لا يدور في فراغ، السجال الحاد والمستمر، حول وجود أو عدم وجود تنظيم «القاعدة» في لبنان. يتصل ذلك الأمر اتصالاً وثيقاً بمجريات الوضع في سوريا، وبانعكاسات تطوّرات الوضع السوري على الوضع في لبنان. كذلك فإنّ هذا السجال يتناول ضمناً أو علانية، ما يجب أن يكون عليه موقف السلطة في لبنان وموقف أجهزتها الأمنية من الأحداث في سوريا، سياسياً وأمنياً. وفي امتداد ذلك، يعكس هذا السجال التباين الحاد حول الموقف الرسمي والشعبي اللبناني من القضايا العملية والساخنة، غالباً على الحدود بين البلدين: قضية تهريب الأسلحة والأشخاص، وقضية المهجرين واستخدامها أو عدم استخدامها، وقضية التواصل الإيجابي أو السلبي بين القرى والبلدات المتجاورة والمتداخلة والمتاخمة على جانبي الحدود...بالنسبة إلى الطرف اللبناني الحليف لسلطات دمشق، فإنّ تصنيف النشاط عبر الحدود، بأنّه نشاط يقوم به تنظيم «القاعدة»، يؤدّي عدّة أغراض دفعة واحدة. فهو من جهة أولى، يضفي طابعاً إرهابياً على جزء مهم من الاحتجاجات الموجهة ضد النظام في سوريا. وهذا التصنيف يُفترض به أن يُضعف من المشروعية الشعبية للاحتجاجات وللمطالب بسبب الموقف السلبي العام المعروف، دولياً وإقليمياً ومحلياً، من تنظيم «القاعدة» ومن برنامجه وأساليبه. ومن جهة ثانية، فإنّ هذا التصنيف يستدعي تحرّكاً سريعاً من السلطة اللبنانية لضبط ومراقبة الحدود السورية ــــ اللبنانية. يفترض ذلك حكماً التنسيق مع أجهزة النظام السوري وفق الاتفاقيات الموقعة، وبما يتجاوز هذه الاتفاقيات، تبعاً للحاجة أو لدرجة الخطر، كما حدث ويحدث حين تتقدّم قوات أمن سورية إلى بعض القرى والأراضي اللبنانية القريبة من الحدود، من أجل مطاردة مشبوهين أو مهربين أو مطلوبين سوريين غالباً...
وبالنسبة إلى الطرف المعادي للنظام السوري، فإنّ العكس هو ما يصحّ تماماً. فما يجري في سوريا، هو حلقة من حلقات «الربيع العربي» وفق النسخة الخليجية تحديداً. وهو لذلك يستحق الدعم والتأييد، بكلّ الأشكال الضرورية، بما في ذلك الأشكال المادية والأمنية، وصولاً إلى احتمال إقامة «مناطق آمنة»، هي نصيب لبنان من مناطق مشابهة يمكن أن تقوم على الحدود مع تركيا أو الأردن...
ولقد تفاقم أمر هذا السجال حين تركّز على التفجيرين الأخيرين اللذين وقعا في دمشق بعيد وصول المراقبين العرب إليها في 27 الشهر الماضي. السلطات السورية اتهمت «القاعدة» معزِّزة اتهامها بما نقله بعض الأجهزة اللبنانية إليها من تسلل عناصر في التنظيم إلى سوريا قبل أيام من التفجيرين. أما رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، فلم يتردّد، من السعودية، حيث مقرّه الأساسي في منفاه الاختياري، في اتهام النظام السوري بالتفجيرين المذكورين.
لا مكان للمنطق والمصالح الوطنية الكبرى في توجيه السجال وفي انطلاقه من الأساس. فتضخيم دور القاعدة من قبل النظام السوري، لن يصمد في وجه اتساع الاحتجاجات واستمرارها ومشاركة مئات الآلاف فيها. وكذلك فإنّ نفي وجود «القاعدة» طرفاً في بعض الاستهدافات العسكرية للقوات النظامية السورية، أمر لا يقبله أيّ عقل.
الخطير في هذا السجال وما يعبّر عنه من انقسامات، هو إضفاء البعد المذهبي عليه من قبل أحد الطرفين، أو من كليهما. فهذا يعني، إما التعامل مع بعض المناطق، بالكامل، بوصفها مناطق «معادية» بالنسبة إلى النظام السوري وحلفائه، وإما من الجهة المقابلة، السعي إلى زجّ هذه المناطق، بوصفها ذات أكثرية من لون مذهبي معيّن، إلى الانخراط والتورّط الكاملين في الشأن السوري الداخلي. وهذا بالطبع سيترك انعكاسات سلبية تزداد بالاتساع والتفاقم، على مجمل الوضع الداخلي اللبناني.
