«الفقراء لا يفهمون الفن». هكذا بدأت أستاذة في الجامعة إحدى حصصها. مشكلتان تظهران في هذه الجملة: إمكان وضع الفن بالمطلق في منزلة تكون أعلى من قدرة استيعاب طبقة بكاملها. والثانية ـــــ وهي التي تهدف إليها هذه «المعلّمة» وشبيهاتها في الحقل الأكاديمي النخبوي أو الفني البورجوازي ـــــ هي وضع أنفسهن وأنفسهم، وما ينتجونه من «فن»، فوق قدرة الفقراء على الفهم والتذوّق، وبالتالي، فوق النقد. فما هو الفن الذي تنتجه النخب في لبنان ولم يتّخذ هذا الشكل؟ وما هو شكل وهدف ما يمكن أن نعرّفه بأنه فنّ في واقعنا هذا؟لا أذكر كم من النقاشات سمعت في محاولة لفصل الفن وجوهره «السامي» الإلهي، عن وسخ الشارع واليومي والعادي. وهو فصل، إذ يهدف إلى شيء، فهو محاولة واضحة لمسخ دور الفن في المجتمع كتعبير عن الهواجس وتفسير للواقع وكوسيلة تحرّر تسير بالضرورة بتوازٍ مع حركات التحرّر والثورة والمقاومة المسلّحة.
لنبدأ بالحديث عمّا يحدث في لبنان كتعريف وحيد لما هو الفن. تتكاتف المؤسسات الأجنبية غير الحكومية لتمويل حركات فنية معاصرة، تعدّ نفسها شكلاً مقاوماً للفن «الرخيص» والشعبوي. نأتي على ذكر ثلاثة من أكثر المراكز تأثيراً في هذا المجال، هي: «مركز بيروت للفن»، «صفير ـــــ زيملر»، و«أشكال ـــــ ألوان»، بـ«أكاديميتها» الجديدة. لا أقول «في لبنان» لأنفي وجود هذه الظاهرة في كلّ العالم، بل في محاولة لحصر التحليل في هذا الواقع الجيو ـــــ سياسي المحدّد، علماً بأنّ ما يحصل ليس سوى نتيجة، أو نسخة، لما يحصل في الفن في العالم، ولكنّه ـــــ في سياق «المجتمع اللبناني» ـــــ يتّخذ شكلاً أكثر تطرّفاً في ظلّ تفشي الليبرالية، و«انفتاح» مجتمعنا كما اقتصادنا وتاريخنا ومفاهيمنا لأدوات الاستعمار. كذلك فإنّني لن أغوص في عمليّة النسخ المتفشّية عند فنّاناتنا وفنّانينا؛ إذ تمثّل عجرفتهم حاجزاً أمام معرفتهم بأنّ الإنترنت سهل الاستعمال، وبأنّ الوصول إلى أعمال شتّى الفنانين من العالم سهل جداً. أتساءل أولاً عن التأثير الفعلي لتلك المراكز على حيوات الناس في لبنان. من يعلم بوجودها غير الحلقة الضيقة النخبوية من أصدقاء هؤلاء الفنانين ومعارفهم، وزمرة الأكاديميا من بقايا الاستعمار؟ أيتواصل هؤلاء، على الأقل، مع محيطهم المباشر في الحيّ الذي يعملون فيه؟ لقد نشأت تلك المراكز في أماكن ذات معنى معيّن على النطاق المديني، وهي أطراف المدينة التي كانت صناعية، وهجرتها اليد العاملة بعد الحرب، أو إثر إحدى النكسات الاقتصادية (فالنظام الرأسمالي كما نعلم كريم بتلك النكسات).
