ثمّة سكّة مختلفة بدأت تسلكها الكتل الشعبية منذ فترة، وهي ليست متعلّقة بفعل الانتفاض وحده، أو بالحقبة التي يتمدّد فيها، وإنما أيضاً بجملة الممارسات الناجمة عن تآكل الشرعية السلطوية. وقد حصل في الأشهر الستة الأخيرة ما يؤكّد هذا الشيء، إذ لم يعد المنتفضون يلتزمون بالسقف المتعارف عليه للاحتجاج، وأصبحت السلطة بكافة رموزها في مرمى تصويبهم، وليس فقط الجزء المسؤول داخلها عن ارتكابات أو تجاوزات. يحدث ذلك الآن في مصر وأوكرانيا وتايلاند، وسبق له أن حدث في البرازيل وتركيا وتشيلي و... إلخ. والأرجح أنّه لن يتأخّر في الوصول إلى قلب الرأسماليات والامبرياليات الغربية. روسيا أيضاً ليست بمنأى عن الأمر، طالما أنّ المحتجين في أوكرانيا بدؤوا بتحميلها مسؤولية تفاقم الوضع هناك، فالوصاية هي في النهاية شكل من أشكال السلطة، وإذا لم يفهم الروس ذلك فسيتعرّضون قريباً لما تعرّض له الغرب الامبريالي أثناء رعايته للسلطة البرتقالية الآفلة. كلّ هذه الأشكال السلطوية التي تعبّر عن الدولة الرأسمالية الليبرالية أصبحت إن لم يكن في طور الزوال، فعلى الأقلّ في طريق التشكيك الكامل «بشرعيتها التاريخية». «هذا بالضبط ما واجهته الشيوعية» في فترة من الفترات، كنتيجة مباشرة لفوات الأنماط السلطوية التي عبّرت عنها. وبما أنّ السلطة التي نواجهها في كلّ مكان لم تعد تعبّر عن الاشتراكية الصورية، أقلّه منذ العام 1989 (بما في ذلك الصين وروسيا وفييتنام)، يصبح ضرورياً إذاً ربط الاحتجاجات العارمة ضدّ السلطة بالمأزق الذي وصلت إليه الدولة في شكلها الليبرالي، وهذا ليس تأويلاً أيديولوجياً للأحداث بالمناسبة، ذلك أنّ الاحتجاجات الحالية مرتبطة بالسلطة قدر ارتباطها بأنماط الإنتاج. فهذه الأخيرة مثلها مثل السلطة التي ترعاها عبر وكلائها لم تعد تعبّر في شكلها الحالي عن تمدّد الطبقات الشعبية واحتياجاتها، وبالتالي أصبحت «علاقات الإنتاج» بحسب التفسير الماركسي الكلاسيكي عائقاً أمام تطوّر القوى المنتجة، الأمر الذي يفسّر وجود العمال والمهمّشين بكثافة في كافة الاحتجاجات القائمة الآن. فمن إضراب عمّال الحديد والصلب في مصر إلى استيلاء القرويين الفقراء أصحاب القمصان الحمراء على مقارّ حكومية أساسية في تايلاند، وصولاً إلى الحشد الذي أمّنته جبهة اليسار في فرنسا أخيراً ضدّ السياسات الحكومية الضريبية المحابية للأغنياء يتوسّع الاحتجاج أفقياً ولا يترك للسلطة المتحالفة مع الرأسمال مجالاً يذكر للمناورة. لقد ناوروا كثيراً في السابق بتذكيرهم الجميع أنّ الاحتجاجات مؤقتة، وأنها ستنتهي تماماً كما بدأت، أي حين تفقد زخمها ويصبح أصحابها جزءاً من السلطة. المسألة عند الرأسماليات ونخبها كما يفهم من تقديمهم للأمر هي مسألة صراع على السلطة، وعليه لا يعود الاحتجاج بالنسبة إلى هؤلاء جزءاً من صيرورة اجتماعية شاملة، لأنّهم إذا تعاملوا على هذا الأساس سيصبحون مجبرين على التعاطي مع الاحتجاجات بوصفها صراعاً بين طبقتين