أكبر وأشهر مخيمين للاجئين والنازحين الفلسطينيين في الأردن، مخيم «الوحدات»، شرقيّ العاصمة عمان، ومخيم «البقعة» غربيها، يلخّصان السيرورة الواقعية الحياتية لحضور اللجوء الفلسطيني في المملكة التي تضم أكبر نسبة من الفلسطينيين، بعد فلسطين نفسها. «الوحدات» الذي تحوّل إلى رمز فلسطيني داخلي ـ لأسباب عديدة بينها فريقه لكرة القدم ـ تحول إلى حيّ للعمال الوافدين والمهمشين وسوق وفضاء للمشاغل والنشاطات غير القانونية، بينما تركه سكانه الفلسطينيون إلى الإقامة في ملكيات عقارية توصلوا إلى امتلاكها في المناطق المجاورة وأحياء عمان الشرقية وبعض الغربية. بالمقابل، لا يزال مخيم «البقعة» مكتظاً باللاجئين والنازحين، ومحتفظاً بحيويته كمخيم فلسطيني لا يتخلى عن هويته السياسية. حال المخيمين هذه ربما انطبقت على وضع الفلسطينيين ككل في الأردن، بين اندماج لا يزال خداجاً، وهوية فلسطينية لا تزال حارة. وإذا كان اتجاه التفاوض الفلسطيني (ومن ورائه الأردني) يستند إلى المآل الحالي لمخيم «الوحدات»، لتجاوز قضية اللاجئين في المفاوضات مع إسرائيل، فإن نموذج مخيم «البقعة» ينتصب عقبة كأداء في مواجهة حل للقضية الفلسطينية، لا يأخذ بالاعتبار، قضية اللاجئين، بوصفها قضية سياسية. الباحث الأنثروبولوجي الأردني المعروف، أحمد أبو خليل، يضيء، في النص التالي، على نموذجي «الوحدات» و«البقعة»
قضايا المشرق | قد تكون جولة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الحالية، الجولةَ الأبرز في مستوى تجاوزها لقضية اللاجئين. يبدو أن قدراً من «الجرأة» قد تشكّل لدى المتفاوضين، وخاصة المتفاوض الفلسطيني، بحيث إنه لم يعد يرى ضرورة، حتى للحد الأدنى من المجاملات الإعلامية للاجئين، التي كان المفاوض، في ما سبق، يحرص عليها.

يحصل هذا مع أن هناك ما يشبه الإجماع على أن قضية اللاجئين (والعودة)، تشكل العنصر الأهم في مجمل القضية الفلسطينية، بل هناك ما يشبه الإجماع أيضاً على أن «الوطنية الفلسطينية» في صيغتها المعاصرة نشأت، وصنعت مفاهيمها ورموزها في أوساط الشتات الفلسطيني. بل يوجد ما هو أخطر. إن سياق المفاوضات أخذ يستقل تماماً عن السياقات الاجتماعية، والاجتماعية/ السياسية، لجمهور الشعب الفلسطيني، وخاصة ذلك الجمهور الموجود في الشتات. إن ما يربو على عشرين سنة من التفاوض قَضَمَ الكثير من الرموز والأحلام والخيالات والطموحات، وفَرَض عناصر جديدة على المسارات الواقعية للناس على مستوى الأفراد والجماعات، وبدرجة أقل على المستوى الشعبي العام. المتابعة التالية، ستتناول حالتين خاصتين من حالات اللجوء الفلسطيني في الأردن: مخيم الوحدات، ومخيم البقعة، وهما أكثر المخيمات حضوراً رغم اختلاف المسارات بينهما، كما سيتضح لاحقاً. وسيكون التركيز في ما يلي على تتبع مختصر للتاريخ الاجتماعي (والسياسي الى درجة ما) لكل من المخيمين. على أن من المهم ملاحظة أنه على الرغم من أن نسبة سكان المخيمات إلى مجمل اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، لم تكن عموماً كبيرة، ورغم التقلص المتواتر لهذه النسبة أيضاً، إلا أن حضور فكرة المخيم كمتلازمة مع فكرة اللجوء ذاتها، رَفَع مفهوم «المخيم» عموماً إلى مستوى الرمز المتعدد الأبعاد والدلالات، ومن هنا تنبع الأهمية الخاصة للدراسة التفصيلية لحالة المخيمات. وبالطبع، إن المتابعة التالية لا تدعي التناول التفصيلي، وستكتفي بالمؤشرات الرئيسية.
