قبل أن نلج تفاصيل السردية الأوروبية الكلاسيكية لمفهوم «الأمة» و«القومية»، لا بد لنا من الوقوف عند معاني بعض المفردات الأساسية لغةً ومعنىً في العربية، وأيضاً، عند خلط خطير ولّدته الترجمة الحديثة لهذين المصطلحين /الموضوعتين، لا لأنّنا نتبنى السردية أو الأدبيات الأوروبية الغربية السائدة سيادة الغرب وهيمنته التعسفية الراهنة في جميع المجالات، بل لنوضح بعض المفاهيم المهمة ذات المساس بالموضوع.يعيد أغلب الباحثين العرب كلمة «أمة» لغةً إلى «الأم»، والدلالة العرقية والدموية واضحة وقوية، خصوصاً أنّ بعض الثقافات الشرقية والبدائية في آسيا وأفريقيا تعيد تنسيب الإنسان إلى الأم وليس إلى الأب، وهو راسب من المرحلة «المترياركية» أي «مجتمعات الأمومة». أما كلمة قومية، فهي من المستحدَثات، وكانت تعني قديماً «القوامة»،

( فلان لا قوميةَ له على ماله أي لا قوامة / لسان العرب). واضح أنّ الكلمة قادمة من «القوم»، وهم جماعة البشر المرتبطين بروابط معينة كاللبث «البقاء» في مكان واحد. ولا تشترط العربية فيهم العلاقة الدموية أو السلالية. غير أنّ ابن منظور يشرحها بمعنى قريب من المعنى السلالي بقوله «وقَوْمُ كل رجل: شِيعته وعشيرته». في ما بعد أصبحت كلمة «قوم» تعني «القومية قبل أن تكتمل وتنسجم مكوناتها» والبعض يميّز بين القومية أي الأمة مكتملة التكون، وبين القوم أي الجماعة البدائية التي لم تتطور بعد إلى مستوى الأمة والقومية.
أما كلمة «وطني» فتترجم إلى «قومي» في جميع القواميس الأجنبية والوسيطة المستعملة، وكمقابل «ناسيوناليست nationaliste» الفرنسية المشتقة من (ناسيون nation) أي أمة أو قومية، ولها مرادف آخر هو «باتريوتيك» نسبة إلى (باتري patrie) أي وطن، ومنه وطني أي «الشخص المحب لوطنه، كصفة له وليس كانتماء تصنيفي مجتمعي» (patriotique). لكن هذه الكلمة محدودة الدلالات وتستعمل استعمالات غير سياسية وغير علمية بل كصفة بلاغية. أما كلمة «patriotard» فتعني «الوطنجي» أي المبالغ بنزعته الوطنية، والكلمة تفيد السخرية والتهكم. وعلى هذا، فإنّ دلالات الكلمات من قبيل وطني وقومي وقوم وأمة وقومية، لا تخلو من الاضطراب والخلط.
هذه الكلمات في السردية القومية السائدة حالياً، والمفهوم الذي تستبطنه، القادم غالباً وجزئياً بالأساس العرقي والرسمي (فلنقارن «رسّ» العربية القديمة التي تعني «نسب الشخص وأصله لتقادم عهده»، كما يقول ابن منظور بـ«race» الفرنسية والانكليزية، والتي لها المعنى ذاته تماماً) تُنْتَزَع من سياقاتها في السردية الأوروبية الغربية بعد عصر النهضة، لتستعمل بالكثافة المحمولية والدلالية ذاتها في جغرافيات أخرى مختلفة نوعياً إلى هذه الدرجة أو تلك.