لقد نشأت إذاً في تلك «الجيوب» التي تمثّل بداية احتلال البورجوازية الصغيرة للمدينة، عبر وجودها وفرض ذوقها الخاص (بالإنكليزية، يستعمل مصطلح «اليابيز» للدلالة على هؤلاء الفنانين البورجوازيين). ولا تتفاعل تلك الطبقة التي نصّبت نفسها الوكيل الحصري لإنتاج الفن، مع محيطها إلّا بأن تأخذ فلا تعطي، تسرق ولا تؤثّر، تحتلّ ولا تنشئ علاقات جيرة. إذا ما تكلّمنا على أيّ من تلك المراكز التي نشأت في أحياء فقيرة ما بعد صناعية يسكنها عمّال المدينة، فإنّ شكلها ليس ظاهراً، ما يجعل من الصعب على الجيران معرفة أنّ هناك مركزاً ما في الشارع. عندما ذهبت إلى «صفير ـــــ زيملر» لأول مرّة، لم يستطع أي من سكّان الحيّ أو المارّين في الشارع أن يدلّني على المركز؛ فهم لم يعلموا بوجوده حتّى. كذلك علينا أن نفهم أنّ مؤسّسي تلك المراكز، والعاملين فيها، لا يهمّهم، بل لا يريدون أن يعلم الجيران بوجودهم؛ فهؤلاء أصلاً «لا يفهمون الفن». وإلّا فلم تكون معظم ما تنتجه تلك المراكز بلغة أجنبية ما؟ يستفيد أصحاب تلك المراكز من الكلفة المتدنّية للإيجار، وأسعار الأراضي، والمعامل المهملة، في تلك المناطق. يأخذون ولا يعطون. لو كان هدف الأكاديمية مثلاً حقاً هو «التواصل»، لدرست إمكانات أهل المنطقة، وفرضت عبر ذلك قسطاً سنوياً مختلفاً لأبنائها. لكنّهم لا يريدونهم داخل أسوار معاهد الفن، القادرة وحدها على إعطاء ختم يعرّف ما هو فن وما ليس فناً.
ثانياً، فلننظر إلى ما تنتجه تلك المراكز. أذكر مرّة حادثة مضحكة في الجامعة تتعلق بمعرض لأحد الفنانين ـــــ الأكاديميين. بعد أن وصل الحاضرون إلى الافتتاح، خرج الكثير منهم ممتعضاً، ظانّين أنّ المعرض لم يجهز بعد... ولكنّه كان جاهزاً مكتملاً، غير أنّ الحاضرين لم يتمكّنوا من رؤية «الفن» الذي كُتِب بخط هو في منتهى الصغر في أسفل حائط فارغ. وهو على الأرجح نسخة لإنتاجات فنية في إحدى عواصم أوروبا. فهذا الفن الذي غالباً ما يكون مبهم، خال من المضمون، يحمي صاحبته/صاحبه من النقد والمساءلة. فأولاً كل تفسير له ممكن، وثانياً، إذا ما انتقده أحدهم بطريقة سلبية، يستطيع منتجه أن يقول «إنّ الناقد لا يفهم فنّي المعقّد». كنّا مرّة في أحد عروض الشارع في بيروت حين انطلقت فتاة تنوح ساعة وتصمت نشازاً، بمرافقة غيتار يصدر صوتاً مزعجاً، ووراءهما صور مقربة (Close up) لعين، وداخل الفم، وكوع، وأجزاء غير معروفة من أجساد غير مفهومة... ثم سمعنا اثنين من رجال الدرك يتحدّثان. «يا زلمي ما عم بفهم شي»، قال الأول، فردّ عليه صديقه: «أصلاً شو فهّمك بالفن إنت؟ نحنا معتّرين ما منفهم هيك شي راقي».
