كان هناك إرهاصات لـ«نزعة المراهنة على الخارج لإحداث تغيير داخلي» منذ حرب 1991 عند بعض سجناء اليسار الماركسي السوري المعارض، وقد كان أحد قياديي حزب العمل الشيوعي، وهو أصلان عبد الكريم، صريحاً في سجن صيدنايا لما أعرب علناً في الأسبوع الأخير من شهر شباط 1991، مع بدء الهجوم البري الأميركي على القوات العراقية في الكويت، عن «رغبته في إكمال الجنرال الأميركي شوارزكوف طريقه إلى بغداد بدلاً من أن يقف عند الحدود العراقية _ الكويتية».قدم أصلان عبد الكريم، أيضاً، في تشرين الثاني 2002 أطروحة جديدة بأن «المرجعية الوحيدة في تقييم مجمل سياسات المعارضات والسلطات هي الديموقراطية». وهو يقول، في الفترة الفاصلة بين لقاءات واشنطن مع المعارضة العراقية في آب 2002 وفترة التحضيرات لمؤتمر لندن في كانون الأول 2002 الذي أشرفت عليه الـ«سي أي إيه»، إن المعارضة العراقية «تستميت ضد نظام صدام وهي على حق في ذلك» (جريدة «الرأي»، الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري _ المكتب السياسي، العدد 14، تشرين الثاني 2002، ص 19). طبعاً، هذا أدى إلى أطروحات حول «أولوية الديموقراطية ومفتاحيتها» في كل القضايا: الوطنية والاقتصادية _ الاجتماعية، وأن هذه القضايا مؤجلة إلى ما بعد تحقيق الديموقراطية أو مشروطة بها، مع سكوت أو تصريح بالقبول بأي حامل يأتي بالديموقراطية. ثم، بدأ بعض المثقفين _ الساسة (جاد الكريم الجباعي، وهو قيادي سوري في حزب العمال الثوري العربي، في مقاله: «تهافت الدفاع عن العراق»، موقع «أخبار الشرق»، لندن، تحديث يوم 24 كانون الأول 2002) في طرح أطروحات قالت إن هناك ثنائية متضادة متمثلة في أن «النظام الاستبدادي العربي وضع الشعوب العربية بين خيارين: إما قبول الاستبداد وإما الاستقواء بالخارج... ثم يضيف: «الاستبداد كالاستعمار، كلاهما إهانة للكرامة الإنسانية، بل إن الاستبداد أخطر من الاستعمار...». في شهر آذار 2003 الذي حصل فيه غزو العراق، ظهر رأي جديد لماركسي سوري، هو ميشال كيلو: «نعم لشكل التدخل الدولي الذي قد يخلص الشعب العراقي من رجل دمر الدولة والمجتمع، نعم لمعايير ديموقراطية تضعها الأمم المتحدة وتفرضها على كل البلدان بلا استثناء، ونعم للجوء إلى كل وسائل الأمم المتحدة ضد هذا النظام» (منى نعيم: «مأزق المثقفين السوريين»، منشور في جريدة «لو موند»، مترجم في جريدة «النور»، 12 آذار 2003).
لم تتحول تلك الآراء، جميعاً، حتى يوم غزو العراق (19 آذار)، وصولاً إلى سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي يوم الأربعاء 9 نيسان 2003، إلى بلورة تيار فكري _ سياسي، إلا أنها ظلت، حتى ذلك اليوم المشهود، في صورة آراء سياسية لم تتقولب في بناء أيديولوجي، وإن كان يلاحظ على حامليها من الماركسيين السوريين بداية انتقالهم، بالترافق معها وعبرها، إلى الموقع الليبرالي.
أدى سقوط بغداد إلى دخول أميركي في التوتير والصدام مع دمشق منذ زيارة كولن باول للعاصمة السورية يوم 2 أيار 2003، ويبدو أن واشنطن كانت تتجه إلى تدفيع النظام السوري، الرافض لغزو واحتلال العراق، أول فاتورة عن تحول الولايات المتحدة إلى «قوة إقليمية» بعد احتلالها لبلاد الرافدين: في صيف 2003 تحول «الموضوع الأميركي» إلى عامل أساسي عند المعارضين السوريين في تحديد الاصطفافات في الضد والمع، وليحتل مكان (موضوع الموقف من العهد الجديد) الذي ظل شاغلاً للمعارضين لثلاث سنوات سابقة.
