الحفاظ على الوحدة الوطنية هو مسؤولية شبه حصرية بالسلطات الرسمية القائمة في هذا البلد أو ذاك. تستطيع عناصر عدّة أو عوامل أخرى أن تكون مؤثرة في هذا الشأن. لكنّ تأثيرها، إلا في الحالات الاستثنائية، ليس هو الحاسم. ينطبق هذا الكلام الآن، على الوضع السوري، كما على الأوضاع في كلّ البلدان التي تعاني من الأزمات المتفاقمة والانقسامات والتصدّعات المتعاظمة.أما مناسبة هذا الكلام فانسداد أفق التسويات والحلول، وفق ما يظهره المشهد الداخلي السوري، كذلك وفق ما تظهره نتائج الصراعات والاتصالات والمبادرات الإقليمية والدولية. فاليوم يكون قد مضى شهر كامل على بدء مهمة المراقبين العرب في نطاق المبادرة العربية التي وُقّعت في أواسط الشهر الماضي، بين الحكومة السورية والجامعة العربية. ويمكن القول، بعيداً من الرغبات والمجاملات، إنّ هذه المهمة قد فشلت. أما ما يمكن أن يتبقى منها بعد تقرير رئيس فريق المراقبين ونقاشات اجتماع المجلس الوزاري العربي يوم الأحد القادم، فلن يعدو كونه، أيضاً، لعباً في «الوقت الضائع».
ولا بدّ هنا، أيضاً، من تكرار الكلام، بأنّ مؤسسة جامعة الدول العربية لا تملك، بعد الثورات العربية كما قبلها، المقوّمات الضرورية للتعامل مع أزمة بحجم الأزمة السورية. ينطبق ذلك على الشق السياسي كما على الشق العسكري. ويبلغ هذا الأمر درجة الاستحالة المطلقة حين تصل الصراعات والتناقضات إلى هذا المستوى العالي الذي نراه اليوم في تفاقم وتفاعل وتداخل العوامل والقوى والصراعات الإقليمية والدولية في الحدث السوري والعربي عموماً.
ولعلّ في تجارب السلطة السورية نفسها وقبل سواها، ما يؤكد هذه الحقيقة، رغم بعض المظاهر الخادعة. فالنزر اليسير من الاتفاقيات، التي جرت بإشراف الجامعة العربية والقمم العربية، قد كانت، في الواقع، اتفاقيات دولية وإقليمية بإخراج عربي، أي أنّ الدور الرسمي العربي قد كان شكلياً وليس أكثر. ولو عدنا إلى «اتفاق الطائف» لعام 1989، فإنّ هذا الاتفاق قد جاء ثمرة لتفاهم دولي وإقليمي، وقد تعزّز طابعه ذاك، بعد حرب «عاصفة الصحراء» التي قادتها واشنطن لإخراج القوات العراقية الغازية من الكويت، والتي شاركت فيها الحكومة السورية، رمزياً، من قبيل تكريس التفاهم القائم وتعزيز عناصر بقائه وديمومته.
المشهد الدولي اليوم ليس مشهداً توافقياً على الإطلاق، وحتى إشعار يقصر أو يطول. ويكفي أن نقرأ خبر جريدة «غارديان» البريطانية، قبل عدّة أيام، حول مشاركة طيارين إسرائيليين في العمليات الجوية لحلف «الناتو» في ليبيا، حتى ندرك حجم الإغراء الذي يوفّره استمرار الأزمة السورية، لواشنطن وحلفائها، بمن فيهم إسرائيل التي ربما استطاعت أن تكون المستفيدة الأولى من هذه
الأزمة.
ولا ينبغي طبعاً أن يفوتنا، بسبب أخطاء القيادة السورية على الصعد كافة، أنّ الجهة التي تدفع بتصعيد الأزمة الآن، إنّما هي الولايات المتحدة وحلفاؤها. صحيح أنّ الموقف الروسي والإيراني هو موقف صلب في دعم النظام السوري، إلا أنّ طابع هذا الموقف دفاعي محض بالمقارنة مع الموقف الهجومي الأميركي. ويصبح هنا من قبيل تعزية الذات أحياناً، ومن قبيل تصوير الأمور على غير حقيقتها أحياناً أخرى، القول، بأنّ موازين القوى باتت تسمح للقيادة السورية بالانتقال من الدفاع إلى الهجوم، وأنّ الوضع في سوريا بات تحت السيطرة، أو هو يوشك أن يصبح كذلك في يوم أو في شهر أو حتى في
سنة...
