لا يكفّ الواقع في مصر عن التغيّر والإتيان بالجديد. يحصل ذلك بسرعة مدهشة إلى درجة أنّك تضطرّ لتعديل قراءتك له تباعاً، وبما يتناسب مع «الانعطافة» التي يواجهها. فبعدما كان الاحتجاج على إقرار مادة المحاكمات العسكرية في الدستور محصوراً بالثوريين وحدهم بدأت تتغيّر الأمور وتأخذ منحى مختلفاً بمجرّد دخول الشرطة وقوى الأمن على الخطّ. وهذا ليس جديداً على أيّ حال، بما أنّ الأمن هو ما يتبقّى من السلطة بعد «تصدّع التحالفات» التي أتت بها إلى الحكم. وفي مصر الآن مقدّمات ملموسة لهذا التصدّع، إذ إنّ تحالف 30 يونيو «لم يكن يوماً متماسكاً»، وما أتاح له البقاء حتى الآن هو القاعدة الشعبية العريضة المؤيّدة للجيش، وكذا النقمة الشديدة على الإخوان وحلفائهم من التكفيريين والسلفيين. صحيح أنّه خضع لاختبارات متعدّدة في السابق، إلا أنّه كان يخرج منها معافى دائماً، والسبب في ذلك أنّ من يواجهونهم ليسوا قادرين على الحشد خارج الدائرتين الاخوانية والاسلاموية. وقد أثبتت المواجهات بين الإخوان والسلطة صحّة هذه النظرية، ولم تثبت بالمقابل صحّة ما يقوله الإخوان عن قرب انتهاء ما يسمّونه «الانقلاب العسكري». حتّى مجزرة كبيرة كمجزرة رابعة العدوية لم تستطع أن تكسب تعاطفاً من أيّ نوع في الشارع، باستثناء ما عبّرت عنه كتلة ثورية ظهر لاحقاً أنّ لها «تأثيرها الفعلي» في الناس، وأنّها قادرة أكثر بكثير من الإخوان على نزع الشرعية عن السلطة إذا ما توافر لها الشرط الموضوعي. بالتأكيد، سيمرّ وقت طويل قبل تبلور هذا الشرط على نحو يذكّر بواقعتي يناير 2011 ويونيو 2013، إلا أنّ مؤشّراته قد بدأت بالظهور فعلاً ولو على نحو موضعي، وأوّلها البروفة التي حدثت قبل أيام من الآن في ذكرى محمّد محمود الثانية. إذ لم يعد بإمكان الثوريين احتمال الجناح الأمني داخل السلطة، وخصوصاً بعد حمل هذا الأخير حكومة الببلاوي على تقييد الحقّ بالتظاهر، وهو المكسب الوحيد تقريباً الذي خرجت به الناس من انتفاضها على السلطة (بكافة أجنحتها: مبارك والمجلس العسكري السابق والإخوان والسلطة الحاليّة المتحالفة مع الجيش) طيلة السنوات الثلاث الفائتة. وهذا بالضبط ما جعل من ذكرى محمّد محمود الثانية نقطة انطلاق لما سيحدث بعد ذلك، وأيضاً مناسبة لتذكير السلطة الحالية بما ينتظرها لو تجاهلت القطاعات التي ساهمت إلى جانب مؤيدي الجيش في إيصالها إلى الحكم. البداية بهذا المعنى كانت رمزيّة، ولم يتوقّع لها من جانب كثيرين (وأنا منهم وقد كنت مخطئاً بالطبع) أن تكبر أكثر ممّا فعلت، ولذلك هي لم تحصد العدد الكافي لإجبار السلطة على مراجعة ما تنتوي فعله بخصوص إقرار قانون التظاهر وتثبيت «مبدأ» المحاكمات العسكرية للمدنيين في الدستور. في هذه الأثناء كان حراك من نوع آخر يتصاعد في الشارع احتجاجاً على أوضاع العمّال في بعض المصانع العريقة (إضراب عمّال الحديد والصلب)، ويلاقي تحرّك الثوريين والحقوقيين في الضغط على السلطة، وعلى الأرجح تسبّب الأمران في إفقاد السلطة توازنها على نحو «جمّد» التغطية الشعبية التي حظيت بها ممارساتها طيلة الأشهر الماضية. فلجأت في ضوء هذا الاختلال إلى نسق جديد في التعامل مع الاحتجاجات غير الإخوانية. إذ منذ بداية التحرّكات المساندة لمرسي جرى تخصيص الإخوان