بادرت مع مجموعة من الأصدقاء في أحد فنادق نواكشوط، عاصمة المليون شاعر، كما توصف (على سبيل المجاملة) إلى تمرين أدبي شائع يبدأه أحدهم بعرض بيت من الشعر العمودي، فيجيبه آخر ببيت مختلف انطلاقاً من آخر حرف في البيت الأول، وهكذا دواليك. استغرقنا في التمرين (عكاظ؟) دون تعثر، وتبادلنا أشعاراً للحطيئة وتأبط شراً والفرزدق وجرير والمتنبي وأبو تمام، وصولاً إلى أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والأخطل الصغير وغيرهم.ما كانت مجموعتنا «قومجية» مشدودة إلى ماض لا يراد له أن يمضي، بل لم يكن بيننا بعثي أو ناصري أو رفيق مخلص لـ«حركة القوميين العرب»، وهذا ليس إنكاراً لهوية المذكورين، بل طريقة للقول إنّ شعراً حكيماً قاله ابن الوردي في القرن الرابع عشر (لا تقل قد ذهبت أربابه...كل من سار على الدرب وصل) لا يزال متداولاً حتى يومنا هذا في أربع بقاع الأرض العربية، وإنّ القسم الأعظم من العرب يقرأ الفاتحة في الحزن والفرح على السواء، ويصلي على الرسول العربي، ويشترك من ينتمي إلى دين آخر مع المسلمين العرب في إرث معمر لألفية ونصف ألفية، وإنّ أجيالاً عربية من كل البلدان غنت، ولا تزال، أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وصباح فخري ووردة الجزائرية ومحمد عبده، فيما الشبان الجدد يغنون مع نانسي وهيفاء وروبي وعمرو وعاصي ووائل والشاب خالد و... غيرهم. هكذا تعبر الثقافة العربية حدود دول الجامعة بطريقة ميسرة غير عابئة بمن
رسمها.
يعني ما سبق أنّ العربي لا يحتاج إلى الإيديولوجية القومية الكلاسيكية (الإقليم القاعدة والتنظيم الحديدي والجيش المرصوص والوحدة الاندماجية) حتى يشهر هويته القومية، فهي تحصيل حاصل متوارث، لا أحد يستطيع محوه لأسباب عديدة، من بينها قداسة اللغة العربية (لغة القرآن) التي فشلت محاولات ضربها باللهجات المحلية والعامية في غير بلد، وهي لا تزال تملأ فضاءنا العربي الكبير بهجة وغنى وتواصلاً، وإن كانت تحتاج إلى جهود حثيثة من أجل تكييفها مع الثورة العلمية المستمرة.
أذكر تلك الإشارات على غير ترتيب منهجي دقيق، للاعتراض على مسألتين. الأولى تتصل بثقافة الإنكار التي تنتشر بيننا، وتشيع أنّ: العرب جرب، والعرب ظاهرة صوتية، والعرب أمة مهووسة بالمؤامرة، والأمة العربية اختراع بعثي، والعروبيين قومجيون فاشلون... إلخ، ومن ثم القول إنّ هذه الأحكام لا تليق بنا ولا نستحقها، وما انتشارها عندنا إلا دليل على قوة وعمق التبعية التي تربطنا بالأجانب. ذلك أنّ العربي الراطن بقيم الأجنبي يستخف بثقافته الأصلية، ومن ضمنها اللغة، ويعلي من شأن لغة وثقافة المتبوع، التي رطن بها واستبطنها.
والمسألة الثانية تشبه الأولى وتتصل بتعظيم «القوميات» التي تعيش بيننا أو على حدودنا، وتجتمع كلّها على كبح القومية والوحدة والقيم العربية. ويشترك في ذلك الجهد العدائي للعروبة، الأتراك الذين كانوا ولا يزالون يرون أنّ الوحدة العربية تمثّل خطراً على مصالحهم من جهة الجنوب، مقابل الخطر السلافي من جهة الشمال. ويخشى الغربيون من أن تهدد الوحدة العربية مصير الدولة العبرية، كما يخشون من أن يؤدي اتحاد العرب إلى توحيد المسلمين، والى نشوء كتلة هائلة على المسرح الدولي يمكنها أن تعيد النظر في توزيع ميزان القوى العالمي على أسس جديدة.
