تربّعت الثورات عبر التاريخ على رأس الحراك الشعبي الذي يأتي نتيجة مجموعة من العوامل والظروف التي تضغط على هذه الشعوب في قوتها وحريتها وحقوقها وكرامتها، أو في سبيل تحرير أرض محتلة أو حقوق مغتصبة. وكلما كان الزخم الشعبي عالياً كانت الثورة أقدر على تحقيق أهدافها، لذلك كان لا بد من العمل بكل جدية للحفاظ على هذا الزخم ودعمه الكامل لهذه الثورة، وخاصة حين تمتد مسببات الثورة لسنوات طويلة وتتعاقب عليها الأجيال. فكان من الواجب الحرص على استمرارية هذا الزخم من خلال الحرص على انتقال مفاهيم وثوابت هذه الثورة إلى الأجيال التي تتوالى بنفس القناعة والالتزام. من هنا اعتبرت هذه الأجيال هي منابع للثورة من خلال ما تقدمه من وقود وزخم مطلوب لتتابع الثورة نضالها وسعيها لتحقيق الانتصار والأهداف المنشودة. هذه الحقيقة التاريخية تمارسها الشعوب بعفوية، لكن معظمها لا يعي هذه الحقيقة وأهميتها، أما من يعي هذه الحقيقة فهو قادر على استثمارها بالشكل الأمثل ليتمكن من التأثير على منابع الثورة بالشكل الذي يناسبه ويمكنه من قلب موازين ومعادلات هذه الثورة لصالحه. فمنذ أن بدأ الفكر الصهيوني بترجمة مشروعه الكبير، بحصوله على وعد إقامة «دولة إسرائيل»، لاقى هذه المشروع رفضاً شعبياً ورسمياً لدى العرب والمسلمين عامة، وخلق هذا الرفض ثورة عارمة ضد هذا المشروع، وعبّرت الثورة عن نفسها بأشكال عدة أهمها الكفاح المسلح الذي اعتمد على القاعدة الشعبية. وهو ما مثَّل حشداً هائلاً وزخماً ودعماً مرعبين لاصحاب هذا المشروع، لذلك كان لا بد من التفكير بشكل استراتيجي وبعيد المدى، وهو ما يميز الفكر الصهيوني الذي أثيت ويثبت بشكل مستمر أن تعاطيه تاريخياً مع قضايا المنطقة كان يحقق له النسب العليا من الانتصارات الجزئية أو المرحلية والتي تصب في النهاية في الاتجاه الذي رسمه وخطط له هذا الفكر ومنظريه لتنفيذ مشروعه في المنطقة.
ولكن، وبعد سنوات طويلة وأجيال متعاقبة من ممارسات للعنف والجريمة المنظمة واحتلال وتهجير وحروب مع العرب على اختلاف نتائجها ونزاعات عسكرية على الأرض، وردود الفعل الشعبية والرسمية على هذه الممارسات، اكتشف أصحاب هذا المشروع أنهم فشلوا في القضاء على أسباب ومبررات الثورة ضدهم ونزعها من عقول ونفوس الأجيال المتعاقبة، التي كانت تخرج أكثر تمسكاً بالحقوق وأكثر رغبة في الانضمام للثورة ضده، وأكثر إصراراً على المضي حتى النهاية في هذه الحرب الطويلة الأجل. واكتشف أن المعضلة تكمن في كيفية التعامل مع منابع الثورة، لذلك انصب كل همه على إيجاد افضل السبل للتأثير على هذه المنابع، والالتفاف عليها وتوجيهها بالاتجاهات التي تخدم مشروعه بدلاً من الوقوف في وجهه ومحاربته، فكان لا بد من العمل على بناء هذه الأجيال بما يخدم هذا الفكر وينسجم بالنهاية مع مشروعه. لذلك اشتغل هذا الفكر على محاور عدة، وانتهج سياسة الأنفاس الطويلة، والتفكير البعيد المدى والاستراتيجي الذي يضمن له نتائج مؤكدة، فقام بداية بتنفيذ جرائم إبادة بحق عدد من المدن والقرى الفلسطينية والعربية، وطرح عبر مؤسسات ومنظمات دولية معظمها من بنات أفكاره أو من المنحازة بشكل واضح لمشروعه وأخرى عربية تعنى باللاجئين والمتضررين من أبناء الشعب الفلسطيني، طرح فكرة ضرورة تحديد وتنظيم النسل ليخفف بذلك إلى حد ما من الازدياد الكبير في أعداد «منابع