مخيم الوحدات
ضم هذا المخيم، الذي نشأ رسمياً عام 1955، فقراءَ اللاجئين من القرى الصغيرة التابعة أصلاً لمدن الساحل الفلسطيني؛ يافا وحيفا بالذات، وبدرجة تالية عكا والرملة وغيرهما. كان هؤلاء قد لجأوا عام 1948 إلى مخيمات صغيرة مؤقتة أقيمت في أريحا وغيرها من مدن الضفة الغربية، ثم هاجروا فرادى وجماعات إلى أطراف عمان، قبل أن يُجمَعوا في مخيم أقامته وكالة الغوث على شكل وحدات سكنية صغيرة ومنفصلة، ومن هنا اكتسب اسمه الشعبي الذي تحول في ما بعد الى اسم رسمي، ذلك أن التسمية الرسمية الأولى له كانت: «مخيم عمان الجديد».
ولنا أن نتصور الحالة؛ تجربة لجوء عشوائية لمدة 7 سنوات بعد الحرب، ثم انتقال منظّم الى إسكان (مخيم) مكتظ (مساحة الوحدة السكنية 12-20 متراً مربعاً)، مقام على طرف العاصمة، وقد وُزِّع السكان فيه عشوائياً دون مراعاة لأية روابط قرابية أو مكانية. في دراسة قصيرة، أشار الصحفي محمد عمر (شهرية المستور الأردنية المتخصصة بشؤون الفقر، تموز 2005) إلى أن طريقة اللجوء حددت «طبيعة التركيبة السكانية والبنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لأهالي المخيم، الذين أصبحوا عبارة عن خليط غير متجانس تقريباً من القرويين القادمين من أماكن شتى». يورد عمر طيفاً غريباً من الأعمال التي أوجدها سكان المخيم لأنفسهم؛ إننا بالفعل أمام مجموعة مُجدّة كادحة مجتهدة. غير أن الصعوبات تفاقمت مع موجة النزوح الجديدة إثر حرب حزيران 1967، حيث نشأ مخيم جديد على هامش المخيم القديم، ليدخل القادمون الجدد بتأسيس نشاط اقتصادي غير رسمي واسع ومتخلل للأسر والبيوت ومتشعب في كل الأزقة، ومتداخل مع باقي أجزاء العاصمة وخاصة المجاورة منها. إن تلك السنوات الصعبة، ولكن الغنية بالنشاط والحركة الاقتصادية أدت، بالتزامن مع التطورات السياسية، إلى نشوء «وحدة اجتماعية جديدة رابطها الأساسي المخيم والنشاط الاقتصادي»، بين سكان المخيم. فقد أخذ المخيم يؤسس في تلك الفترة لرمزيته الخاصة في الأوساط الفلسطينية، وهي رمزية تقلبت في محتواها كثيراً، إلى أن انتقلت في السنوات الأخيرة من الوحدات/ المخيم، إلى الوحدات/ فريق كرة القدم، الشهير. إن طبيعة هذه «الوحدة الاجتماعية الجديدة»، كانت كافية للحفاظ على تلك الرمزية، ولكنها لم تكن كافية للحفاظ على المخيم ذاته، فهو المخيم الذي شهد أسرع حالة هجرة وتفريغ طوعي، ليتحول في العقدين الأخيرين، وبوتائر سريعة، الى مأوى للعمال الوافدين والفئات التي تجد نفسها مقصاة عن المدينة لأسباب مختلفة، إضافة إلى أن شوارع المخيم، تحولت الى أكبر سوق شعبي في العاصمة، كما تحول قسم كبير من بيوته الى مشاغل ومعامل صغيرة، بل إلى مركز للقطاع غير الرسمي الذي تضخم كثيراً في العاصمة.
مخيم البقعة
لمخيم البقعة قصة مختلفة عن قصة مخيم الوحدات، وهو ما ألقى بظلاله على وضع المخيم اليوم. فقد أقيم المخيم في منطقة خالية من السكان بعيدة (حينذاك) عن العاصمة، وذلك في نهاية عام 1967 ومطلع عام 1968، حيث أُحضر اللاجئون إليه من سبعة مخيمات، كانت قد أقيمت في منطقة الأغوار بعد الاحتلال مباشرة. لهذا السبب، ينقسم المخيم اليوم الى سبعة أقسام بمسميات مختلفة تبعاً للاسم الذي اعتمد في فترة اللجوء الأولى في الأغوار، ولا تزال هذه التسميات متداولة للآن.
سكان المخيم هم أصلاً من فقراء قرى الضفة الغربية ومخيماتها، وبحسب محدثينا، فإن اللاجئ الفلسطيني «الملّاك»، أي الثري ملاك المال، فضّل السكن مباشرة في المدن؛ في العاصمة وغيرها، ولم يسكن في المخيم، وحتى اليوم فإن الباقين في المخيم هم بصورة عامة من فقرائه، لأن من تتحسن أحواله المالية (وخاصة نتيجة العمل في الخليج) يرحل عن المخيم. ويعتبر المخيم الأكبر في المنطقة من حيث عدد السكان، حيث يقطنه اليوم نحو 150 الفاً بحسب تقديرات السكان، إضافة الى استمرار انتساب كثير من مغادريه إليه في سياقات سياسية واجتماعية معينة، ولهذه الأمور استحقاقاتها على صعيد مركز المخيم وصورته وهويته الفرعية.
