يذكر العربي يوم أمسك ببندقيّة الكلاشنيكوف للمرّة الأولى كما يذكر أوّل قبلة. (صحّح لي قارئ ذلك عندما كتبت الخاطرة على «فايسبوك» وعلّق أنّ هذا يصلح لجيلي، لكن الأجيال اللاحقة افتننت بـ«البلاي ستيشن» و«إكس بوكس» أكثر من أي شيء آخر). هناك علاقة عضويّة بين الزمن العربي في الستينيات والسبعينيات والكلاشنيكوف الذي ملأ الأغاني والأشعار والهتافات والمخيّلة. قد تكون البندقية تلك من رموز الثقافة العربية المعاصرة.
وعى غسان كنفاني، الذي لم يحمل السلاح قط (لا يميّز العدوّ الإسرائيلي بين حملة السلاح وبين حملة الأقلام والريشة والألوان)، القيمة الجماليّة للبندقيّة فأدخلها في الملصقات والأغلفة واللوحات الفنيّة وفي التحشيد الإعلامي. تبعه فنانون آخرون حول العالم. الكلاشنيكوف مثله مثل شجرة البلح والجِمال في زمن غابر: تلخيص للحالة العربية. البندقيّة أنعشت الآمال بعد هزيمة 1967 وأطلقت تحدّياً ضد الأنظمة العربيّة ورعاتها حول العالم. إعلام آل سعود وإعلام الصهاينة الغربي (ليس هناك أي فرق بيْن الإعلاميْن هذه الأيّام وهذا حسن لأن أكاذيب ادّعاء آل سعود قبل سنوات كانت مُضلّلة للبعض في الإعلام العربي) شنّ حملة شعواء على شهيد البندقيّة، ميخائيل كلاشنيكوف، وعلى البندقيّة نفسها. جريدة «ذي نيويورك تايمز» و«ذي واشنطن بوست» ربطتا بين البندقيّة والإجرام، مع أن الإجرام والسرقة المُسلحّة في أميركا لا يستخدمان الكلاشنيكوف بقدر ما يستخدمان مسدّسات أميركيّة الصنع.
زها ميخائيل ببندقيّته حتى آخر أيّامه، ولم يأبه لمن عاب عليه أنه لم يجنِ ملايين من الدولارات منها. لم يكن هذا هدفه. حافظ الرجل على انتمائه الاشتراكي بالرغم من التحوّلات الكبيرة التي لحقت ببلاده واستفزّ الغرب في ثنائه على لينين وستالين (كان عليه أن يثني على بوش). لم تدخل البندقيّة إلى ساحة الحروب إلا في الخمسينيات، وكانت سلاحاً فعّالاً في حروب التحرير الشعبيّة حول العالم. يستحق الرجل أن تُبنى له تماثيل في ساحات المدن الرئيسية في أفريقيا والعالم العربي وآسيا وأميركا اللاتينيّة. حرب فيتنام كانت في جانب منها منازلة بين الـ«إم. سيكستين» الأميركيّة والكلاشنيكوف الروسيّ. تفوّقت الأخيرة بأشواط وأذلّت القوّات المسلّحة الأميركيّة التي لم توفّر سلاحاً فتاكاً في وحشيّتها ضد البلد الفقير. كانت الـ«إم سيكستين» (الأغلى ثمناً) تعاني من الصدأ ومن الأعطال وسرعة العطب، فيما أثبت الكلاشنيكوف سهولة الاستعمال في بيئات مختلفة ومتنوّعة وفي الوحول والمياه والثلوج. محطة «العربيّة» (الناطقة باسم ورثة الملك فهد بن عبد العزيز صاحب مشروع التنوير الذي ألهم عدداً هائلاً من الليبراليّين المترامين بذلّ في مضارب أمراء النفط والغاز) قالت عن الكلاشنيكوف إنّه «أكثر الأسلحة فتكاً بالبشر». جريدة «الحياة» (الناطقة باسم الأمير التنويري خالد بن سلطان ووارثه في الجريدة، فهد بن خالد بن سلطان) قالت إنه سلاح «هجومي» مع أن صانعه أراده دفاعيّاً، وكأن البندقيّة الخلاّقة لا تصلح للدفاع. إعلام النفط السعودي يعتبر البندقيّة الروسيّة هجوميّة فيما يعتبر أسلحة الدمار الشامل الإسرائيليّة برداً وسلاماً على المنطقة العربيّة. يريد إعلام آل سعود أن يقول إنّ قنابل أميركا النوويّة وقنابل النابالم الحارقة وطائرات الـ«إف 16» الإسرائيليّة التي تقصف لاجئين من دون سقوف هي رؤوفة وحنونة على الأطفال. وينسى إعلام آل سعود أنّ تلك البنادق عينها دفعت هي وأميركا ثمنها لتعين بن لادن ورفاقه من الظلاميّين في الحرب ضد الشيوعيّة في أفغانستان. كمذلك فإن أميركا ابتاعت شحنات من بنادق الكلاشنيكوف لتعين مجرمي الحرب اليمينيّين في قتالهم، في نيكاراغوا. لم تكن وجهة البندقيّة دائماً واحدة.