افتتح الدكتور برهان غليون النقاش في أوساط المعارضين السوريين مبكراً في يوم 26 أيار 2003: «الوضع الهش والقلق للمعارضة التي لا تستند إلى وظيفة بنيوية في النظام ولا إلى قاعدة اجتماعية ثابتة هو الذي يفسر ضعف المعارضة... ويفسر المأزق الذي تجد نفسها فيه وتناقض اختياراتها أو الإحراجات التي تجد نفسها حبيستها في الاختيار بين الاستبداد والاستعمار، فهي إما أن تقبل بأن تظل هامشية ومهمشة لا وزن ولا مكان ولا قيمة لها، أو أن تتعامل مع قوى أصلية وفاعلة أو ماسكة داخلية أو خارجية» («المعارضة العربية بين الوطنية والديموقراطية»، موقع «أخبار الشرق»، لندن، 26 أيار 2003)، قبل أن يصدر حكم قاطع في 2 تشرين الأول 2003، في موقع «أخبار الشرق» (في مقال تحت عنوان: «الإصلاح مجرد سوء تفاهم») بأن «النظام السوري، مثله مثل جميع الأنظمة الشمولية التي عرفتها الكرة الأرضية خلال القرن العشرين، فقد جميع شروط بقائه التاريخية وفي مقدمها ظروف الاستقطاب الدولي... وهو اليوم في طريق مسدود دائماً»، وقد كان غليون في تلك الفترة يمارس نفوذاً متعاظماً على رياض الترك، الذي قال قبيل أيام، من جولة خارجية في القارتين الأوروبية والأميركية استغرقت شهرين، إنه عبر احتلال الولايات المتحدة للعراق «أزاحوا نظاماً كريهاً ونقل الأميركيون المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر» (موقع «الرأي»، 29 أيلول 2003، في حوار أجراه حكم البابا مع رياض الترك، تم نشره في «النهار» يوم 28 أيلول 2003)، وقد عاد الترك من تلك الرحلة ليقول «بأن هناك رياحاً غربية ستهب على دمشق، وعلينا أن نلاقيها ببرنامج سياسي مناسب» (في حديث مع كاتب هذه السطور، حمص 7 كانون الأول 2003، وقد كان واضحاً، عبر التفاصيل المروية عن الرحلة، مدى تأثر الترك بالدكتور غليون، الذي كان الوسيط والمدخل إلى الدوائر الفرنسية المتعددة).
اختار جورج بوش الابن، هو والرئيس الفرنسي شيراك المتصالح حديثاً مع الرئيس الأميركي بعد خصامهما حول حرب العراق، بيروت ميداناً لمواجهة النظام السوري، ربما لاعتبار بيروت «كعب آخيل»، أو كما شرح فنسان نوزي، صاحب كتاب «في سر الرؤساء»، في برنامج «الملف» مع قناة «الجزيرة» (الجمعة 26 تشرين الثاني 2010)، بأن شيراك كان يعتقد بأن خروج السوريين من بيروت سيؤدي إلى سقوط النظام السوري من خلال العمل الأميركي _ الفرنسي المشترك ضد دمشق الذي بدأ منذ خريف عام 2003 حتى وصوله إلى لحظة ذروة مع صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004: ما بدا أنه انتصار للمعارضة اللبنانية في فترة ما بعد تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري يوم 14 شباط 2005، مع تظاهرة 14 آذار وانسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان، كان له تأثيرات عميقة على المعارضة السورية، حيث أوحت أحداث بيروت، التي أتت لغير صالح النظام السوري، بأن هناك احتمالات كبيرة في أن يكون لها ترجمات مماثلة في دمشق.