بالقمع الأمني دون غيرهم، وقد لاقى هذا النهج كما أسلفت أرضية شعبية جاهزة لتلقّف أيّ إبعاد للإخوان عن المشهد. وبالقدر نفسه من الحرص على تظهير المواجهة مع الإسلاميين وجعلها تناقضاً رئيسياً بالنسبة إلى «الشعب» صير إلى تصنيم «الحرب» التي يخوضها الجيش مع التكفيريين في سيناء (لم تسلم البيئة السيناوية من القمع العسكري وحدث لها «بالضبط» ما حدث للبيئات الحاضنة للمعارضة هنا في سوريا)، بحيث لا تعود الأصوات المشكّكة بهذا «التناقض الصوري» جزءاً من المشهد المعاد تشكيله بمعيّة 30 يونيو و3 يوليو. وحين تمعن الأصوات تلك في تشكيكها وتخرج إلى العلن منادية في تحدّ واضح للجميع «بالحل السياسي» تعامل على أساس أنّها معزولة، وبالتالي يجري تجاهلها وتركها تغرّد كما تريد في الفضاء الافتراضي. كما قلت، بقي الأمر يراوح هكذا لأشهر عديدة إلى أن عاود الثوريون الظهور من جديد، وبديناميّة مختلفة هذه المرّة، مدعومين باحتجاجات عريضة في أوساط الطلّاب والعمّال، وهذا ما حاولت إيضاحه في السابق بالكلام عن حاجة الثوريين إلى قاعدة اجتماعية عريضة يمكنها مواجهة السلطة بجدّية أكبر والضغط عليها، إن لم يكن على قاعدتها الاجتماعية كذلك. فالتحرّك في الشارع بعد هذه التحوّلات بات له حيّز فعلي لا صوري، وأصبح بالتالي يمتلك وجوده المادي المستقلّ بالضرورة عن الوجود المادي للإخوان وكتلتهم. وهنا يجب على الثوريين ألا يعاودوا ارتكاب الأخطاء التي سبق وارتكبوها إبّان تحالفاتهم السابقة مع الإخوان، فهذا الفصيل، وإن بدا وجوده في مواجهة السلطة مناسباً للحشد والتعبئة في مرحلة ما، إلا أنّه كالعادة وبمجرّد أن يتمكّن من التماسك مجدّداً يبدأ مباشرة بالاستفراد بالفئات المهمّشة والضعيفة داخل المجتمع. وهذه الأخيرة تعبت من التهميش والثورة معاً ولا قبل لها بمواجهة أحد، فكيف تواجه الإخوان الآن؟ بالطبع يفعل التنظيم ذلك حتّى وهو خارج السلطة، وإذا لم يتصرّف بنفسه تفادياً للإحراج فانّه يترك حلفاءه يتصرّفون، غاضّاً الطرف عنهم ومحمّلاً المسؤولية للسلطة التي تقاعست عن حماية أولئك المهمّشين (سأوضح هذه النقطة لاحقاً). هذا أيضاً جزء من الواقع الذي يتعيّن رؤيته ووضعه تحت الضوء جنباً إلى جنب مع الجزء الآخر المتعلّق بعودة المواجهة بين السلطة والثوريين. فبالإضافة إلى ما حدث في الأيام الأخيرة من قمع منهجي للحركات الاحتجاجية المتصاعدة (اعتقال وتوقيف متظاهري مجلس الشورى، الحكم على فتيات حركة 6 الصبح بالحبس أحد عشر عاماً، إطلاق الرصاص الحيّ على حرم جامعة القاهرة وقتل الطالب في كلية الهندسة محمد رضا، اعتقال الناشط البارز وأحد أكثر رموز اليسار المصري وضوحاً وراديكالية علاء عبد الفتاح... إلخ) ضدّ السلطة وقعت اعتداءات همجية على الأقباط في قرية البدرمان بدير مواس بمحافظة المنيا، لكنها بخلاف الاحتجاجات ضدّ الحكومة والجيش لم تلق أيّ اهتمام يذكر، وسقطت بالكامل من جدول أعمال الصحافة والإعلام في الأيام الماضية. وقد لمست أثناء متابعتي لأحداث العنف الطائفي بالمنيا تذمّراً فعليّاً من جانب الناس تجاه الحقوقيين الذين لم يولوا هذه القضية الاهتمام الكافي وتركوها نهباً لتواطؤ السلطة وعدوانية التكفيريين. وكان واضحاً أيضاً أنّ الانتقادات موجّهة بالتحديد للقطاع