هناك سحر وقدسيّة وبهاء لبندقيّة الكلاشنيكوف. الجمالية والبساطة في التصميم توازيان الفعاليّة. من باب ردّ الجميل، دخل رسم البندقيّة في علم زيمبابوي. كان رسم الكلاشنيكوف يملأ جدران بيروت في سنوات الحرب الأهليّة قبل أن يصادر هذا السلاح أوغاد استخبارات الأنظمة العربيّة والغربيّة والإسرائيليّة. أما في نضال المنظمات الفلسطينيّة في عصر الكفاح المسلّح (الذي يبدو غابراً بعد استسلام حركة «فتح» وبعد بهلوانيّات خالد مشعل العرفاتيّة) فالكلاشنيكوف غالب. يظهر في الملصقات والإعلام والرموز والهتافات والأغاني. وفي مرحلة لاحقة دخلت البندقيّة تلك في علم حزب الله أيضاً، ربما اعترافاً بإلهام المنظمات الفلسطينيّة الثوريّة له. البندقيّة تلك رفعت من الشأن العربي في مرحلة الستينيات، خصوصاً بعد هزيمة الأنظمة العربيّة. لكنّ هناك أسباباً أخرى لصعود نجم الكلاشنيكوف.
ليس هناك سلاح أشهر منه. مراسل «ذي نيويورك تايمز»، سي. جي شيفرز، أفرد له سيرة خاصّة به في كتاب بعنوان «السلاح». اسمه لا يحتاج إلى تعريف أو تفصيل أو إطالة. معظم الحروب الأهليّة التي خيضت منذ الستينيات حتى عصرنا الحالي خيضت ببندقيّة الكلاشنيكوف، كما أن منظمة الأمم المتحدة قدّرت أن 46 من 49 من النزاعات المُسلّحة في التسعينيات خيضت بهذا السلاح. هذا السلاح يصلح للأسف أيضاً في حروب الإجرام والتطهير العرقي والطائفي والميليشيوي. لا، ليس هذا السلاح مقدّساً دوماً بغير ما أراد له صانعه الثوري. هناك في ميليشيا لحد من حمل الكلاشنيكوف. كان السلاح الفردي قبل عصر الكلاشنيكوف بدائيّاً. الحرب الأهليّة اللبنانيّة في عام 1958 كانت في جانب منها (الصف المناهض لشمعون) تُخاض ببنادق من العهد العثماني (كان الفريق الشمعوني _ الكتائبي يتلقّى سلاحه من دول الغرب ومن العدوّ الإسرائيلي). الحروب كانت تُخاض بسلاح معدّ للدول. لم يكن السلاح الفردي أكثر من مسدّس (حربي، كما كان يُسمّى) وبندقيّة صيد. كانت الكفّة راجحة لمصلحة الدول والاستعمار. غيّرت بندقيّة الكلاشنيكوف كل ذلك. أعطت دفعاً للفريق المناهض للدولة (واستعملته في هذا السياق العصابات اليمينيّة الرجعيّة التي حاربت _ وتُحارب _ باسم أنظمة النفط والغاز وحكومات الغرب. لكن لا يمتّ الكلاشنيكوف بصلة إلى هؤلاء حتى لو حملوه في غير مقصده. قصته في عالمنا العربي قصّة مختلفة).