أو أكثر، وهو ما لا يطيقون سماعه أو الإقرار به. فمبجرّد حدوث ذلك ينتقل الكلام عن أزمة الرأسماليات من «حيّز التجريد» إلى حيّز الواقع، ويغدو الحديث عن أرقام البطالة المتزايدة وعواقب سياسات التقشّف أكثر من مجرّد استعراض للأرقام والأحوال الاقتصادية السيّئة. والحال أنّ الأزمة واقعة منذ فترة، ولكن الحديث عنها تراجع قليلاً بعد الجرعات المسكّنة التي بادر بها المصرف المركزي الأوروبي والبنك الفدرالي الأميركي، ويبدو أنّ المحاولة «نجحت» مؤقّتاً في فكّ الارتباط بين أزمات المركز المستمرّة والمتفاقمة واحتجاجات الأطراف، فبدا لوهلة وكأنّنا نعود للكلام عن احتجاجات لا تبغي إلا الدمقرطة وتوسيع هامش الحريات العامة. طبعاً لن نتوقّع من الامبرياليات والرأسماليات الدولية غير ذلك، فهذا دأبها منذ الأزل، ولكنها هذه المرة لم تفلح كما ينبغي في معالجة الأمر، إذ إنّ الأزمة لا تزال مستمرة، وتسكينها بطبع المزيد من الدولارات «يفتقر إلى الحصافة»، فضلاً عن المقدرة على تجديد الرأسمالية كما حصل في أوائل السبعينيات ــ من القرن الماضي ــ إبان فكّ الارتباط بين الدولار والذهب. لنتذكّر معاً تلك الحقبة، وكيف عصفت الأزمة بالاقتصادات الرأسمالية «جميعها» في الستينيات، مولّدة صدامات مباشرة بين الكتل التي كان يقودها اليسار والسلطة، ثمّ كيف أفضى هذا الصدام إلى وصول اليسار إلى السلطة في أكثر من مكان، قبل أن تعود الرأسمالية «لتسود من جديد» وتحلّ تناقضاتها على حساب الجميع (نتحدث عن حقبة ريغان ــ تاتشر) بمن فيهم الأجنحة الليبرالية المحسوبة على اليسار داخلها. بعد هذا «الانجاز» تضاءلت الاحتجاجات كثيراً، وظنّ البعض أنّ الرأسماليات أفلحت في جعل الاعتراض الراديكالي محصوراً «بالدول الاشتراكية» وحدها، ومن هنا ولدت نظريات نهاية التاريخ مترافقة مع زوال الدولة التي زعمت أنها تعبّر عن الاشتراكية سواء في روسيا أو في دول أوروبا الشرقية. بقيت الصين استثناء طبعاً، غير أنّها عجزت من موقعها المنافس للرأسماليات الغربية عن فعل أيّ شيء حيال المدّ الجارف لليبرالية السياسية والاقتصادية، لا بل يبدو أحياناً أنها صاحبة مصلحة منذ تحوّلها اقتصادياً باتجاه الرسملة في استمرار النمط الجديد وتوسّعه. وفي حال شكّل تهديداً لها ولمحيطها الحيوي فالأرجح لجوؤها إلى احتوائه (كما يفهم من سياساتها المستمرّة منذ عقد على الأقلّ) لا إلى الاشتباك المباشر معه. على هذا الأساس تتصرّف حالياً مع الولايات المتحدة في نزاعهما حول مناطق النفوذ في بحر الصين، وفي ضوئه أيضاً ترتّب نزاعاتها الداخلية في الأقاليم المختلفة، بحيث لا تتعدّى الاحتجاجات حين تندلع حدود الكلام عن الحقوق السياسية والثقافية للفئات المهمّشة. وهذا نهج رأسمالي غربي بالأساس، ولكنه أصبح صينياً أيضاً، وفي الحالة الوحيدة التي كاد أن يتوسّع فيها الاحتجاج أكثر ممّا ينبغي جرى التعامل مع الأمر بوحشية شديدة (مجزرة ساحة تيان إن مين في العام 1989)، وتوبع الحدث في الغرب على أساس أنه مجزرة ضدّ الديمقراطية فحسب.