استفاد باراك أوباما من أخطاء سلفه الاستراتيجية في التعاطي مع السياستين الخارحية والداخلية. لا يمكن الرجوع الى الوراء من اجل الاستفادة لكون الظروف متغيرة والتحديات المستجدة تتطلب سياسات جديدة. حين انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة كانت تتبع سياسة الاحلاف الدائمة، حيث وحدت أصدقاءها وفرقت اعداءها. لكنها بعد 11 سبتمبر قامت بنشر الخوف من أجل شدّ عصب الاميركيين والمحافظة على عزيمتهم الوطنية. لقد تم استغلال خوف الشعب الاميركي والعامة غير المسيسة من الارهاب على الصعيد الداخلي، أما السياسة الخارجية فتميزت بردود افعال أدت إلى نشوب حرب على أفغانستان، وغزو العراق 2003 مما رفع منسوب العداء الشعبي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. في هذه الخطوات العسكرية تخلت الولايات المتحدة عن اصدقائها الأوروبيين، وأخذت قراراً منفرداً بالحرب ضد العراق كلفها خسائر بشرية ومالية ومعنوية.
لقد تولى اوباما الرئاسة في ظل اتجاهات جيوسياسية رئيسية تمثلت بعداء شديد للغرب في انحاء العالم الاسلامي. في ظل غلبة إيران في الخليج، وتقلب الاوضاع في باكستان، إضافة إلى موجة معادية في أميركا اللاتينية وبروز مجموعة اسيوية شرقية تتزعمها الصين فضلاً عن الغضب الاوروبي والتململ الروسي. كل هذه الوقائع اجتمعت في ظل أزمة اقتصادية داخلية خانقة. لقد فهمت الإدارة الجديدة أن قوتها في الخارج تتوقف على قدرتها الاقتصادية والتصدي لمشكلاتها الداخلية من الدين القومي المتعاظم إلى المجازفات الاخلاقية التي هددت الاقتصادين الاميركي والعالمي. إلى تباين الدخل والثروة الذي يهدد التوافق الاجتماعي والاستقرار الديمقراطي. أعلنت إدارة أوباما عزمها على الانسحاب الكامل من العراق، وخطة لانسحاب عسكري كبير من أفغانستان وخفض مستوى التواجد العسكري التقليدي في القواعد الأميركية في أوروبا الغربية. وفي الوقت نفسه، كانت السياسة الأميركية تنجح في الانفتاح على ميانمار (بورما)، وتعمل على توثيق العلاقات مع الهند وباكستان في الآن نفسه؛ وكانت توقع سلسلة من الاتفاقيات التي سمحت بإقامة قواعد عسكرية أميركية والحصول على تسهيلات عسكرية في أستراليا وعدد من الدول الآسيوية المحيطة بالصين. إن الصعود الاقتصادي للصين، بالرغم من التباطؤ النسبي بعد 2008، اقلق الحسابات الاميركية اذ في النهاية يمكنها التحول إلى قوة دفاعية منافسة، وليس فقط اقتصادية – مالية. قررت أميركا التحوّل نحو الشرق. لا سيما أنها تحررت بعد أن احرزت تقدماً في جهود الاكتفاء الذاتي من مصادر الطاقة بعد أن كانت قد أعطت الشرق الأوسط أهمية كبرى في سياساتها خلال العقود الماضية.
لا شك في أن أوباما حاول في ولايته الأولى رفع مستوى توقعات العالم في ما خص توجه سياسة اميركا الخارجية. لكن الصورة الاستراتيجية الجديدة بحاجة الى تجديد داخلي وخارجي من أجل إعادة تفعيل دورها العالمي. تنبهت الى ان الخطر الأكبر خارجياً ينتصب فوق كتلة أوراسيا القارية، حيث تورطت الولايات المتحدة في سلسلة من الصراعات داخل هذه الكتلة. ولا شك أن روسيا والهند والصين كانت على قدر من الذكاء بعدم تدخلها المباشر في هذه الصراعات ونأت بنفسها. اتهم البعض الولايات المتحدة بالوقوف خلف «الربيع العربي» من أجل احلال منظومة اسلامية معتدلة جرى العمل عليها منذ ما بعد 11 سيتمبر يمكنها ان تشكل رافعة اسلامية تمتد من العالم العربي إلى روسيا ومنطقة اوراسيا، لتطال المناطق الاسلامية في الصين. كذلك محاصرة ما اتفق على تسميته اميركياً بمحور الشر، أي إيران وسوريا وحزب الله، وايكال مهمة اسقاطها الى حلفائها الاوروبيين والاقليميين تركيا وبعض دول الخليج. لكن هذه القوى عجزت عن احتواء الاوضاع من ليبيا الى اليمن، وتنافرت في مصر ولا زال الصراع سارياً في تونس. كما انها لم تستطع تحقيق الانجاز الاكبر في سوريا التي تحولت الى ساحة لصراع الامم، التي ادركت ان سقوطها يقلب معادلات جيواستراتيجية واقتصادية وهذا ما هو حاصل. رأت روسيا الفرصة سانحة من أجل التحول إلى لاعب محوري وزيادة نفوذها عبر تمتين تحالفها مع ايران ووقفت سداً منيعاً في وجه مصالح الغرب وحلفائه. في ظل الخسارة الغربية في سوريا كان لا بد من أن تلتقي مصالح الاميركي، الذي اعلن حرباً على سوريا مع مصالح الجانب الروسي عندما ايقن الاميركي أن لا قدرة له على خوض حربه المعلنة لاسباب اقتصادية وسياسية داخلية. أما الروسي فأبدى قلقاً شديداً من إمكانية تفجر منطقة الشرق الأوسط وتأثير ذلك على الوضع الروسي، وتحديداً في منطقة القوقاز، ورأى في ما يجري فرصة مناسبة للحد من النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. والواقع أن نفوذ واشنطن في انحسار. الأمر الذي حمل روسيا على التنسيق في اجتراح حلّ في سوريا للكيميائي واخراج اوباما من مأزق اعلان التدخل العسكري الذي كان يمكنه ان يكون وبالاً على المنطقة والعالم وعلى الولايات المتحدة نفسها، والنتيجة كانت اقراراً باهمية الحل السلمي في سوريا.