إنّ كلمة الحق التي تقولها الشعوب هنا وهناك، بحثاً عن حرية مفقودة، وكرامة مهدورة، وثروة منهوبة ورفضاً للظلم والفساد والاحتكار والاستئثار ــ إنّ هذه الكلمة والردّ الخاطئ عليها ــ توفّر لواشنطن وأتباعها فرصة ثمينة من أجل تحقيق أهداف سعت إلى معظمها عبر مشاريع الغزو والقوة والتهديد والعدوان...
إنّ واشنطن التي تمسك الآن بمعظم القرار الدولي والعربي، رغم أهمية الاعتراض الروسي والصيني والإيراني، سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً ومالياً، لا تبحث الآن عن حلول للأزمة السورية. والمقصود بذلك هو ذلك النوع من الحلول الذي يوفّر للنظام السوري الحدّ الأدنى من الاستمرارية ولعلاقاته ولتحالفاته ومواقفه الثبات، على غرار ما أعلن الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير.
ولذلك فإنّ ما هو قائم من السياسات والعلاقات والتحرّكات بكل أشكالها وميادينها، إنما يدفع باتجاه استمرار الأزمة، لا باتجاه التسويات والمخارج والحلول. فما الذي يجب فعله، إذاً، حيال هذا الاستعصاء، وما الذي يجب اتخاذه من تدابير وإجراءات، وما الذي يجب الإقدام عليه من خطوات ومواقف وتوجهات؟
تتجه الأنظار، هنا، بديهياً ومجدّداً، إلى الوضع الداخلي السوري. فذلك الوضع قد كان نقطة البداية في الأزمة، وقد يكون، إذا لم يفت الأوان بعد، نقطة البداية في الحل. سيثير هذا الكلام امتعاض بعض الذين أدمنوا على المبالغة في إبراز الدور الخارجي في الأزمة السورية، حتى أسقطوا كليّاً الأسباب الداخلية للأزمة. الدور الخارجي، هو في الواقع، في حالة نمو وازدياد يوماً بعد يوم. لكنّ ذلك، لم يصبح ممكناً فقط بسبب النوايا المبيّتة والرغبات والمصالح. إنّه بات كذلك، أيضاً، بسبب موقف السلطات السورية من الحوار الداخلي، أي من ضرورة إحداث ما هو ضروري وعاجل وسريع من الإصلاحات والتغييرات، باتجاه المشاركة وإطلاق حرية العمل السياسي والجنوح نحو الديموقراطية والتعددية، بشكل تدريجي لكن، بشكل حقيقي وذي مغزى
وصدقية.
لقد درج النظام السوري، حتى الآن، على تغطية الأسباب الداخلية للأزمة وهي حقيقية ومؤثرة، بالأسباب والتداخلات الخارجية، وهي كبيرة ومتصاعدة. وهو في ذلك السياق، قد تعامل مع الحوار الداخلي بوصفه امتداداً لإملاءات الخارج ومؤامراته. كذلك هو اختار في موضوع الإصلاح ما لا ترجمة له ولا نتائج من شأنهما إحداث انعطافة في مسار الأحداث خصوصاً، وفي إيجاد تسوية للأزمة المتفاقمة عموماً.
ولا يخرج عن هذا السياق، على الأرجح ــ ونرجو أن يكون تقديرنا غير صائب ــ ما أعلنه الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير من قرارات هي قيد التحضير والتنفيذ في مهل قريبة. والمقصود بذلك الحكومة الجديدة والانتخابات القريبة. فحكومة جديدة ذات وظيفة في التأثير على مسار الأزمة لجهة الانفراج، لن تأتي إلا من خلال حوار يكون بحجم ما بلغته الأزمة السورية نفسها من التفاقم. أما الوضع الحالي، من دون حوار جدي وذي مغزى، فلن يأتي على الأرجح، هذا إذا تمكن، إلا بتحسينات شكلية لا تقدّم ولا تؤخر في مسار الأزمة. وما ينطبق على الحكومة ينطبق على الانتخابات المزمع إجراؤها في الربيع المقبل! فكلّ من الحكومة والانتخابات، بعد تعديل دستوري متفاهم عليه، ينبغي أن يكونا ثمرة الحوار، لا نتيجة للإشاحة عنه وتعطيله!
بسبب ذلك، تزداد أسباب القلق على سوريا وعلى الوحدة الوطنية فيها. والخشية هي، وسط هذه الصراعات والاستعصاءات، من أزمة تدوم وتدوم. والضحية الأساس هي الشعب السوري ووحدته الوطنية، فضلاً عن قضايا الوحدة والعروبة والديموقراطية والحقوق القومية، في فلسطين وفي
سواها!
* كاتب وسياسي لبناني