بكلام آخر همّش «البعد الطبقي» من الموضوع، ولم يجر التطرّق بالمرّة إلى حقيقة بسيطة تقول بأنّ الانتفاضة المجهضة حينها كان بإمكانها إذا ما توسّعت أن تحدث تغييراً فعلياً في بنية المجتمع الصيني الطبقية. أمّا النقاش بأنّها كانت انتفاضة ضدّ الاشتراكية (كنظام اقتصادي واجتماعي) أساساً، «فليس له ما يثبته»، إلّا إذا وضعناها كما يفعل الغرب إلى جانب ثوراته الملونة التي اندلعت في أوروبا الشرقية على دفعتين. وهذا سجال يجب أن يخاض الآن، وعلى أكثر من جبهة، لأنّ هنالك اتجاها سائداً في مختلف الأوساط السياسية المتأثّرة بالاحتجاجات الحالية إلى نزع أيّ طابع اقتصادي عن الأحداث، بما يعنيه ذلك من ملاقاة للسلطة التي تعبّر عن الأقلية المحتكرة للثروة والنفوذ في منتصف الطريق. ثمّة صلة طبعاً بين السجال أعلاه وما تدّعيه الدولة الليبرالية لنفسها من تمثيل وشرعية، فالأقلّية السلطوية (وهي أقلية حتّى ولو أتت بأكثرية «أصوات الناخبين») لا تعترف بأنّها أقلية وعندما تستعرض من موقعك الرافض لها أساليب تهميشها للأكثرية الشعبية الفعلية تحاججك هي وأبواقها بالكلام إيّاه عن الصندوق وتداول السلطة والشرعية المنتخبة و...الخ. وهنا ندخل تقريباً في حلقة مفرغة، والسبب في ذلك أنّ «الفهم الصندوقي» للديمقراطية لا يساعدنا على استيعاب الآلية التي تجعل من الاحتجاج تكثيفاً لكلّ معاني اليأس والغضب من الدولة الرأسمالية الليبرالية المهمّشة للشعب، والقائمة بالضرورة على عطب بنيوي اسمه صندوق الاقتراع. لنأخذ مصر على سبيل المثال، وهي ليست حالة استثنائية بالمناسبة، والذي يدّعي أنّها كذلك متكّئاً على وضعية السيولة التي تعيشها منذ يناير 2011 لا يعرف شيئاً عن محدودية القدرة التي تملكها الدولة الليبرالية لتمثيل الشعب. في مصر كما في غيرها انتفض الناس أكثر من مرّة، وحين اتفقوا على الاحتكام إلى الانتخابات في صيف العام 2012 كانوا يختبرون أجهزة الدولة فحسب، ولا يعطونها صكّاً مفتوحاً لتدبير شؤونهم في السنوات الأربع المقبلة، وهذا جديد على السلطة هناك، تماماً مثلما هو جديد على كلّ من يراقب الحالة في مصر ويخشى من انتقالها إليه. هذه الخشية مرتبطة بالعجز القائم في الدولة الليبرالية ــ، أيّ دولة عن استيعاب حجم السّخط الذي ينتاب الطبقات الشعبية جرّاء تهميشها المستمرّ، وربط صعودها الطبقي بمعايير اقتصادية رأسمالية كالنمو الاقتصادي وحجم الدين العام والاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسّطة و... إلخ. وهي على أيّ حال معايير تحدّدها الدولة وبالتالي لا ضرورة لمناقشتها خارج الأطر الضيّقة للاقتصاديين المرتبطين بالكومبرادور المحلّي، وإذا حصل نقاش فعلاً فلا يكون للطبقات المتضرّرة من التهميش والإقصاء دور واضح فيه. لنتّفق قبل ذلك على معنى كلمة تهميش، إذ انّه لا يرتبط كما يشاع ليبرالياً بالحرمان من الحقوق السياسوية والثقافية و...