الانفتاح على إيران ضرورة أميركية

أدرك اوباما في ولايته الثانية أن ضربة عسكرية لإيران «ليست خياراً حقيقياً لأميركا أو لإسرائيل»، معتبراً أن تل أبيب ليس لديها القدرة العسكرية على تدمير فعلي للمنشآت النووية الإيرانية، وأن أي ضربة إسرائيلية منفردة سيقتصر أثرها على إلحاق الضرر الجزئي بالمنشآت الايرانية وتأخير عملية حصول إيران على قدرة نووية فاعلة، لكن ستنتج عنها عواقب سياسية كارثية. إن أسباب الانفتاح بين الجانبين الإيراني والأميركي تمثّلت في رغبة إدارة واشنطن تذليل العقبات السياسية والإستراتيجية في الشرق الأوسط دون دخول متاهات حرب عسكرية مع دول المنطقة، تفادياً لحدوث خسائر أخرى في ميزانيتها الضئيلة ــ لا سيما أن موقفها في المنطقة في وضع السقوط الحر، لذا فان تدخلاً عسكرياً ثالثاً كان بامكانه أن يشكل كارثة بالنسبة لها. من هنا يمكن القول إن التوصل إلى تفاهم مع جمهورية إيران هو تحوّل في موقف الولايات المتحدة في المنطقة. كان يمكن أن يتم التوصل إلى اتفاق حول القضية النووية في غضون أسابيع في السنوات الماضية لو أنَّ الولايات المتحدة قبلت بمستوى معين من التخصيب. لكن هذا كان يعني بالنسبة لها قبول الجمهورية الإيرانية كقوة شرعية في المنطقة، وهذا ما بدا انه يحصل اليوم بعد صمود إيران وانتصارها على أربع جبهات:
ـــ الجبهة الأولى تمثلت بالاستمرار في مشروعها النووي السلمي رغم الاغتيالات الإسرائيلية لعلمائها والعقوبات الدولية القاسية، والتي كانت الغاية منها احداث خلل اجتماعي داخلي يقود إلى ربيع إيراني على نسق الربيع العربي.
ـــ الجبهة الثانية: انتصار حزب الله حيث حرضت واشنطن اسرائيل من أجل ضرب المقاومة عام 2006، حيث منيت بخسارة فادحة طالت سمعة إسرائيل العسكرية والقدرة الأميركية على الفعل.
ـــ الجبهة الثالثة: الحرب التي تمثلت بضرب الدولة السورية ونظامها أي واسطة العقد بين ايران وحزب الله لتغيير النظام واستبداله بآخر موال لها. ترافق ذلك مع توريط حركة حماس في الخرب على سوريا خدمة لمشروع الاسلام المعتدل والتسوية مع إسرائيل، وابعادها عن المشروع الإيراني المقاوم تحت ذريعة اعطائها بالسلم مع اسرائيل ما عجزت عن تحقيقه بالمقاومة، فكانت الخديعة الكبرى التي انطلت على الحركة وعلى تنظيم الاخوان المسلمين.
ـــ الجبهة الرابعة: عرس الديمقراطية الإيرانية الذي تمثل بالانتخابات التي أتت بالرئيس روحاني الوسطي المنفتح دون أن تحدث الخلل المنتظر. الأمر الذي أثبت أن الدراسات السيكولوجية ــ السياسية الأميركية يمكنها أن تصيب فقط بعض ديكتاتويات عربية، فيما أثبتت هذه المراحل أن إيران تعمل وسط عقلانية وحسابات دبلوماسية وعسكرية دقيقة.