الثوري الذي أبدى تضامنه مع فتيات الإسكندرية المحكوم عليهنّ بالحبس فيما لم يفعل المثل بالنسبة إلى المعتدى عليهم من الأقباط (علماً أنّ طفلة في عمر فتيات الإخوان واسمها ايفون قد رميت خلال الاعتداءات وعمليات التهجير والنهب والحرق التي قام بها الوهابيون من سطح بيتها!). يعوّل المهمّشون عموماً وليس فقط الأقباط على هؤلاء لأنّهم الوحيدون الذين أبدوا خلال المرحلة الماضية اهتماماً بواقعهم، ويخشى الآن من تراجع هذا الاهتمام بعدما كسر الجليد بين قطاعات ثورية بعينها (حركة 6 ابريل مثلاً) وجماعات إخوانية أو قريبة من الإخوان. وقد لمّح إلى ذلك صراحة التحالف الناطق باسم الإخوان ــ التحالف الوطني لدعم الشرعية ــ، حين تحدّث عن اتصالات تجرى مع قوى ثورية لتكوين جبهة واحدة تستطيع مواجهة الحكم العسكري، فيما لم يصدر عن المعنيين بهذا الكلام ما ينفي تصريحات الإخوان وممثّليهم. لا يبدو أصلاً أنّ هنالك من يهتمّ لنفي الكلام ذاك أو تأكيده، فالأولويّة الآن تظهر وكأنّها لكسر السلطة القائمة سواء تمثّلت بوزارة الداخلية أو بالحكومة، ولذلك تصبح الخشية أعلاه مفهومة، نظراً للتداخل الحاصل في القواعد التي تنشط داخل الجامعات، وهو أمر سبق واختبرته الثورة في أيّامها الأولى، إلا أنّه يختلف الآن باختلاف المرحلة التي فرضت على المهمّشين نمطاً مغايراً من التعامل مع الإخوان. فكما تتعامل الجماعة مع السلطة الحالية والجيش بوصفهما مسؤولين عن المجازر التي ارتكبت بحقّ أعضائها (ومرّة أخرى هي مجازر مروّعة لا أضرار جانبية كما تحاول السلطة الحالية ومن خلفها الجيش إيهامنا)، كذلك يفعل الأقباط وتفعل قطاعات عريضة من نساء مصر مع الإخوان. إذ إنّ الأساس هنا كما في حالة الجيش والأمن هو التعامل مع الفئات المهمّشة كسلطة أمر واقع، وهذا ما يحدث منذ فترة بغياب السلطة النظامية عن تلك المناطق (الصعيد تحديداً)، وأحياناً بتشجيع منها ومن وسائل الإعلام التي تتبع لها مباشرة أو مداورة. لذلك يشعر من يقيم هناك بأنّه متروك تماماً، ومعرّض في أيّ وقت لفائض القوّة الذي يتمتّع به الإسلاميون في الصعيد، ويعوّضون عبره عن تراجعهم أمام السلطة في القاهرة وباقي المدن الكبرى. هذا الجانب من الواقع المتحرّك باستمرار هو الذي يهمله النشطاء في سياق مواجهتهم الحالية مع السلطة، وفي تقديري أنّه لا يقلّ أهمية عن محاولة الإبقاء على الهامش الذي وسّعته الثورة، ليصبح في متناول جميع الفئات والطبقات الاجتماعية، لا في متناول فئة أو طبقة بعينها. من حقّ الثوريين أن ينتفضوا باستمرار حفاظاً على مكتسباتهم ومكتسبات الطبقات الاجتماعية التي وقفت خلفهم، ولكن عليهم أيضاً واجب الإنصات إلى المهمّشين الذين باتوا عملياً على هامش الثورة لأسباب متعدّدة، أهمّها سلبهم حقّ الاعتراض بالقوّة المادية الخشنة التي تراجعت الدولة عن احتكارها في مناطق، لقاء إطلاق يدها في مناطق أخرى. بالمناسبة، هذه ديناميّة أيضاً، ولكنها تتعلّق بثنائية سلطة ــ إخوان، وهي جديرة بالمتابعة فعلاً، لا لأنّها تظهر فحسب كيفية التعامل مع الأطراف ومهمّشيها، بل لكونها تضع أيضاً السلطة والإخوان في طرف، وكلّ الآخرين المتضرّرين من ممارساتهما وجرائمهما في طرف آخر. هل من قال جبهة موحّدة لإسقاط الانقلاب؟ * كاتب سوري