كم هو سهل أن نسمّي أنفسنا فنّانين، ونخبّئ عدم قدرتنا على الخلق أو الإنتاج أو نقد الواقع عبرالتحجّج بنقص في قدرة المتلقّي على الاستيعاب. لكنّنا هنا نظلم هؤلاء اللواتي والذين يعدّون أنّهم فنّانين. فما يفعلونه ليس فعلاً إرادياً، بل تنفيذ لأوامر الأخ الأكبر. ألم نبدأ بالقول إنّ تلك المراكز تتبع لتمويل خارجي؟ وأشدّد على كلمة «تتبع»؛ لأنّ التبعية الاقتصادية هي أيضاً أيديولوجية. بعلمها أو من دونه، تنفّذ تلك المراكز أجندة النظام الرأسمالي للعولمة وتفكيك الموروث الفني، كما استعمار الذوق الفني الحالي. ليس الفن سوى وسيلة تستعملها الرأسمالية للسيطرة على العقول والقلوب. بعدما أصبح الفن سلعة والفنان منتجاً لها، أصبحت بالضرورة مرتبطة بحاجات السوق. فما تحتاج السوق الأوروبية إلى رؤيته في «الصرعة» الحالية هو ما يجب أن تنتجه معامل الفن حول العالم. من هنا مثلاً، نفهم شكل فيلم نادين لبكي الأخير وتوجّهه إلى الجمهور ـــــ المستهلك الأجنبي. وهنا نرى الشكل المزدوج للاستعمار. فبالإضافة إلى «تسليع» الفن، تجري هنا سرقة دور الفن الأساسي كأداة تحرّرية للشعوب؛ إذ يسقط من يد المجتمع ليصبح في يد المستعمر الرأسمالي الذي لا يمحو حاضر الفن فحسب، بل تاريخه.
المشكلة في تلك المراكز هي إذاً في أنّها تأتي لتصدر تعريفاً موحّداً لماهية الفن ضمن طبقتها ومفاهيمها الخاصة، فأي شيء ينتج خارجها ليس فناً. كما تكون أيضاً ترجمة مباشرة لحاجات المموّل الأجنبي لنحت فنّ عربي ـــــ عالمثالثوي تافه وسخيف وبعيد عن «شعبه»، مفرّغ من جوهره التحرّري، ولكنّه ترجمة لاحتياجات السوق العالمية.

الهدف من الفن وعلاقته بالواقع السياسي

بالإضافة إلى ما يجري داخل تلك المراكز، هناك مفاهيم أصبحت معمّمة عمّا يمكن أن يُعَدّ دوراً للفن وحدوداً له. لقد فعلت الثورات العربية فعلها، كلّ واحدة منها في إطارها السياسي، لكنّها أيضاً أثّرت في العالم بأثره. ومثل الكثير من الأشياء التي تصل إلى لبنان فيجري تشويهها و«لبرلتها»، وصلت المحاولات الفنية للثورة إلينا. لكن المشكلة تقع في فصل الثورة عن الفن كنتيجة لها. وهكذا، وُجِدت تلك المحاولات الفنية «الثورية» في لبنان، ولكن من دون فكر ثوري.
هناك حالياً، على سبيل المثال لا الحصر، مظهران لما نشير إليه من قصر في فهم دور الفن وعلاقته المباشرة بالفكر التحرّري الثوري لمجتمعه. الأولى هي محاولة «احتلال سوليدير»، التي كانت إحدى نتائجها في النزول إلى شوارع وسط المدينة المحتلّ من الشركة العقارية واحتلالها... عبر الرسم على الأرض بالطبشور. وأعتقد بأنّ حتى هذا «التحدّي» لم يحصل إلا بعد أخذ الإذن من الشركة المذكورة. ذلك منتهى الثورة! ما أقصده هنا، هو أنّ على قوة الفن وعنفه أن توازي قوة الاحتلال. لنقوّم مثلاً تأثير ذلك التحرّك على وجود الشركة أو احتلالها للأرض والتاريخ، أو حتّى تحدّيه لقوّتها الاقتصادية مثلاً. لنقارن ذلك مع احتلال (من دون أخذ إذن السلطات المحليّة) كامل لشوارع وسط البلد أو لمبنى، أو منع المتسوّقين من دخول المحالّ. ذلك التحرّك لم يفرّغ الفن من معناه فقط، بل بالأساس من قوته التأثيرية والتغييرية للواقع. فلكل موقف وواقع أساليب معيّنة وموضوعية للمقاومة والرفض.