إنّ نصر فيتنام أعطى جرعة معنويّات قويّة لحركات التحرّر العالميّة. ولم يتمتّع الفيتكونغ بأسلحة متطوّرة. كان السلاح الأميركي الحديث يواجه الكلاشنيكوف. وعلى أرض المعركة، يتواجه مع عدوّته الـ«إم. سيكستين» التي كان يحملها الجنود الأميركيّون ويعانون من أعطالها مع تقلّبات الطقس والتضاريس الأرضيّة. لكن كان قرار نشر الكلاشنيكوف وقرار تلزيم تصنيعه محليّاً (حتى في مصر) قراراً سياسيّاً شجاعاً من قبل الاتحاد السوفياتي. مع كل مآخذنا العميقة والبالغة على الاتحاد السوفياتي منذ قرار تقسيم فلسطين حتى ضغوطه على الحكومات العربيّة الحليفة وعلى المنظمات الفلسطينيّة من أجل القبول بالقرار 242، ومن ثم القبول بوجود الكيان الإسرائيلي، فإن الاتحاد السوفياتي، مع تقطيره في تصدير أكثر أسلحته تطوّراً، كان راعياً لحركات التحرّر العربيّة كما كان راعياً من خلال برنامج سخي من المنح لنشر التعليم العالي والتقني في أوساط طبقات لم تكن تحلم بالحصول على شهادات الطب والهندسة في الجامعات المحليّة. إن قرار نشر تصنيع الكلاشنيكوف على مستوى عالمي كان قراراً بنشر الرعب في أرجاء دول الاستعمار الغربي. للكلاشنيكوف (أو الـ«كلاشن» _ اسم التحبّب الذي أطلقه عليه ثوّار فلسطين) فضل كبير على كل المعارك العسكريّة التي خاضتها القوات الوطنيّة اللبنانيّة والفلسطينيّة.
الـ«كلاشن» أصبح منذ الستينيات رمزاً للثورة الفلسطينيّة. من لا يذكر تلك الصورة الخالدة لليلى خالد التي ألهمت رجالاً ونساء حول العالم العربي (لا يزال هناك طلاب أميركيّون وأميركيّات يبدون رغبة في إعداد دراسات جامعيّة وأوراق بحثيّة عن ليلى خالد التي تحوّلت إلى الحريريّة لبضع سنوات لأسباب لا ينبغي الخوض فيها احتراماً لتراثها الثوري). وهناك صور لقادة الثورة الفلسطينيّة من البهلوان، ياسر عرفات، إلى العظيم جورج حبش وغيرهما وهم يتأبطون البندقيّة الثائرة في الستينيات والسبعينيات. كانت العلامة الفارقة في ذلك الزمن. من لا يذكر ملصقات شهداء القضيّة الفلسطينيّة التي تحمل صور الثوّار _ قبل استشهادهم _ وهم يتأبطون الكلاشنيكوف في آخر صورهم التي تصبح أيقونات مع أن طفرتها في سنوات ما قبل الحرب الأهليّة وما بعدها كان توحي باستسهال مفرط في تدبير عمليّات استعراضيّة غير معدّ لها جيداً. كانت تلك العمليّات غالباً تعدّ من أجل الاحتفال بعيد تلك الجبهة وهذا الحزب. من لا يذكر أوّل ملامسة حسيّة لبندقيّة الكلاشنيكوف. من كان في جيلي لا من جاء بعده يذكر التجربة بتفاصيلها. تكاد تذكّر بأوّل تجربة جنسيّة للرجل (أو للمرأة لكن لا يحقّ لي التكلّم بالنيابة عنها). إنّ ملامسة الأخمص كانت مثل ملامسة أوّل نهد للفتى أو الرجل. كانت البندقيّة تمثّل لأبناء ذلك الجيل الارتقاء من مرحلة الشعارات عن الثورة وعن التغيير الجذري إلى مرحلة المشاركة في العنف المسلّح (كان يمكن أعضاء الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي أن يمرّوا في التنظيم ويتدرّجوا في العضويّة من دون أن يكونوا قد تعلّموا الرمي بالمسدس أو بالبندقيّة _ كان الحزبان يمارسان نوعاً من تقسيم العمل حيث القتال يُمارسه الفقراء من الجنوب وبعلبك والبقاع والشمال، فيما يقوم أبناء المدارس والجامعات الخاصّة بمهمات التنظير العقيم والهتاف الموسمي في التظاهرات). لم يبدأ تدريب عسكري على أيّ مستوى إلا بالحديث عن الكلاشنيكوف. والتدريب الأوّلي كان كناية عن درس في كيفيّة تفكيك وإعادة تركيب هذه البندقيّة. وكان بعض الثوّار يتبارون في سرعة التركيب، وكان هناك من يفكّك ويركّب وهو معصوب العينيْن (كنت أتساءل عن المغزى، لكن ذلك كان مفهوماً في عصر سبق زمن المناظير الليليّة). وليس من المبالغة القول إن انتشار