غير أنّ دعاة الخصوصية العربية، أو العراقية، أو الشرقية، يبالغون كثيراً في رفضهم للنظريات القومية الأوروبية جملة وتفصيلاً، واختراعهم لبدائل محلية لها. وهم بهذا يقفزون على ما هو مشترك نوعياً بين الحضارات البشرية وعلى تقارُب التجارب الحضارية من بعضها، وعلى ما يخلفه الاندماج العالمي العميق الذي بدأ منذ عصر النهضة الأوروبية، ثم تصاعد بعد حروب استعمار العالم. وأخيراً، فإنّ مبالغات دعاة الخصوصية والرافضين بالجملة للنظريات القومية الغربية، يغفلون عن حقيقة أنّ العالم العربي لا يبعد حتى جغرافياً عن أوروبا الغربية كثيراً، بل إنّ المسافة بينهما لا تتجاوز 14 كيلومتراً كما هي الحال في مضيق جبل طارق. كذلك، يهمل هؤلاء حقيقة تداخل العالمين العربي والأوروبي تداخلاً جوهرياً لا طارئاً وسطحياً قبل وبعد الحروب الصليبية. إنّ حصة فيلسوف عربي مسلم كابن رشد في أوروبا عصر الأنوار مثلاً، هي حصة تأسيسية وقائدة وليست مجرد قطعة ديكور شرقية كبعض الباحثين العرب «المستشرقين» والذين صاروا جزءاً من السردية الغربية الأورومركزية في وقتنا الحاضر. على هذا، وانطلاقاً منه، ستكون قراءتنا لأهم نص تأسيسي في نظريات القومية، ونقصد البحث الشهير والأقدم «ما هي الأمة؟» لإرنست رينان، ستكون محكومة بهاجسين: الأول هو تفادي السقوط في أوهام السردية الغربية القومية ذات الأساس العرقي، والثاني هو التخلص من سلبيات نظريات دعاة الخصوصية المحلية المبالغ بها وبطابعها الرغبوي.
يعدّ نص رينان «ما هي الأمة؟» نصاً أساسياً وتأسيسياً في السردية القومية الأوروبية، وهو كان ألقاه محاضرة في جامعة السوربون في 11 آذار / مارس 1882. وقد يكون مفيداً أنْ نسجل أنّ رينان نال شهادة الدكتوراة عن أطروحته «ابن رشد والرشدية»، ونشرها كتاباً في 1852 وكان يعدّ مرجعاً أساسياً عن هذا الفيلسوف العربي المسلم التنويري رغم أنّ رينان ذاته، وهذا أمر يثير العجب فعلاً، كان قد اقترب كثيراً من الأفكار العنصرية المخلوطة بتمجيد النسخة الغربية من التمييز بين العقول في كتابه «مستقبل العلم»، والذي يعتبره أحد مترجميه إلى العربية، حسن الشامي، «بمثابة «مانيفست» فكري للدفاع عن العلم والعقل وتصنيف للأعراق والأقوام تبعاً لدرجة اقترابها من الصورة المثالية والنموذجية للعقلانية الإغريقية». إنّ رينان هو أول من أوجد ذلك التقابل أو التمييز العنصري بين ما كان يسميه «عقلية الشعوب السامية النازعة إلى البلاغة والقدرية والخرافات والى التصورات الساذجة عن الإيمان الديني» وبين «عقلية ومزايا الشعوب الآرية والهندو ــ أوروبية النازعة إلى إعمال العقل والى الأساطير والتراجيديات». وجهات النظر تلك أصبحت في ما بعد المداميك الأولى للفكر الأورومركزي العنصري المعاصر.