بحسب المتحدثين، إن لقب «ابن مخيم» حصل عليه تبدل كبير، فلغاية آخر الثمانينيات، كانت تسمية «ابن مخيم» تجلب الفخر لصاحبها، وكانت آنذاك تستحضر معاني الكفاح والنضال، ولكن الأمر تغير بالتدريج في ما بعد، واليوم عندما يكون أبناء المخيم خارجه، فإنهم يحاولون تجاوز الإشارة إلى أنهم من المخيم، وبدلاً من ذلك يعرّفون أنفسهم على أنهم من لواء «عين الباشا» الذي يتبع له المخيم إدارياً. يقول المتحدثون، إن لقب «ابن البقعة» صار يرتبط بمعانٍ سلبية، وعند كثيرين منهم حوادث دالة على هذا الصعيد. يتذكر السكان أنه لغاية الثمانينيات، كان أي تحسين على ظروف المخيم (بما في ذلك تنظيم الشوارع أو رصفها أو وضع أطاريف لها) مرفوضاً شعبياً، وينظر إليه بكثير من الشك باعتباره «توطيناً»، ويقولون: لقد ظل الناس يأملون ويعتقدون بالعودة، وهو اعتقاد تلاشى بالتدريج في السنوات الأخيرة. غير أن «عنوان العودة»، لا يزال على المستوى الشعبي حاضراً على شكل موجات تعلو وتهبط بحسب تبدلات الوضع السياسي. يتابع سكان المخيم تفاصيل التطورات الفلسطينية في الأرض المحتلة، وبحسب المتحدثين فإنهم في السنوات الأخيرة تابعوا بكثافة الخلاف بين فتح وحماس، الذي ينعكس بينهم بشكل كبير. ويعرّف أنصار الحركة الاسلامية في المخيم أنفسهم على أنهم من منظمة «حماس» أكثر من تعريفهم لأنفسهم على أنهم حركة اسلامية أردنية. وقد كان مستوى اهتمام سكان المخيم بالانتخابات الفلسطينية أكثر من مستوى اهتمامهم بالانتخابات الأردنية. ولا يزال هناك حضور للتنظيمات السياسية ولو «بالوراثة» كما قال بعضهم، بمعنى أن أولاد «الفتحاوي» من الجيل السابق يعتبرون أنفسهم «فتحاويين».إن الاهتمام بالشأن السياسي عند سكان المخيم يرتبط بالحالة الفلسطينية أكثر من ارتباطه بالوضع الداخلي الأردني، بل إن السنوات الأخيرة التي تميزت في الأردن بكثرة التحركات الشعبية، تعتبر في المخيم فترة سكون. لكن الملاحظ أن حركة «موالاة» للنظام، والملك تحديداً، أخذت تنشط في بعض الأوساط التي تنظر بتوجس الى التحركات الشعبية باعتبارها تمس بالملك، وهم يخشون من ذلك.
لدى السكان شعور بهوية «ثقافية» خاصة بمخيمهم مقارنة بباقي المخيمات، فهو المخيم الأكبر، وهو وفق تعبير بعضهم: مركز القوة الفلسطينية الرئيسية. وينتعش شعور أبناء المخيم بأنفسهم مع محطات الكفاح الفلسطينية، مثلما حصل أثناء الانتفاضة الأولى والثانية، أو عند محاصرة مقر قيادة السلطة (ابو عمار) ابتداءً من عام 2001، أو في الحرب على غزة مطلع عام 2009 وما تلاها. كانوا في تلك المناسبات يخرجون في تحركات جماهيرية واسعة في المخيم، وفي بعض المناسبات كانوا يقيمون مسيرات خاصة في وسط العاصمة يحرصون فيها على إبراز الهوية «البقعاوية».
الأجواء العامة حالياً في المخيم يسودها الإحباط؛ فالعمل السياسي المنظم الذي كان يحفظ شخصية المخيم ويشكل حاضنة لأبنائه وخاصة الشباب تراجع كثيراً، وتشوهت صورته، ولا سيما بسبب ارتباط النشاط بالمال والانفاق و«التفرغ»، أي امتهان السياسة، ولم تشكل «حماس» بديلاً يغطي الفراغ، ومكانة هذه الأخيرة وصورتها مرتبطتان بأدائها ووضعها السياسي، فهما تصعدان وتهبطان.
مع أن المتحدثين يأملون أن يستعيد المخيم صورته «المحترمة» وأن «يُطرح اسمه» كباقي المناطق في البلد، وأن يكون هناك من يدافع عن مصالح أبنائه وحقوقهم، غير أنهم لا يتحدثون عن تمثيل سياسي للمخيم، فهم لا يزالون ينظرون إلى ما هو سياسي بالنسبة إليهم، على أنه يتصل بفلسطين وبمصير القضية الفلسطينية.
* باحث أردني