بندقيّة الكلاشنيكوف في لبنان منذ الستينيات غيّر موازين القوى الداخليّة. لم تعد الدولة اللبنانيّة الظالمة تحتكر السلاح الذي كان مُحايداً في الصراع مع العدو الإسرائيلي ووحشيّاً ضد المدنيّين وضد المخيّمات الفلسطينيّة. حزبا الكتائب والأحرار كانا يتلقّيان تسليحاً سريّاً من دول الغرب وإسرائيل والنظام الأردني (وهو ليس أكثر من فرع محلّي عربي للحركة الصهيونيّة منذ إنشائه من قبل الغرب). البندقيّة تلك هي التي ناصرت العمّال والمزارعين والفقراء والطلاب في انتفاضاتهم المتوالية. ولدخول بندقيّة الكلاشنيكوف في الحياة السياسيّة اللبنانيّة فضل من الثورة الفلسطينيّة على لبنان. لولاها لكانت سيادة القوى الفاشيّة في لبنان حتميّة وأبديّة. كان الدخول الأوّل لبندقيّة الكلاشنيكوف ذا هالة برّاقة. كان عنوان ثورة واعدة علّق عليها من كان في جيلي ومن كان في جيل سبقني الآمال الكبار. لكن هالة البندقيّة تلك تقلّصت إن لم تكن أزيلت بعد نشوب الحرب. باتت عنواناً للتسلّط الميلشيوي (الفلسطيني واللبناني والسوري). هذه البندقيّة تحدث في نفس حاملها _ ما لم يعِ ذلك _ تضخيماً للذات. كنتَ عندما تحمل البندقيّة تشعر أن الرجل _ بالمعنى البطريركي _ فيكَ تعاظم، البندقيّة يمكن أن تجعل قامة الرجل أكثر طولاً وعضوه أكبر حجماً وصوته أعلى نبرة وقبضته أكثر تماسكاً. هل كان هذا السبب في حدوث تلك التجاوزات التي شابت تجربة الثورة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة في لبنان (لن ندخل في موضوع ميليشيات الفاشيّة اللبنانيّة لأنها هي، تعريفاً وحكماً، تجاوز أخلاقيّ ووطنيّ وقوميّ)؟ تراجع صيت الكلاشنيكوف بعدما تحوّلت الحركات الُمسلّحة اللبنانيّة في المنطقة الغربيّة إلى عصابات «أمل» و«المرابطون» والحزب التقدمي الاشتراكي. والذي تحرّر في الجنوب على يد الكلاشنيكوف الفلسطيني ثار ضدّه في ما بعد.
الذي كان يرابط في، أو حتى يزور، مكاتب منظمات الثورة الفلسطينيّة يذكر كيف كانت صناديق الكلاشنيكوف تصل إلى تلك المكاتب وتلقى الترحاب الكامل. بعض الأحزاب الفقيرة نسبيّاً، مثل حزب العمل الاشتراكي العربي _ لبنان كانت تحصل على بناديق كلاشنيكوف بلغاريّة الصنع ذات الأخمص المصنوع من البلاستيك المضغوط. لوهلة كنتَ تظنّ أن لعبة وقعت بين يديك، لكن تلقيم المخزن بالرصاص يقنعك بالعكس. ميخائيل كلاشنيكوف رمز من أهم رموز الثورة في القرن العشرين. للرجل أيادٍ بيضاء على قارات أربع في أقل تقدير. مصنوعاته ألهمت وأعطت دفعاً لصناعة الثورة في بلاد عديدة. لولاها لكانت الفرق والحركات الثوريّة في حالة عدم توازن عسكري رهيب. البديع في إنتاج الكلاشنيكوف (يُقدّر عدد إنتاجه بأكثر من 100 مليون قطعة) أن سهولة الصنع والانتشار ساهمت في إعداد جيوش معارضة مسلّحة متناسقة ومتوازية. يكفي أن تجمع دزينة من الرجال (والنساء في بعض الأحايين) وتعطيهم بنادق كلاشنيكوف حتى يبدون كأنهم جيش تحرير شعبي على وشك تحرير العاصمة من حكومة فاشيّة.
إن حركات التحرّر العربي في الصحراء الغربيّة وفلسطين والجزائر والأردن واليمن ولبنان اعتمدت على البندقيّة الساحرة. لولاها لكان عنصر الجذب والتجنيد غير ما كان عليه. كان هناك في صفوف المنظمات بنادق أخرى، وهناك من اقتنى لنفسه بندقيّة «إم. سيكستين» لكن ذلك كان من باب التمايز ليس إلا. لكن الكلاشنيكوف غلب، وكان الذي تصله (بسبب النقص) أحياناً بندقيّة غيرها يمتعض. مرّة في دورة تدريبيّة وصلت بندقيّة سيمونوف إلى أحد الرفاق. ثار كيف لا يتسلّم بندقيّة الكلاشنيكوف. عبثاً حاول المدرّب إقناعه بالعكس، مثنياً على قدراتها القنصيّة وعلى حسن أدائها في الثورة الصينيّة. الكلاشنيكوف كانت العنوان الذي لا بديل منه للثورة.
