مثّلت حالة محمد البوعزيزي الصيغة الأقصى لوضع اقتصادي صعب، إذ كان المطلب يتعلق بالعمل، فخرجت التظاهرات تحمل شعار «العمل استحقاق». وفي مصر كانت المطالب التي تصدرت الدعوة إلى إضراب «25 يناير» أكثرها اقتصادي (حد أدنى للأجور، حق العمل، الأرض)، لكن الفضاء الذي وُضع فيه هذا الحراك الهائل هو «الربيع العربي» الذي يهدف إلى تحقيق الحرية.لا شك في أنّ كل حدث يوضع في سياق، ولقد شهدنا استفحال الدكتاتوريات في كل البلدان العربية بعدما أسست للتداخل بين النهب والعنف والتبعية. وكان الضغط الاستبدادي يدفع إلى نشوء موجة ديموقراطية، ربما بدأت ببطء منذ الثمانينات من القرن العشرين، لكن «الربيع الأوروبي» الذي طاول البلدان الاشتراكية منذ 1989، والذي تمحور حول التحرر والدمقرطة بالأساس، أطلق موجة عالمية ترافقت مع هجوم العولمة، وعممت منطق هذا الربيع باعتبار أنّه «المثال العام» لتحقيق الانتقال من النظم الاستبدادية الشمولية إلى الديموقراطية. وهي الموجة التي تعممت عربياً، خصوصاً في مواجهة نظم شمولية مثل تلك الموجودة في العراق وسوريا وتونس، رغم شمولها بلداناً عديدة أخرى.
بالتالي، كان العقد الأخير هو عقد «النضال الديموقراطي»، رغم تصاعد تغوّل النظم وتحوّلها إلى نظم بوليسية مافياوية. وتشكلت كلّ أشكال الهيئات واللجان والمؤسسات التي تنشط في مجال حقوق الإنسان. وأيضاً توسّع تعميم الأبحاث حول آليات الانتقال إلى الديموقراطية، و«المقاومة اللاعنفية». وكثرت الندوات حول الديموقراطية والحرية، وباتت هذه المسائل هي «الثقافة العامة» التي تنتشر في كل الأرجاء. وهنا كانت النخب «غارقة» في كل هذه الثقافة، وأصبح نشاط الأحزاب يتمحور حولها. حتى اليسار سار بتسارع لكي يردد كل ذلك، كأنّه يكتشف «لغة» جديدة لم يعهدها، ويغوص في طريق ظن أنّها سوف تحقق الحلم الذي حمله عقوداً: أن يمارس السياسة بعلنية وشفافية وسلمية.
ولذلك، حينما انفجرت الانتفاضات، كان طبيعياً أن تضعها هذه النخب في السياق الذي عملت فيه، وبالتالي أن تعتبرها تتويجاً لنضال ديموقراطي طويل، ومن أجل تحقيق هذا الهدف الكبير. ومن هنا كان من الطبيعي أن يُعطى ما يجري اسم «الربيع العربي»، وأن يصبح الهدف الذي فرض انفجار الانتفاضات هو الحرية. فما جرى هو استمرار لسياق صاغته النخب، وها إنّ «الجماهير» تحققه، رغم أنّ النخب لم تثق في لحظة بهذه «الجماهير»، ولم تعتقد بأنّه يمكنها أن تفهم معنى الديموقراطية أو تثور. وهو الأمر الذي جعل مفاجأتها كبيرة بما جرى، إذ فوجئت بانتفاضة هذه «الجماهير»، وكذلك فوجئت بانتصار انتفاضاتها، التي بدا أنّها تفتح أفق الانتقال إلى الديموقراطية. وهنا تأكدت فكرتها بأنّ الحرية هي في أساس كل هذا الانفجار الشعبي.
الإرادة المطلقة للمثقف هي التي تؤسس لهذه الرؤية، إذ يبدو فعل «الجماهير» من نتاج «فكرته المطلقة»، لتبدو هذه «الجماهير» كأنّها تحقق هذه الفكرة. فهي الفكرة السامية إلى حدّ أن تحقيقها يحتاج إلى كل هذه القوة، محمّلة على «أكتاف» من لا يعرفها لأنّه من «العامة».
لكن بغض النظر عن إشكالية النخب، وعن جموحهم نحو ركوب هذه الموجة من أجل الزهو بتحقيق فكرتهم المطلقة (التي لا يبدو أنّها ممكنة التحقق في الوضع الراهن للطبقات الشعبية)، لا بد من تحليل الأساس الذي أفضى إلى انفجار الانتفاضات العربية، وذلك ليس انتقاصاً من ضرورة تحقيق الديموقراطية، أو ربما من أجل بناء نظم ديموقراطية مدنية. فليس من الممكن تأسيس استقرار سياسي دون حل المشكلات التي أفضت إلى هذا الانفجار الكبير.