لنتكلّم ثانياً على الغرافيتي. غرافيتي رافض لحكم الملك في السعودية، أو غرافيتي يطالب باستمرار الثورة في مصر، أو غرافيتي يعبّر عن انتماء الشيعة إلى عقيدة الحسين في البحرين... أو غرافيتي على جدران بيروت يطالب بالمحافظة على تراث المدينة المعماري. كم يعبّر ذلك الأخير حقاً عن حاجات الناس وهواجسهم، وإلى أيّة درجة يؤثّر في تغيير الواقع؟ هل جرح هذا الغرافيتي شعور المستثمر الذي اشترى أراضي في بيروت وهدم بيوتها القديمة وهجّر أهلها وبنى ناطحات سحاب؟ هل أثّر في من يعرض بيته القديم للبيع والهدم؟ ومن ناحية أخرى، هل أجاب بشكله أو مضمونه على مخاوف سائقي التاكسي أم سكّان المخيّمات أو غيرهم من المهمّشين؟ هل بإمكاننا حقاً أن نقارن ما يجري على جدران بيروت مع ما يجري على جدران تلك المدن العربية؟ ألم يفقد هذا الفن دوره في هذه الحالة؛ لأنّه في واقعه الاجتماعي التاريخي والسياسي لا يمثّل تحدّياً أو رفضاً فاعلاً لهيمنة النظام؟
بالإضافة إلى عبثية فصل الفن عن واقعه السياسي وحتمية اتصاله البيولوجي بفكر ثوري، من الضروري النظر إلى فكرة «فصل الفن عن السياسة»، وهي فكرة محبّبة ورائدة في الأوساط الليبرالية الداعية إلى السلام ورفض «الاقتتال» والعنف.
في كتابه «هوامش ثقافية» يقول سعد الله ونّوس: «دون تمهيد، يمكننا التأكيد بأنّ كلّ أدب، مهما بدا لاهياً عن السياسة، لامبالياً بهمومها، هو في جوهره ذو مضمون وبعد سياسيين. ذلك تقريباً قدر لا فكاك منه. وما دام الإنسان حيواناً سياسياً ـــــ على حد تعبير أرسطو ـــــ فإنّ مواقفه، وتعبيراته عن نفسه، أدباً كانت هذه التعبيرات أو فناً، لا يمكن أن تخلو من بعد أو مغزى سياسي». فإذا ما نظرنا إلى الافتراضات القائلة بأنّ الفن يمكن أن يكون منفصلاً نهائياً عن السياسة، نستطيع أن نعارضها اعتماداً على فكرتين أساسيتين: أوّلاً، إنّ الواقع السياسي الذي يعمل فيه الإنتاج الفنّي ليس واقعاً محايداً، بل هو بالضرورة منحاز إلى جهة ضد أخرى. نحن نعيش في ظل نظام رأسمالي ذكوري استهلاكي تؤدي فيه إحدى المجموعات دور النخبة المسيطرة، وتنوء المجموعات الأخرى تحت سيطرتها. بالتالي، إنّ إنتاج أي «فن» سيكون بـ«حياديته» وغياب السياسة عنه، بالضرورة أيضاً، داعماً للنظام المسيطر. لنأخذ فكرة الفن في ظل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين مثلاً. هناك، يجاهد البعض لفصل الفن كمخلوق أثيري إلهي، ونأيه عن أوساخ «المهاترات» السياسية. هذا النوع من الفن هو بجوهره داعم للاحتلال، يقبله بتقبّله للحيادية في قضية لا تحتمل الحيادية. فأنت إمّا «مع» أو «ضد» الاحتلال، وسرقة الأرض والتاريخ والهوية. لا حلّ ثالثاً، لا يمكن أن تفصل ذلك الواقع عن الفن الذي هو بطبيعته نتاج الواقع.

الأسلوب: «تي رشرش» أم مارسيل خليفة؟

حين تعرضت قصيدة أحمد فؤاد نجم «نيكسون بابا» لانتقادات، قال الشاعر: «أمّا بالنسبة للمثقفين العرب، فاعتبروها سطحية ومافيهاش، عدم المؤاخذة، عمق شعر المتنبّي ولا استمرارية شكسبير واتهموني بأنّي شاعر مناسبات... ولغاية وقتنا هذا مش عارف إذا كانت دي شتومة ولا تحية».