تعاقبت الأجيال وفشلت ثورات وتوقّفت حروب أهليّة ودور الكلاشنيكوف لم يتغيّر. يطلّ في كل الحروب الجارية في العالم العربي، من سوريا إلى ليبيا إلى العراق وطرابلس. والكلاشنيكوف بارز أيضاً في حروب الواسطة: عندما تعمد دولة عربيّة أو غربيّة إلى التدخّل في حروب أهليّة، تكون شحنات الكلاشنيكوف من أوّل الواصلين (مثلما يجري في سوريا _ يُسأل «فرع المعلومات»، وهو فرع للاستخبارات السعوديّة خارج نطاق الدولة في لبنان، وقد تحدّثت كل وسائل الإعلام الغربيّة الرصينة والأقل رصانة، مثل «إيكونومست» و«ذي نيويورك تايمز» عن دور وسام الحسن في تهريب السلاح إلى سوريا بأمر سعودي أميركي. لكن الحديث هذا ممنوع عن الصحافة اللبنانيّة).
ولقد سلبت الأنظمة الغربيّة وحليفاتها الرجعيّة بعضاً من سحر البندقيّة عبر توزيعها واستعمالها من قبل ميليشيات فاشيّة وإسرائيليّة. كان العدوّ الإسرائيلي يستولي على شحنات البندقيّة ومخازنها في مستودعات المنظمات الفلسطينيّة في لبنان ثم يعيد توزيعها على ميليشيا جيش لحد أو يعطيها لميليشيات أميركا اليمينيّة حول العالم. بعض بنادق الثوّار في لبنان وفلسطين انتهى في أفغانستان في واحدة من أكثر الحروب العالميّة رجعيّة _ تلك التي ولّدت بقابلة قانونية أميركيّة _ سعوديّة منظمة القاعدة.
لن تذرف الأنظمة العربيّة الدموع على ميخائيل كلاشنيكوف. والسلطة الفلسطينيّة في منأى عن هذا الحدث الجلل. الرجل اعتنق العروبة من دون أن يدري، وأكثر بكثير من هؤلاء الذين يسوّقون لعقيدة طائفيّة رجعيّة تحت ذريعة العروبة. السلطة الفلسطينيّة تحب السلام _ أوّاه _ لكنها لا تتورّع عن استعمال الكلاشنيكوف ضد الذين يثورون ضدّها _ ومن دون بندقيّة _ في رام الله. حزب الله يضع علامة البندقيّة على علمه، لكنه لن يكرّم الرجل على الأرجح لأنه كان شيوعيّاً. والمنظمات التي كانت تلهج بحمد البندقيّة الثوريّة إما تقاعدت عن الثورة أو أنها تبنّت عقيدة «النضال الحضاري» الذي لا يثير حفيظة الرجل الأبيض لأنه يعزّز مواقعه.
لا حاجة إلى كتابة بكائيّة في بندقيّة الكلاشنيكوف. لا حاجة إلى المراثي. هناك أكثر من 100 مليون قطعة كلاشنيكوف حول العالم وإنتاجها لن يتوقّف أبداً. لكن غرض الاستعمال تغيّر بين منطقة وأخرى، وعرف المُستعمر كيف يجيّر الاختراع لمصلحته هو. لكن الأجيال الجديدة وهي تمسك بألعاب «بلاي ستيشن» وغيرها قد تكتشف أن التحكّم في البندقيّة على شاشة تلفزيونيّة لا يحرّر الأرض ولا يقلب نظاماً. على العكس، قد تكون تلك الألعاب البديل المقصود من أجل فرض سيادة الظالم والطاغية.
تفتّحت عيون على تلك البندقيّة وانتقلت عبرها أجيال من سن الحداثة إلى رجولة (حقيقيّة أو متخيّلة). إن الآمال التي تولّدت بعد هزيمة 1967 ما كانت ممكنة لو لم تكن بندقيّة الكلاشنيكوف متوافرة وبكثرة بيننا، وبدعم من قبل الأنظمة الاشتراكيّة حول العالم. كانت هي تنغّص لللأنظمة الرجعيّة حكمها وتنغّص _ ولا تزال _ على الاستعمار استعماره. يموت ميخائيل كلاشنيكوف لكنه يموت عربيّاً قحاً، ومن دون أن يدري هو، ومن دون أن يدري الكثير من العرب. فتحيّة تقدير له، وزخّات من رصاص تلك البندقيّة التي شارك (بصورة أساسيّة) في تصميمها. مات هو لتحيا هي.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)