الثورة»، بحجة التخفيف من المعاناة والفقر والعوز لمعظم متطلبات الحياة. كما نشط على محور أخر ساعدته فيه مجموعة الاتفاقات الثنائية والعلاقات المباشرة وغير المباشرة بينه وبين بعض الدول العربية، حيث تمكن من خلالها من فرض تغيير في مناهج التربية والتعليم في عدد من هذه الدول، والتي يعد بعضها مؤثراً بشكل كبير على شرائح واسعة من الشعب العربي، فكان أن ألغى من معظم المناهج والكتب التعليمية، ومن مصطلحات وعبارات وسائل الإعلام، كل ما من شانه أن يظهر «دولة إسرائيل» كعدو أو كيان غاصب ومحتل يجب التخلص منه واسترداد الأرض والحقوق وإعادتها لأصحابها الحقيقيين، ودعم كل ذلك بوسائل إعلام تعد من أكبر وأكثر وسائل الإعلام انتشاراً في العالم كله، وتأثيراً على المشاهد العربي والغربي، ونظم حملة إعلامية طويلة المدى، وأسّس مؤسسات كبيرة إعلامية وثقافية وسياحية واقتصادية وفكرية هدفها بناء ثقافة جديدة بالكامل، وزرع مفاهيم جديدة وتقويض أخرى، ورسم الأحلام، وطرح تطلعات مختلفة وأهداف بعيدة عن المتوارثة لدى شعوب المنطقة وخاصة في ما يخص هذا المشروع الذي يستهدف فكر الشعوب وإرثها الحضاري وثقافتها وتاريخها، ويعمل لتعميم ثقافة ومفاهيم وتطلعات جديدة تشكل بالنهاية شخصية عربية تكون أقرب إلى مشروعه ومتماهية معه. وهو ما نراه في وسائل إعلام أصبحت قادرة على الإسهام بالنسبة الأكبر والأكثر تاثيراً في صناعة وتشكيل الأجيال المتتالية، إلا أنّ المجتمع بآلياته البسيطة في التأثير على أجياله وتربيتها وفق العقائد والمفاهيم التي توارثوها جيلاً بعد جيل كان له الأثر الأكبر في تنشئة هذه الأجيال. ولعب رجال الدين والمؤسات الدينية في هذه المجتمعات الدور الأبرز وربما الوحيد في تشكيل البنية الأساسية وربما أيضاً الوحيدة في تشكيل شخصية وعقيدة هذا الجيل، فوجد هذا الفكر ضالته في استثمار هذا العامل الأساس في التأثير على الشعوب، فسعى ونجح في استثماره بشكل غير مباشر لصالح مشروعه ووجد أن أفضل وسيلة لضمان نتائج إيجابية من هذا المشروع هو إيجاد عدو آخر يشكل بديلاً ولو مرحلياً تتوجه إليه الثورة بمنابعها التي لا تنضب، وكان خلق هذا العدو سهلاً نتيجة الوضع العربي والاسلامي الغارق في صراعات مذهبية وعرقية ومناطقية وغير ذلك من صراعات سهلت عليه خلق العدو المناسب، وزرع وتكريس فكرة الأولوية في القتال، والطريق الأقرب إلى الجنة والخلود، فكانت التيجة أكثر جدوى مما توقعه هذا الفكر، وتحولت الثورة وخلال سنوات قليلة من وجهتها الصحيحة باتجاه إسرائيل رأس حربة الفكر الذي يستهدف المنطقة بمقوماتها الدينية والتاريخية والحضارية ورسالاتها المتعددة المتلاقية على العيش المشترك والأهداف السامية، إلى وجهات أخرى وهمية مختلقة ليكسب بذلك هذا المشروع استنزافاً لطاقات الأطراف المناهضة له جميعها، والتي كانت تتحد رغم بعض الاختلافات بينها على وحدة الوجهة في الصراع الأساسي والحقيقي في المنطقة، والذي تحدده القدس بكل معانيها الدينية والتاريخية والحضارية والجغرافية. وما نراه الآن على أرض الواقع في ساحات مختلفة في منطقتنا يدل بشكل مخز على أن الفكر الصهيوني بمحركاته المختلفة ووسائله المتنوعة نجح في سرقة وتطويع منابع الثورة لتصب في صالح مشروعه عوضاً أن تصبّ في مسارها الصحيح الذي يحقق للثورة الحقيقية أهدافها الصحيحة.
* اعلامي سوري