إلخ، بل بالإخراج الكامل من الدورة الاقتصادية، وبالتالي تحويل كتلة كبيرة من البشر إلى مجرّد فائض يمكن التعامل معه بعد طرده وحرمانه من حقوقه الاقتصادية المكتسبة بالقطعة. فهو لم يعد جزءاً من كتلة متماسكة وصلبة تدافع عن وجودها بالضغط على السلطة وإجبارها على التراجع عن امتيازاتها، وعليه يصبح ممكناً الاستفراد به كما بغيره، وبالتالي إقناعه بأن لا سبيل إلى عكس آلية التوزيع القائمة في البلد (من تحت إلى فوق أو من الفقراء إلى الأغنياء)، وهذا مدخل تعتبره الرأسمالية الحاكمة جيداً لهزيمة هؤلاء الناس. قد تحصل الهزيمة وقد لا تحصل أيضاً، ولكن مجرّد التسليم بالأمر والقبول بأن تمنّ علينا الدولة الليبرالية بعد طردنا بتعويض هزيل من هنا أو بفرص عمل لا يتوافر فيها حقّ التثبيت من هناك يعني أنّ الأمر قد قضي. علينا أنّ نفهم ذلك جيّداً ونحن نحلّل مثلاً ظاهرة الاحتجاجات «الفئوية» التي توافقت السلطات المتعاقبة هناك (مبارك ثمّ المجلس العسكري السابق والإخوان والآن الحكومة المتحالفة مع الجيش) على ذمّها واعتبارها معادية ليس فقط للسلطة، وإنّما لكيان الدولة ووجودها أيضاً. في الحقيقة هي ليست ظاهرة وإنما فعل واعي يحوّله المهمّشون بالتواتر إلى خيار سياسي واقتصادي وأيديولوجي ضدّ الدولة الرأسمالية الليبرالية وانحيازاتها الاجتماعية. فطالما استمرّت هذه الأخيرة في احتكار الثروة وفي سد قنوات توزيعها سيستمرّ المهمّشون والعمّال والفلاّحون والمياومون والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى في خيارهم الاحتجاجي الواعي، غير عابئين بما يقال عنهم، أو بما تفعله الدولة وأجهزتها القمعية في مواجهتهم. هي الآن تجرّب كما جرّب الإخوان في السابق فكرة الحشد للانتخابات النيابية بعد إقرار الدستور والتصويت عليه، وهذا جيّد بالنسبة لقطاع من الشعب، لكنه لا يحلّ مشكلة الانسداد الديمقراطي الذي وصلت إليه الدولة الليبرالية، ولا يساعد على فهم الكيفية التي تدفع بالناس إلى التمرّد على فكرة الصندوق. وكما قلت سابقاً، الأمر هنا لا يخصّ مصر وحدها، فما يحدث الآن في الأطراف (تايلاند، بنغلاديش، أوكرانيا...) مؤشّر على حقبة جديدة لا يد عليا فيها لأحد، وهذا في حدّ ذاته حكم على الديمقراطية التمثيلية وعلى شكل تنظيمها للعلاقة بين المجتمع والسلطة بالفوات والانقطاع عن الواقع. ثمّة فوضى قادمة بالتأكيد، ولا بدّ من استباقها بالتنظيم الجيّد والواعي، وهو ما تفعله الاحتجاجات القطاعية عبر الإضراب وحرمان «الدولة الرأسمالية» من حصّتها في الإنتاج، سواء من خلال الإدارة الذاتية للمنشآت والمعامل، أو بواسطة المطالبة بإقالة ممثّليها وعملائها داخل المصانع. يبقى أن «نبشّر» الدولتيين بحقبة طويلة من عدم الاستقرار، وهذا ليس اختياراً ذاتياً بقدر ما هو نتاج لما فرضته الدولة الرأسمالية على الشعوب من خيارات، وجلّ ما يفعله المهمّشون هنا ومن ورائهم «الشعب» أنهم يردّون التحية بأفضل منها.
* كاتب سوري