إذن، هل الأساس هو السياسي أو الاقتصادي؟ ليس السؤال أيديولوجياً، ولا يجوز أن يتخذ هذا المنحى، فالمسألة تتعلق بفهم عمق الأزمة التي أفضت إلى انفجار الانتفاضات من أجل فهم كيفية الوصول إلى بناء دولة ديموقراطية. مثلاً في البلدان الاشتراكية كان الاستلاب السياسي هو الذي يحكم الشعب، وبالتالي كانت الديموقراطية هي الحل الحقيقي لوضعها (رغم أنّ ارتباطها بالترسمل أفضى إلى انهيار اجتماعي كبير). هل الاستلاب السياسي هو الذي يحكم الشعب في البلدان العربية؟
في تلك البلدان كان التطوّر الصناعي، وتعميم التعليم، قد وصلا إلى كل التكوين المجتمعي، وهما ما أسّسا الشعور بالاستلاب. بمعنى أنّ تلك المجتمعات كانت قد حققت نقلة في تطوّرها في ظل الاشتراكية افترضت تحقيق الفردية، وبالتالي الديموقراطية. هل نحن في هذا السياق؟
بالتأكيد لسنا كذلك، لأنّ النمط الاقتصادي الذي تكوّن هو نمط ريعي، خلق حالة نشاط كبير في قطاع ضيّق من الاقتصاد، وهمّش القطاع المنتج، وبالتالي الكتلة الأكبر من المجتمع. ترافق ذلك مع انحدار التعليم وتوسّع الأمية، وغياب السياسة كثقافة، وأيضاً كأحزاب فاعلة. وإذا تلمسنا تحوّلات العقد الأخير نلاحظ «ضعف» الدكتاتورية، وتوسّع النخب التي تخوض الصراع ضدها. وكانت معظم البلدان العربية تشهد سماح نشاط الأحزاب تحت بند تحقيق الديموقراطية، والسماح بحرية الصحافة في مستوى معيّن. وأسهم ضغط العولمة في «انضباط» بعض النظم التابعة في تعاملها «الديموقراطي». حتى نظام كالنظام السوري سار نحو «قوننة» الاستبداد، و«تخفيف» وطأته.
في الوقت ذاته، كان الانهيار الاقتصادي يتصاعد، وعملية التهميش نتيجة تصاعد البطالة وتوسّع الفقر، وتهميش مناطق بأكملها، تصبح هي السمة العامة. وهنا سيكون المؤشّر هو انحدار متسارع كان يجعل كتلة كبيرة من المجتمعات دون مقدرة على العيش. ولهذا كان التحليل الاقتصادي الذي يتناول هذه العملية يوصل إلى أنّ هذه المجتمعات على شفير الانفجار، بينما كان المنطق الليبرالي يظن أنّ الضغط السياسي على النظم سوف يجعلها أكثر ديموقراطية، أو يميل البعض إلى الدفع باتجاه التدخل «الدولي» لتحقيق الدمقرطة.
في هذا الوضع لا بد من أن نتلمس أنّ التحوّل الذي أفضى إلى انفجار الانتفاضات هو طبيعة التكوين الاقتصادي الذي تكوّن بالترابط مع هيمنة الطغم المالية الإمبريالية التي باتت تنشط بالمضاربة وكل أشكال النشاط الريعي، أو القائم على النهب، إذ تهمّشت مجتمعات ونهبت، وجاءت المضاربة على السلع الغذائية سنوات 2007 و2008، ثم الأزمة المالية في 2008 لكي تجعل الاحتقان الذي كان يتصاعد خلال السنوات السابقة يصل إلى حدّ الانفجار. وهو الوضع الذي يجعل العدد الكبير من بلدان العالم مهيّأة لحدوث انفجارات اجتماعية كما نشهد اليوم في جنوب أوروبا، أو حتى في أميركا.
من السهل أن نرى أنّ هدف الانتفاضات هو تحقيق الديموقراطية، لكن ليس من السهل حل مشكلة العاطلين من العمل أو الذين لا يستطيع أجرهم مساعدتهم على العيش، أو تعليم أولادهم، أو حتى طبابتهم. فالانتفاضات يجب أن تؤسس لبناء نظم مدنية ديموقراطية، لكن لن يتحقق ذلك إلا بحل مشكلات الطبقات الشعبية، ومشكلات البطالة والأجر والتعليم والطبابة، وبالتالي إعادة بناء الوضع الاقتصادي بما يجعله يتجاوز طابعة الريعي نحو تحويله إلى اقتصاد منتج.
وبالتالي، فإذا كان الليبراليون يريدون حصر الانتفاضات في حدود تغيير شكل النظم السياسية بتشكيل دولة ديموقراطية، وهذا ما لا يبدو ممكناً في وضع مأساوي لقطاع مجتمعي كبير، فإنّ الحل الحقيقي يشير إلى أنّه ليس من إمكان لبناء دولة مدنية ديموقراطية دون بناء اقتصاد منتج، وتحقيق مطالب الطبقات الشعبية. هنا الفرق بين الفهم السياسوي للانتفاضات والفهم «الاقتصادي» لها. فهذا الأخير يفرض إعادة بناء كلية المجتمع لا تغيير شكل السلطة فقط.
* كاتب عربي