ولا يكتفي الأجانب بالرفض السلبي لاتحاد العرب، بل يدبرون انشقاق جماعات مندمجة معهم منذ مئات السنين، كالأكراد والبربر والمجموعات العرقية في السودان وموريتانيا. وتبذل جهات غربية موازنات ضخمة من أجل تعزيز وترسيخ هذا الانقسام وبلورة وإعادة كتابة لغات دارسة لبعض المجموعات، والضغط من أجل انفصالها عن العرب وربطها بالدولة العبرية، كما هي حال جنوب
السودان.
والحال أنّ الشرق الأوسط الذي يضم قوميات معمرة كالفرس والأتراك والبلوش والباشتون والطاجيك والأوزبيك والأكراد والهنود وغيرهم، لا يشكو «المجتمع الدولي» المزعوم منها، بل من العرب وحدهم. فالقومية الكردية محمودة وجديرة بالدعم لأنّها تهدد وحدة أراضي العرب في سوريا والعراق، وتهدد إيران حليفة العرب. بالمقابل يهمل الغرب إدانة الاستبداد التركي ضد الأكراد الذين كانوا حتى الأمس القريب ممنوعين من تعلم لغتهم وتسمية أبنائهم بأسماء كردية، فضلاً عن طلب الحكم الذاتي. وفي الدول العربية الأخرى، يرعى الغرب الانشقاقات الدينية والإثنية بداعي حق تقرير المصير ضد ما يسمى «الشوفينية العربية». أما تمويل وتسليح وحماية «القومية الصهيونية»، فهو يجري بموافقة وعطف ضمني من معظم الزعماء العرب الذين يطيعون حماتهم الغربيين، ويخاطرون بوجودهم على رأس الدول التي يديرونها لو عاد الأمر إلى شعوبهم التي تطمح إلى إنشاء اتحاد عربي من المحيط إلى الخليج.
والواضح أنّ الشرق الأوسط يعيش هذه الأيام على وقع آخر المعارك مع آخر معقل للدعوة العربية في سوريا، وذلك بعد إخضاع مصر وتطويق فلسطين باتفاق أوسلو، وتدمير العراق وانفجار الحرب الأهلية في الجزائر، واستسلام القذافي قبل إطاحته، وعزل اليمن الموّحد وجره إلى حروب ونزاعات داخلية دامية، وإغراق الشطر الغربي من بيروت بالرساميل الخليجية والديكورات الغربية... إلخ.
لا مبالغة بالقول إنّ مصير هذه المعركة يمكن أن يقرر مصير الدعوة العربية لعقود طويلة، هذا إن لم يؤدي في حال انهيار النظام السوري إلى «خروج العرب من التاريخ الحديث» على ما روى ذات يوم الأستاذ محمد حسنين هيكل.
ما من شك في أنّ الدعوة العربية ليست توأماً للاستبداد وكبت الآراء ومقاضاة الناس على الظن، عوض الدليل الجرمي وتحرير السلطة من كل قيد أخلاقي أو قيمي أو قانوني، وتأجيل الإصلاح الديموقراطي إلى أجل غير مسمى، فضلاً عن الأداء الإعلامي الدعائي البليد الذي ينتمي إلى عصر مضى. كل ذلك وغيره، لا يعلي من شأن القومية العربية، بل يجعلها أقرب إلى وصف «القومجية»، الجاري على لسان خصومها. مع فارق أساسي هو أنّ الخصوم يريدون لتلك العناوين أن تكون أدلة على انتهاء صلاحية الدعوة العربية، وأسلحة لقتل تلك الدعوة، فيما الدعوة نفسها تنطوي على فرصة هائلة في انطلاقة جديدة وفعالة إن تحررت من أعبائها الاستبدادية. ولعل الوعد السوري في ذلك التحرر هو شرط حاسم في تحطيم الهجوم الدولي والإقليمي الواسع على عاصمة الأمويين.
* كاتب لبناني مقيم في باريس