يبدو «انحطاط وتدهور» حالة الفن إحدى حجج الفن النخبوي. فليس فنّاً ما يبدو ممتعاً للأذن والعين والمشاعر غير المثقّفة. تأتي إلى ذهني الآن أغنية «تي رشرش». من قال إنّ هذا فن أو لا؟ هو إنتاج ممتع ومسلّ، ليس بالضرورة فناً، ولكن هذا لا يفرض ضرورة تعريف موسيقى «باخ» أو «مارسيل خليفة» كالشكل الوحيد للفن. مجدّداً، لا أقول بأنّ «تي رشرش» ليست فنّاً. لكنّني أقول بتنوّع الفن من جهة (راخمانينوف ونانسي عجرم ليسا متشابهين أبداً ولكنّهما فنّ بسبب قدرتهما على الإمتاع وتحريك الحواس)، وبحتميّة تحرّره من تعريفات النخبة الفاشية. وأقول أيضاً بأنّ الواقع الاستهلاكي الذي نعيشه سهّل، ومهّد لسيطرة نوعين متنافرين للفن: الفن الاستهلاكي لنانسي وشبيهاتها، أو فن النخب المتعالي عن الشعب والشارع.
الطرح هنا يتطلّب العمل على مستويين مختلفين: أوّلاً تظهير الذوق الفني خارج الاحتلال الاستهلاكي له، وثانياً عدم وضع مقياس موحّد وإنّما مناسب لواقع الفن التاريخي والسياسي. يقول إرنست فيشر في كتابه «الاشتراكية والفن»، بأنّ «الفن ليس شيئاً ثابتاً جامداً، وبأنّ وظيفة الفن تتغيّر مع تغيّر العالم الذي نعيش فيه».
من ناحية أخرى، استطاع شبّان من المخيّمات ومن البقاع مثلاً، أن يطوّروا فنّاً، هو في الأصل «أجنبي»، يطوّعونه لترجمة قضاياهم وحاجاتهم. هل موسيقى «الراب» فن؟ هل ما يطرحه «الطفّار» من نقل واقعي لما يجري حولهم، ونقد لاذع يخاف أغلبية الصحافيين والسياسيين من قوله، هو أقل من فن؟ ألم تستطع هذه الكلمات ببساطتها واستخدامها لفن «أجنبي» كما واعتمادها على موروث فنّي أن تصل إلى الناس وتترجم وجعاً وحاجة؟
أعتقد أنّ ما أنتجه هؤلاء هو فن بمضمونه وجوهره، فهما بكلّ تأكيد تعبير عن منتجته ـــــ منتجه في ربط ضروري لهواجس المجتمع وحاجاته التحرّرية. وهنا لا تتحدّد جمالية الفن أو «رقيّه» بأسلوب أو آخر، بل تنمو بالضرورة عبر نقد حتمي لما أنتجته الرأسمالية والعولمة من أساليب لاستعمار الثقافات ومحو التاريخ وفرض ذوق موحّد. فـ«من أكون» مرتبط مباشرة بمعرفتي لتاريخي وثقافتي وتنقيتهما من قشور العولمة ومسخ فكر موحّد وفنّ موحّد.