وسط هذه الاعتبارات الشرق أوسطية كان لا بد للإدارة الأميركية من العودة إلى ضرورات وأسس الواقعية السياسية، كيف لا وهي البراغماتية بامتياز حيث لها مصالح مع إيران القوية. وكانت قد فتحت معها محادثات وصفت بالسرية، في الوقت الذي كانت تسعى فيه لأسقاط اوراق القوة من يد إيران في المنطقة. ولكن لا عجب أن استكملت هذه المحادثات بعد تبلور عوامل الربح الإيراني. فالأميركي وإن شعر بهزيمة مشروعه فهو سيذهب سريعاً إلى رعاية مصالحه أولاً، وإن أتت جزئياً على حساب بعض حلفائه. فهو يعلم أنه الأقوى ويمكنه ارضاء الحلفاء، فالاميركي بحاجة إلى إيران إحدى أهم بوابات افغانستان في المنظورين القريب والبعيد.

أفغانستان: صراع أميركي من أجل البقاء

إن أمن إيران من أمن افغاستان. فإيران رأت في الاحتلال الاميركي لأفغانستان بعد 11 سبتمبر مشكلة لا تقل في خطورتها عن وجود طالبان والقاعدة على حدودها، لكنها تعاونت ايجابياً في إطار الستة +1، كذلك في مؤتمر بون 2001، وفي إطار مؤتمرات عدة من أجل بناء تصورات حول مستقبل افغانستان ما بعد طالبان. دعمت إيران حكومة قرضاي، كذلك ساهمت في سجن وترحيل بعض أعضاء طالبان والقاعدة الذين لجأوا اليها. لكن نوايا الولايات المتحدة تجاهها بعد تصنيفها في محور الشر أوضحت وعززت الشكوك لديها. لقد أكدت إيران في مؤتمر بون حول أفغانستان أن أيّ اتفاق استراتيجي مع الولايات المتحدة سوف يسيء إلى أمن افغانستان، أما الولايات المتحدة فأيقنت أنه لا بدّ له من التعاون أبدت عام 2009 رغبتها في تعاون مع إيران، كما أعربت المانيا والشركاء في «ايساف» على ضرورة هذا التعاون واجمعت على ضرورة بدء حوار بناء حول الانسحاب من افغانستان وضمان بقاء قوات للناتو بقيادة اميركية. لكن رؤية إيران مختلفة تماماً عن رؤية الغرب بالنسبة الى أمن افغانستان، فهي ترى أن حفظ الامن يجب ان يكون بايدي الأفغان، حيث الضمانة السياسية واللوجستية مدعومة من تجمع جديد لقوى مجموعة الاتصال الدولية حول افغانستان، والتي يمكنها ان تضم إيران وروسيا والصين والسعودية والهند وباكستان ودول الناتو. فإيران ترى على لسان المرشد أن الولايات المتحدة يجب أن تنسحب من افغانستان، كما وعد أوباما، اما بقاء قواعد اميركية فهو يعني عدم الاستقرار في افغانستان والمنطقة. ففي نظر الإيرانيين جميع دول المنطقة عدا الدول العربية في الخليج لديها تحفظات امنية وايديولوجية اتجاه الطالبانية، وهي روسيا والهند وإيران ولا سيما ارتباطها بالارهاب القاعدي. لذلك تعتقد إيران أنه يجب أخذ التجارب التاريخية بعين الاعتبار، لا سيما نتائج الاحتلال السوفياتي والأميركي، لذلك فهي ترى أن دول الجوار يمكنها أن تأخذ بيدها أمن افغانستان إن تعاونت القوى الدولية. من هنا لا يمكن لإيران أن تتجاهل الولايات المتحدة والعكس هو الصحيح. البراغماتية والمفاوضات العقلانية يمكنها أن تراعي مصالح الاطراف، فالعلاقة الإيرانية الافغانية هي علاقة حسن جوار. ولقد كانت ملاذاً آمناً للأفغان طيلة زمن الحرب ولا زالت.
وهي معنية بحماية حدودها الواسعة مع أفغانستان، لا سيما أنها ايضاً لا تريد أن تشكّل افغانستان منطلقاً لقواعد عسكرية اميركية ضدها أو ضد الصين. إذا كان الهم الغربي المعلن من الحرب على افغانستان هو الحرب على الارهاب فالهمّ الإيراني هو أمني بامتياز. ولكن لا يمكن للولايات المتحدة ان تتوقع تعاوناً إيرانياً في افغانستان وهي تمارس عليها ضغوطا في غير مكان. فإيران تريد انسحاباً اميركياً من أفغانستان على غرار ما حصل في العراق، أي حكماً وأمناً وطنياً، لذلك هي تتوقع انسحاب «ايساف» من افغانستان عام 2014، ويمكنها ان تجد صيغة تعاون مع الولايات المتحدة عبر مجموعة اتصال دولية جديدة، هل هذا ممكن؟ الانفتاح الأميركي إذاً على إيران ليس همّاً شرق أوسطياً فقط انما هو ممتد نحو آسيا الوسطى، وما بعدها ومصير قواتها وقواعدها في غير مكان.
* أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي