّقة متى تفلّتت وانطلقت. انطلقت في عدد من المطبوعات نظريّات عن اقتباس أو استلهام الشعب العربي انتفاضاته من نظريّات غربيّة، وتكثّفت التقارير والمقالات عن دور لأكاديمي أميركي مُتقاعد لم يسمع به أحد في العالم العربي (اسمه جين شارب، وحظي بتغطية وافرة في الصحافة الغربيّة، كما أنّ واحداً من أتباعه تولّى إخراج فيلم مُضحك عن دور جين شارب العالمي، وقامت «الجزيرة» بشراء نسخة من الفيلم، وبثّته تباعاً مُترجماً. أرسل إلي المخرج نسخة منه وكتبتُ فيه نقداً على موقع «الأخبار» الإنكليزي). هل هناك من يصدّق أن نظريّات رجل أبيض هي التي ألهبت مشاعر الشعب العربي؟ من يصدّق روايات كهذه غير الصهاينة في واشنطن ومنظّرو الممانعة القلقون؟
طبعاً، لا تريد الحكومة الأميركيّة أن تعترف بالحقيقة علناً: بأن جين شارب لا علاقة له «بنوب»، كما يُقال في سوريا، بالانتفاضات العربيّة. فهو من الداعين إلى التغيير السلمي، لكن نظريّة الانتفاضات السلميّة كانت إسقاطاً من أميركا بهدف تقييد حركة الشباب العربي (كما فعلت بالنسبة إلى فلسطين، عندما شرعنت العنف الصهيوني، وجعلت من مقاومة الشعب الفلسطيني إرهاباً خطيراً). تريد الولايات المتحدة إقناع الشعب العربي بحرمة استعمال العنف إلا لغايات تخدم مصلحة إسرائيل ومصلحة المُستعمر الأميركي (لا تمانع أميركا في تسليح ميليشيات من الأوغاد ومن مجرمي الحرب من أفغانستان إلى العراق). لم يظهر أبداً أنّ الشعب العربي اعتنق عقيدة اللاعنف لأنّه يعي أنّها لا تُطبّق ولا تُطلب إلا من المقهورين والمعذّبين ومقاومي الاحتلال. تعظ الولايات المتحدة الشعب العربي عن جدوى اللاعنف، فيما هي تمارس العنف على نطاق عالمي وواسع. ليس صحيحاً طبعاً أنّ الشعب العربي التزم بمبدأ اللاعنف، كما أنّه ليس صحيحاً قطعاً أنّ الرجل الأبيض كائناً من كان هو الذي ألهم الشعب العربي. والغريب أنّ انتفاضات «حركات الاحتلال» المناهضة للرأسماليّة في أميركا تعترف عن حق بأنها هي استلهمت تحرّكها من الشعب المصري.
لكن كيف للإعلام الموالي للنظام السوري أن يغرّد النغمات الصهيونيّة نفسها؟ كيف ينظر إلى كلّ الانتفاضات العربيّة كأنّها مؤامرة صهيونيّة، هل فقط لأنّ الغضب الشعبي وصل إلى سوريا؟ وكأنّ الشعب السوري (بصرف النظر عن حركات معارضته) يفتقر إلى دوافع الاحتجاج ضد النظام الذي يرزح تحته، مثله مثل باقي الشعوب العربيّة. يريد أدعياء النظام السوري أن ينام الشعب السوري على الضيم، وأن يكتفي بطعام من شعارات الممانعة ووعود لا تزال ضبابيّة بالإصلاح؟
لكن المجلس الوطني السوري ومطالباته المتزايدة بتدخّل الناتو (على أن يلتزم جنوده عدم التبويل على الشعب السوري) أو من لفّ لفّه، تساعد دعاية النظام على ربط (جائر) بين كل فرد في معارضة النظام، ومؤامرة صهيونيّة أميركيّة.