في حوار مع صحيفة «نيويورك تايمز» (توجد ترجمة له في موقع «الرأي» بتحديث يوم 23 آذار 2005) يقوم رياض الترك بتوحيد حالة دمشق مع بيروت: «المستقبل للمعارضة... النار تحت الرماد. هل أستطيع إخبارك بميقات وقوع الزلزال؟ كلا، انظر إلى لبنان، هل كان في وسع أحد أن يجزم متى سيندلع كل ذلك؟ مقاومتنا ومعارضتنا بدأت قبل لبنان بوقت طويل. لا نستطيع الجزم. هذا المجتمع الأبكم يريد التخلص من هذه الحكومة. ليس للدولة القدرة على الإصلاح والانفتاح على الشعب. ثم أعلن: نعم، أنا على يقين بأن الشرق الأوسط جاهز للسير في الطريق نحو الديموقراطية. نحن جاهزون للتخلص من الديكتاتورية. نحن نتفق مع الأميركان في ذلك».
بعد عشرة أيام، وفي 3 نيسان، قامت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بالتخلي عن سياستها الاعتدالية التي انتهجتها منذ أيار 2001 مع وثيقة «ميثاق شرف وطني»: في بيان الجماعة (منشور بموقع «الرأي»، تحديث يوم 3 نيسان 2005) هناك قراءة من الواضح فيها أن التشدد الجديد آتٍ من المناخات الإقليمية والدولية الجديدة المتراكمة ضد النظام السوري. أيضاً، وفي صورة ربما تعكس ما بدا أنه نوع من الترجيح لقراءة سادت في أوساط سورية معارضة حول احتمال تغيرات ستقع في دمشق على طراز بيروت، رأينا إرهاصات لانزياحات عند بعض أعضاء حزب البعث الحاكم في دمشق نحو الانتقال _ بشكل فردي وفي «ربع الساعة الأخيرة» _ إلى صفوف المعارضة السورية، وفي اتجاهها الأميركاني، كما في مقال نشره، بعد ثلاثة أيام من تظاهرة 14 آذار 2005 في بيروت، الدكتور منذر بدر حلوم، وهو بعثي وأكاديمي في كلية الزراعة في جامعة اللاذقية: «قد يشوش الدعم الأميركي والأوروبي المعلن وكذلك الترحيب الإسرائيلي بما يحصل على الأرض اللبنانية اليوم على البعض رؤية مصلحة حقيقية في خروج الشعوب العربية من هيمنة أنظمة استبدادية إلى أفق ديموقراطي... رغم ذلك، وحتى إذا كان لأميركا أن تستفيد من مزاج معاد للتعسف ورافض لأشكال القهر فتهيئ له أن ينتصر، فمن شأن هذا الانتصار أن يكون انتصاراً ضد كل تعسف مستقبلي ممكن وأشكال قهر داخلية أو خارجية محتملة، بما في ذلك الأميركي منها... ففي حين يمكن للدور الأميركي أن يكون عظيماً أول مرة، فإنه لا يمكن كذلك أن يكون في المرات التالية» (منذر بدر حلوم: «بين وطنية الاستبداد وعمالة الديموقراطية»، مقال في «السفير»، 17 آذار 2005). في ذروة التوتر الأميركي _ الفرنسي مع دمشق، قام رياض الترك، في مقابلة مع موقع «سيريا كومنت» (Syria comment) يوم 8 أيلول 2005، وهو موقع يديره جوشوا لانديس، أحد المحافظين الجدد في واشنطن، بالإعلان أن «هذا النظام انتهت صلاحيته. هذا النظام يحتضر... هناك صراع بدأ يستعر بين الأميركيين وسوريا، وهذا يفسر لماذا أقول إن الأميركيين قادمون، سواء رحّبنا بهم أو لم نرحّب... ولكن لنتكلم موضوعياً، عندما يصاب الوضع الداخلي بالوهن، القوى الخارجية تتدخل، وهذا يفسر لماذا أقول دائماً إن الأميركيين قادمون. دعهم يطيحون هذا النظام!».