يقتضي هذا السياق، أن نشير إلى أنّ الدور السوري في لبنان، لم يكن بسيطاً ولم يكن محايداً: لا في مرحلة الإدارة السورية المباشرة للبنان، ولا قبلها، ولا بعدها. وهذا الدور يحتاج إلى مراجعة وإلى تعديل باتجاه إقامة ما هو متوازن وسليم من العلاقات، لكنّ الردّ أيضاً على هذا الخلل، لا ينبغي أن يكون من الطبيعة ذاتها، وخصوصاً أنّ لبنان هو الطرف الأضعف، فضلاً عن انقساماته التقليدية والجديدة التي تزداد يوماً بعد يوم على إيقاع التطوّرات الإقليمية المتسارعة والساخنة.
وينبغي هنا توجيه لوم أكبر إلى من هو، راهناً، في موقع الهجوم والتشفّي والانتقام والاستثمار في دفع الصراع في سوريا بغرض إطاحة النظام الحالي، دون ضوابط أو حدود. ويصبح هذا الأمر على مستوى أعلى من الخطورة حين يتخذ مثل هذا الموقف طابع الانخراط المباشر في الصراع الداخلي في سوريا. ولقد بلغ البعض في هذا التورّط مرحلة متقدّمة تتجاوز التحريض إلى المسائل العملية واللوجستية والمالية، بما في ذلك ما يتردّد من أخبار عن تهريب سجناء من جماعة «فتح الإسلام» من بعض السجون اللبنانية إلى الداخل السوري.
وفي هذا السياق، لا يتردّد الدكتور سمير جعجع في أن يدلي بكامل «الرواية»: السنة الجارية ستشهد سقوط النظام السوري «الأمر الذي ستكون له انعكاسات كبيرة على الوضع في لبنان، وسينتج منه ميزان قوى آخر... إنّ سنة 2012 هي وقت القطاف».
طبعاً، هذا كلام قاطع في وضوحه لجهة التورّط في الوضع السوري والمراهنة على إسقاط النظام هناك، من أجل تغيير موازين القوى لغير مصلحة حلفائه في لبنان. بالتأكيد يؤشّر هذا الكلام وسواه من المواقف والتصرّفات، إلى مجازفات خطيرة قد يقع فيها الوضع اللبناني. فالوضع في سوريا شديد التعقيد، والأزمة هناك قد تطول. وهذا يرجّح أن يحصد لبنان قبل «القطاف»، الذي يعد السيّد جعجع نفسه به، الكثير من المشاكل الداخلية التي، إذا أُضيفت إلى مشاكل أخرى قائمة ومتراكمة وساخنة، قد تدفع الوضع اللبناني إلى ما لا تُحمد عقباه.
إنّ الاندفاع الأعمى في الرهانات على التطوّرات الخارجية وإهمال مستلزمات المحافظة على الحدّ الأدنى من الوحدة الوطنية، هو أمر بالغ السوء على لبنان اليوم، كما كان الأمر في السابق. وفي رصيد الأطراف جميعاً، ما يكفي من الاختلالات، وحتى من الخيبات (فضلاً عن خسائر لبنان على نحو دائم)، لإجراء جردة حساب جدية واستخلاص العبر من الماضي البعيد والقريب. إنّ التوظيف أو «القطاف» المطلوب، هنا، هو في إعطاء أولوية للمصلحة الوطنية بعيداً عن المكاسب المباشرة والمؤقتة والفئوية. والمصلحة الوطنية تبدأ من «لملمة» الوضع اللبناني المنقسم، ومن السعي إلى عدم مفاقمة هذا الانقسام، وخصوصاً، عدم تورّط السلطة وأجهزتها في أيّ عمل أو نشاط فئوي. إنّ مسألة اجتياز خطوة أو بضع خطوات على طريق تأسيس علاقات سورية ــ لبنانية من نوع جديد، هي مهمة وطنية. وسيكون مهماً أيضاً أن يباشرها لبنان في مرحلة المحنة السورية الراهنة. ذلك هو «القطاف» الأفضل والأصح الذي لا يستفيد منه الدكتور جعجع وفريقه فحسب، بل يقربنا من هدف تعزيز الوحدة الوطنية، من جهة، وهدف إقامة العلاقات السورية ــ اللبنانية على أسس متوازنة وسليمة، من جهة ثانية. إنّ القطاف المطلوب هو ذاك الذي يخدم المصالح اللبنانية العامة، لا المصالح الفئوية الخاصّة!
* كاتب وسياسي لبناني