إنّ الولايات المتحدة تحاول أن تلتقط أنفاسها وهي تجرّب اللحاق بمجريات الانتفاضات العربيّة. هي تلهث وأقطابها مصابون بالإعياء. هي بالتأكيد لم تكن مرحّبة بأي من الانتفاضات إلا في سوريا وفي إيران (لو تجدّدت)، لكن الرأي الصهيوني الأميركي بشأن الوضع في سوريا لم يُحسم بعد: هناك رأي يقول إنّ النظام السوري الحالي حازم في ضبطه للحدود مع العدوّ، وفي منعه قيام مقاومة جديّة في الجولان المحتلّ، وهذا تأكيد على أنّه لا إسرائيل ولا الغرب تكترث لمعاناة الشعب السوري. وجهة النظر تلك ترغب في أن تؤدّي الانتفاضة السوريّة إلى إضعاف وإنهاك بشّار الأسد، لا إلى إسقاطه. لهذا، فإن المجلس الوطني السوري جعل من إسقاط بشّار لا من تغيير النظام بالكامل هو الهدف: لا بل هو تعهّد أن يعمل معاً مع الجيش السوري في بناء نظام جديد، أي إنّ المجلس السوري يعوّل على الجيش السوري الذي قمع وقتل متظاهرين في سوريا من أجل بناء وطن ديموقراطي جديد، لكن المجلس الوطني في هذا وفي غيره من الأمور، لا يعكس إلا الأجندة الخارجيّة، التي تتحكّم في مسار تنظيم الإخوان المسلمين، لكن هناك وجهة نظر صهيونيّة أخرى، تقبل تغيير النظام في سوريا، في مقابل تعهّد من الحكم الجديد بتجاهل ملف الصراع معها، وهذا بالضبط ما حصلت عليه إسرائيل من مواقف المجلس الوطني السوري، وخصوصاً من تصريحات قادة الإخوان المسلمين. إنّ المجلس الوطني السوري بات نسخة مبتذلة عن تجربة المؤتمر الوطني العراقي، الذي ارتمى في أحضان الصهاينة لتنفيذ غاياته، وأغدق الوعود للغرب عن اتفاقيّة سلم مع إسرائيل حالما يسقط صدّام. (وها هو أحمد الجلبي مجرّد بيدق بيد مقتدى الصدر وإيران).
هذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة ليست ناشطة اليوم في كل الدول العربيّة دون استثناء: إمّا للدفاع عن النظام بقوّة وشراسة، كما هي الحال في دول الخليج والمغرب والأردن والجزائر، أو لمحاولة التكيّف مع واقع جديد في عدد من الدول العربيّة. ولا يمكن استبعاد استعانة أميركا وإسرائيل بالوسائل السريّة وبوسائل الخداع للتأثير على الشعب العربي، لكنّ أميركا فقدت زمام المبادرة والسيطرة في أهم دولة عربيّة بمقياس إسرائيل وأميركا. إنّ التفجير العاشر لأنابيب الغاز إلى دولة العدوّ الإسرائيلي يشي بحالة من فقدان السيطرة من قبل الاستخبارات المصريّة، التي عملت أميركا وإسرائيل على تشييدها من الصفر بعد القضاء على نظام عبد الناصر. لم تعد أميركا تأمر لتطاع، حتى وإن أراد المشير أن يستمرّ في طاعتها. ليس له من القدرة على الطاعة بعد اليوم. تتفكّك بعض أجهزة النظام، وخصوصاً الاستخبارية، بعد سقوط الطاغية. هذا لا يعني أن نظام مبارك سقط بالكامل، على العكس، تسعى أميركا ودول مجلس التعاون إلى المحافظة على نظام مبارك دون مبارك، لكن ليس هذا بالأمر اليسير.
إنّ الغرور والصلف يضربان رؤوس كل الطغاة العرب. يظن الواحد منهم أنّه في منأى عن الاحتجاجات والانتفاضات. ستذهب مقابلة بشّار الأسد مع «وول ستريت جورنال» مضرب الأمثال: استفاض في الحديث عن اختلاف نظامه عن الأنظمة المتهاوية حوله، فقط لأنّه ظنّ أن شعبه يستطيب شعارات الممانعة، وأنّ شعارات الممانعة تغني عن جوع وعن قهر وعن ظلم. كان ذلك يوم ناصر النظام ومؤيّدوه الانتفاضاتيْن في تونس وفي مصر. كل ذلك تغيّر بمجرّد أن اندلعت الانتفاضة في سوريا.