في موازاة هذا، تكلّم قيادي ووجه إعلامي في الإخوان، هو الطاهر إبراهيم، بلغة مشابهة: «ما تريده أميركا قد يتقاطع في مرحلة ما مع مصلحة الشعب السوري... ولعل أول شيء ينبغي أن يخطر ببال المعارضة هو أن تلتقي وتبحث في ما بينها إن كان من الممكن أن تجري حواراً مع أميركا، طالما أن هذا الحوار يتم على مبدأ أن هذا النظام قد انتهت مدة صلاحيته» («خارج السياق وبعيداً عن المزايدات»، موقع «الرأي»، تحديث يوم 6 تشرين الأول
2005).
لا يعرف، حتى الآن، إن كان من تولى من السوريين أمر قيام «إعلان دمشق» في 16 تشرين الأول 2005 قد تلقى إشارات دولية فعلاً بأن «النظام قد انتهت مدة صلاحيته»، أم أنهم قرأوا ذلك من عندهم، حتى يعمدوا الى تأسيس «إعلان دمشق»، الذي ينطلق من المقولة الواردة في نصه بأن «عملية التغيير قد بدأت»، وذلك قبل خمسة أيام من تقرير ميليس، الذي توقع الكثيرون بأنه سيحدث تأثيرات زلزالية في دمشق. كان اللافت في نص «إعلان دمشق» هو مدى الانزياحات التي حصلت من خلاله عند يساريين ماركسيين وقوميين ناصريين وحتى إسلاميين من الحركة الإخوانية السورية: التعامل مع الشعب السوري من خلال «مكوناته»، عدم ذكر كلمات أميركا وإسرائيل والعراق وفلسطين في النص، تقزيم انتماء سوريا العربي إلى «انتماء إلى المنظومة العربية».
اصطدم «إعلان دمشق» بالحائط لما لم تتحقق المراهنات على اهتزاز النظام أو سقوطه، إلا أن هذا لم يوقف القوى الفاعلة فيه عن الاستمرار في النهج نفسه الذي تجسد ثانية في «إعلان بيروت دمشق» (منشور في «السفير»، 12 أيار 2006)، المكتوب في بيروت والمرسل إلى دمشق «معلباً» للتوقيع عليه، والذي عند مقارنته بقرار مجلس الأمن رقم 1680، الصادر بعد خمسة أيام في 17 أيار، والذي ظل يسعى إليه لأشهر السفير الأميركي جون بولتون في نيويورك، لا يملك المرء سوى السؤال عن سر هذا التشابه في النصين في ما يخص موضوع العلاقات السورية _
اللبنانية.
في مرحلة ما بعد انتهاء حرب تموز 2006 تغيّرت التوازنات الإقليمية لغير صالح واشنطن: مع هذا كله، لم يحصل آنذاك عند معارضين سوريين راهنوا على المشروع الأميركي أي مراجعة، رغم تقديم أحد المحافظين الجدد الأميركان في نهاية عام 2006 التوضيحات الآتية: «بدت سوريا هي التالية في أجندات الإدارة لإصلاح الشرق الأوسط الكبير، رغم أنه بات واضحاً أن الأمر كله كان جهداً من قبل واشنطن لإيقاع المعارضة السورية في شرك لم يكن يهدف إلى أكثر من الضغط على الحكومة السورية لكي تتصرف وفق ما كانت الولايات المتحدة تريده»، وفقاً لكلام جوشوا لانديس في مجلة «تايم» بعدد 19 كانون الأول 2006 (النسخة الإلكترونية للمجلة) قبل هذا بكثير، كان هناك إشارة أميركية رسمية معاكسة أطلقت في بيروت قبل ثلاثة أيام من قيام «إعلان دمشق»: قالت جولييت وور، مديرة الشؤون العامة في السفارة الأميركية في بيروت، الكلمات الآتية: «الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام في سوريا، بل إلى تغيير تصرفاته» (جريدة «السفير»، عدد الجمعة 14 تشرين الأول 2005)، محددة تلك التصرفات في ثلاثة أمكنة بالتوالي: العراق، فلسطين (علاقاته مع «حماس» و«الجهاد»)، ولبنان.
* كاتب سوري