يبدأ رينان محاضرته بداية عنصرية بحتة، فالتاريخ الإنساني يبدأ عنده «منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية، أو بالأحرى منذ انشطار إمبراطورية شارلمان تبدو أوروبا منقسمة إلى أمم». أما ما قبل ذلك التاريخ، خارج أوروبا، فهو عنده مجرد تاريخ «للقطعان». فهو يقول «لم تكن مصر والصين وكلدة «الإمبراطورية الكلدانية» القديمة أمماً بأي درجة كانت. لقد كانت بمثابة قطعان يقودها ابن الشمس وابن السماء». هذا الكلام الفاقع في عنصريته لا يعني خلو أفكار رينان من الصواب في بعض محاور الموضوع، فهو، رغم ذلك كلّه، لا يعطي للعرق أو السلالة الدموية أهمية أولى في تشكل الأمة، كما يفعل النازيون والفاشيون، حين يقول «وفي أيامنا هذه، يرتكب خطأ أكثر فداحة، يجري الخلط بين العرق والأمة، كما تنسب إلى مجموعات إناسية (إثنوغرافية) أو بالأحرى لغوية، صفة سيادة مشابهة للسيادة التي تتمتع بها الشعوب القائمة فعلياً». بل هو يهدّ الأساس العنصري للأمة، ولكن جزئياً ومؤقتاً، وهو في الوقت نفسه يفصل بوضوح بين المجموعات اللغوية «إثنوغرافية» لا سيادة لها، وبين شعوب مكتملة التكوّن لها سيادة فعلية. إنّه يعترف بأنّ «الأمة» شيء جديد على التاريخ، واختراع آري أوروبي أبيض أنجزته شعوب القارة القديمة بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
عملياً، يقسم رينان شعوب أوروبا إلى «أمم» و«لا أمم»، وبين «أوطان» و«لا أوطان». ومن بين كل الكيانات الجغراجتماعية التي سادت وبادت أو ظلت قائمة كالصين والهند ومصر وبلاد الرافدين وفارس، لا يعترف رينان إلا بالإمبراطورية الرومانية بوصفها «الأقرب من غيرها لأن تكون وطنا»»، وبالتالي أمة في طور التكون نتيجة الانصهار الاجتماعي المتحقق بين المجموعات البشرية المختلفة. أما الدولة العثمانية فلا ينطبق عليها هذا التعريف، فهو يقول «في تركيا بقي التركي، السلافي، اليوناني، الأرميني، العربي، السوري، الكردي، متميزين اليوم عن بعضهم البعض كما في اليوم الأول للسيطرة». إلى ذلك، يطرح رينان أسئلة مهمة، لكنّه يتركها معلقة، ومن ذلك «كيف تكون سويسرا أمة وهي تشمل ثلاث لغات وديانتين وثلاثة أو أربعة أعراق بينما لا تكون توسكانة، مثلاً، أمة وهي المتجانسة؟ لماذا تكون النمسا دولة وليست أمة؟». إنّ السؤال الخاص بالنمسا يهدم النظرية الساذجة التي تُعَرِّف الأمة بوصفها الدولة، والدولة بوصفها الأمة. إنّ القول بأنّ الأمة هي مجموع الناس المتجمعين في دولة أصبحت هي المعبّر عن تجمعهم، يسمح بالقول إنّ هناك أمة في قطر تسمى الأمة القطرية بسبب وجود دولة بهذا الاسم، والأمر نفسه يمكن أنْ يقال بصدد الكويت والفجيرة... إلخ!
لكنّ هذا الكلام لا ينفي وجود الدولة القومية حيث تتطابق الدولة مع الأمة، وهذه حالة من حالات وليست القاعدة. فحتى في الموسوعات العلمية المفتوحة والموجهة للعامة وليس للمتخصصين، يمكن أن نقرأ ما يعصف بهذه الفكرة الساذجة. نقرأ إذاً في الموسوعة الحرة «الدولة القومية هي دولة وأمة في آن واحد. وتتميز بمميزات الدولة، بمعنى مساحة ترابية محدودة، وسيادة، وهوية وطنية التي تمثل شعور الانتماء والثقافة المشتركة. توجد حالتان لتكوين دولة قومية: أن الدولة تشكل أمة يتم إدماج الشعور القومي فيها في ما بعد. مثال: فرنسا. أو مجموعة أفراد يعترفون بانتمائهم إلى نفس الأمة ويعبّرون عن رغبتهم في العيش ضمن دولة موحدة. مثال: الولايات المتحدة الأميركية. لكن توجد أمم ليست لها دولة مثال الأمة الكردية. كما أنّ هناك دولاً لا تحمل خاصيات الأمة أو الدولة القومية، كما هي الحال بالنسبة لبلجيكا ولبعض دول إفريقيا».

* كاتب عراقي