الانتفاضات التي كانت محمودة صارت، فجأة، في الخطاب الموالي للنظام السوري، خبيثة. عفويّة الشعب العربي التي كانت تحظى بالإعجاب زالت، وحلّ محلّها خطاب يحتقر العامّة ويصفها بالغوغاء. كانت الانتفاضات العربيّة حركة مُضرّة بالمصالح الأميركيّة والصهيونيّة، وتحوّّت بين ليلة وأخرى إلى مجرّد أداة في يد الصهيونيّة العالميّة. هناك نبرة عنصريّة أكيدة في خطاب التأييد للنظام السوري. هناك تحميل للشعب السوري لمسؤوليّة خيارات والإخوان و14 آذار السوريّة. الحزب الذي تغنّى بالجماهير بات لا يرى في الجماهير إلا أدوات بيد أميركا. هل كان الأولاد في درعا جزءاً من المخطّط الصهيوني هم أيضاً؟
حركة الانتفاضات العربيّة اندلعت لأسباب محض داخليّة، وإن تداخلت فيها تدخّلات خارجيّة حرفت مسارها أو اختطفتها في أكثر من حالة عربيّة، ولا سيما في ليبيا أو في سوريا، لكن حراك الاحتجاجات مستمرّ، ولا يمكن تحويل جمهور المحتجّين في سوريا إلى مجرّد جيش مطيع للإخوان المسلمين. إنّ تداخل العوامل الداخليّة أو تشابكها مع العوامل الخارجيّة يعود إلى حسابات وتحالفات من قوى في المعارضة، أو حتى من تنازلات تُفرض على حكومات فاقدة للشرعيّة، وتقبلها تلك الحكومات مثل سوريا من أجل الحفاظ على السلطة بأي ثمن. إنّ التدخّلات الخارجيّة لا تعني بالضرورة أنّ كل متظاهر يرفع مطالبة بالتدخّل الخارجي هو جزء من مخطّط أميركي، على بشاعة هذا المطلب، وخصوصاً أنّ بشاعة المثال الليبي الماثل كان يجب أن يبدّد تلك الأوهام حول قدرة الناتو على تحرير العرب وبناء ديموقراطيّة لهم، حبّاً بالعنصر العربي، كما أنّ حسابات وارتباطات الإخوان تفرض أجندة وشعارات تتعارض مع عفويّة الاحتجاجات التي وسمت الحقبة الأولى من الاحتجاجات الشعبيّة.
تهين الشعب العربي مقولة سيطرة أميركا على مقدّرات العالم العربي. من المهين تعميم نظريّات مستقاة من الاستشراق الغربي المبتذل عن عدم قدرة العرب على تحقيق الديموقراطيّة. إنّ مؤيّدي النظام السوري يستميتون في الدفاع عن النظام السوري دون اعتبار للعنصريّة التي تتضمّنها المقولات التي يسوقونها. إنّ معاداة الانتفاضات العربيّة في المطلق، بصرف النظر عن الحالة المُعيّنة، وعن الظرف المكاني، تلتقي مع نظريّات تشكّك في قدرة العرب على حكم أنفسهم، وعلى تغيير مستقبلهم.
لن تتوقّف الانتفاضات، وإن مرّت بحقب ومراحل متنوّعة. ستصعد وستخفت وتتفجّر. المسألة ليست في أسابيع أو أشهر. المراحل الثوريّة لا تُقرأ بروزنامة من يرصد الخلافة في نظام ملكي. ستأخذ سنوات. أميركا وإسرائيل ستقفان بالمرصاد: هما بمثابة الثورة المضادة «البيضاء» الرجعيّة التي واجهت البلاشفة لسنوات لا لأشهر في روسيا بعد اندلاع الثورة. قلبهم يخفق جزعاً، وقلبنا يخفق شوقاً وأملاً.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)