أمّا بالنسبة إلى الفنون البصرية، فإنّ المقياس غالباً ما يكون واقع عرضها في غاليري أو متحف ومعرض. أي شيء خارج هذه المساحات هو مضيعة للوقت بالنسبة إلى نخبة النقّاد والفنانين وأكاديمييّ الاستعمار. وفيما يتطوّر الفن خارج أسوار هذه السجون المعلِّبة للأفكار والإنسان على حدّ سواء، لا تسمح النخب للفقراء بأن يفهموا الفن أو ينتجوه. هذه المساحات الضيّقة، التي هي نتاج مباشر لأجندات الدول الأجنبية العابرة للثقافات والتاريخ واللغات، جعلت أدوات التعبير البصرية حكراً على طبقتها وذوقها، وكرّست الفن معلّباً ميتاً لا يعيش وينمو في حياتنا اليومية وعلاقاتنا وتغيّراتنا. لم تأبه هذه المراكز إلى أنّ الكتابات والخط العربي والرسومات التي طوّرتها المجتمعات المختلفة هي فن. لم تر في شعارات عاشوراء فنّاً. لم تر في ما يكتبه أطفال المخيّمات على جدرانهم العارية فناً. لم تعرف أنّ مهجّرات ومهجّري حرب 2006 تركن وتركوا في المدارس التي آوتهم فناً هو نداء للأرض والعودة وحبّة القمح. لم تر أنّ ما ترسمه عاشقة تعبة في أوّل ساعات الصبح وهي تنظر بجوى إلى ذلك المضطجع بجانبها ترسم انحناءات وجهه وكتفيه السمراوين فن. لم تر تقديراً للفن في اختيار فتاة لفستانها بألوانه وزركشته وقماشه وانسيابه. ولم تر الفن في اختيار شخص ما للوحة آية الكرسي المرصّعة بخطوط ذهبية بخط عريض والكثير من الزخرفة، يضعها في بيته، أو لصورة العذراء منحنية كانت أو منتصبة بعباءتها المتدليّة ويديها المفتوحتين (والإنسان هنا، باختياره للوحة أو صورة دون أخرى يحدّد بذاته مفهوماً للجمال والفن يملكه، وهو بذلك يخلق الله في هذه اللوحة، لا العكس). هم لا يريدون للفن أن يتخطّى أسلاك مراكزهم، لأنّه بذلك سيخرج عن السيطرة ويصبح في يد الفقراء والمهمّشين والمعذّبين، يستعملونه لا لشيء إلّا لأهوائهنّ وأهوائهم الخاصة... وربمّا أيضاً للتحرّر.

الفن هدفاً وشكلاً ووسيلة تحرّر

لا ينفصل شكل الفن عن هدفه. لا ينفصل فرض الاستعمار لذوق موحّد عن هدف هذا الفن وسعيه إلى تحرير الفرد والمجتمع. الفن في البداية وفي ظلّ تعدّد أشكاله، طريقة لإمتاع الحواس. لكنّه لا يستطيع ـــــ في ظلّ سيطرة الأنظمة الاستعمارية والرأسمالية والذكورية ـــــ إلّا أن يتطوّر، ليصبح يداً إضافية للثورة. يقول مهدي عامل في الهدف الأخير في تطوّر دور الفن والثقافة من حيث تأثيرهما على المجتمع والفرد: «منذ أن التحمت النظرية بالثورة، لم تعد الثقافة حكراً على نخبة من الكهنة. ليست الثقافة كتابة، وإن كانت الكتابة من أركانها. إنها تَمَلُّكٌ للعالم في حلم، أو حقل أو مصنع. أما المثقفون، فهم المنتجون، بأيديهم وأدمغتهم، ضد أنظمة القمع والاستغلال والجهالة، فكراً، فناً وجمالاً هو حبّ للحياة. وأما غير المنتجين، القابعين في قبحهم، فهم الأسياد بأنظمتهم. وأما هدم الأنظمة، فهو مهمة الثورة في كل آن». مهمّة الثورة إذاً، هدم هذه الأنظمة، والفن هو إحدى وسائل الثورة.
ولأنّ الفقراء والمعذّبات والمعذّبون في الأرض هنّ وهم صانعو الثورة، أختم من حيث بدأت، بجملة قد تبدو بصرامتها فاشية: الفن للفقراء. هذا ليس تعريفاً، بل هو ردّ على من تقول ويقول بأنّ الفقراء عاجزون عن فهم الفن وتذوّقه: العيب في فنّك أيها «الفنّان»، إذا ما أنتجت فنّاً لا يفهمه الفقير أو المهمّش، وهذا هو برأيي التوجّه الذي يجب أن يأخذه في تطوّره كل ما نسمّيه فناً. هو للفقراء والنساء والعاملين في الزراعة ومهمّشي المدن وساكني المخيّمات. وإن لم يكن كذلك، فهو أي شيء آخر: تسلية، تضييع وقت، أو تجارب للتعبير عن اضطرابات نفسية إذا أردنا.

* كاتبة لبنانية