"الإخوان المسلمون هم حزبٌ غير اعتياديّ. أكثر المسائل السياسية المألوفة لا تهمّهم ببساطة. على سبيل المثال، الإقتصاد ليس هاجساً أساسياً لديهم. جلّ ما يهمّهم هي معدلات الولادة والتعليم. من وجهة نظرهم، المسألة بسيطة وواضحة: الفئة المجتمعية التي تحوز أعلى نسب ولادات، والتي تورّث قيمها على الشكل الأكفأ، هي التي تنتصر" (من الرواية: ضابط مخابرات فرنسي يتكلم عن صعود الإسلاميين في فرنسا) .
بالنّسبة الى الأستاذ الجامعي فرانسوا، بطل رواية "خضوع" للكاتب الفرنسي ميشيل هويلبك، فإنّ الجزء "الجيد" من حياته قد انتهى منذ سنوات طويلة وقد دخل، وهو لم يزل في أواسط الأربعينيات، في حالة قانعة من "الموت المبكر". هو لم يتزوّج ويؤسس أسرة، وتجارب أكثر أبناء جيله مع الزواج والعلاقات لا تجعله يأسف على خياره. حياته الفكرية وطموحاته خبت منذ زمن بعيد. موضوع تخصّصه الأكاديمي لم يعد يستهويه منذ قدّم أطروحته وتعيّن في الجامعة، وهو لا يفكّر في العودة اليه أو يرى أنّ في وسعه اضافة شيءٍ جديد. الى ذلك، فإنّ فرانسوا لم يحبّ التدريس يوماً. هو يعتبر أنّ فكرة "نقل المعرفة" وهم، وأن الفروقات الفكرية والعقلية بين الأفراد هي من الاتّساع الى درجةٍ تنفي امكانية التعليم الجماعي، أو محاولة ردم هذه الهوة عبر التدريب ونيل الشهادات.
العزاء الوحيد لدى بطل الرواية هو أنّه قد تمكّن من تدبير حياةٍ ليست بهيجة، ولكنها تحوي القدر الأدنى من الإزعاج والعناء. حصر حصصه التدريسية في يومٍ واحد في الأسبوع، حتى يتفرّغ في باقي الأيام لطقوس تقاعده المبكر: قراءة في السرير مع قنينة ويسكي، مشاهدة التلفزيون، تسخين وجبات الطعام الجاهز ... كما أنّ ارتباطه بالجامعة يسمح له بلقاء طالبات شابّات وإقامة العلاقات معهنّ، بمعدّل مثالي هو طالبة لكلّ سنة أكاديمية؛ تبدأ العلاقة عادةً بين بدء الصفوف وعطلة الشتاء، وتنتهي مع الامتحانات النهائية وإجازة الصيف (هنا، يقدّر فرانسوا ايضاً ميزة أنّه ذكر، وأنّ عملية الإنحدار الجسدي لدى الرجال تجري ببطءٍ وتدرّج وعلى مدى سنوات، فيظلّ الرجل "مرغوباً" وقادراً على جذب النساء الشابات حتى عمرٍ متقدّم نسبياً، فيما العملية نفسها لدى النساء ــــ يقول الكاتب ــــ سريعة وصادمة وقاسية، يُقاس فيها "الإنحدار" بالأشهر، وأحياناً بالأسابيع).
لهذه الأسباب كلّها، لم ينزعج فرانسوا أو يحتجّ حين تبلّغ أنّه قد صُرف من عمله وأحيل الى التقاعد المبكر، لأن جامعة باريس الثالثة ــــ ككلّ التعليم العالي في فرنسا ــــ قد تمّ تخصيصها، وصارت (بتمويل سعودي سخي) جامعة اسلامية لا يمكن أن يدرّس فيها غير المسلمين. تخصيص التعليم كان من نتائج وصول مرشّح "الإخوان"، محمّد بن عباس، الى الرئاسة في فرنسا؛ والمال النفطي سمح بعرض صفقةٍ مغرية على فرانسوا وزملائه الذين لم يتحوّلوا الى الإسلام، فنال تقاعداً كاملاً قبل عشرين سنةٍ من استحقاقه، وراتب الثلاثة آلاف يورو سيسمح له بمتابعة نمط حياته الحالي، وانتظار الشيخوخة والموت في ترفٍ وراحة. وهو لا يريد أكثر من ذلك.
المثير في رواية هولبك هو أن الإسلام لا يحكم فرنسا، عام 2022، عبر "فتحٍ" أو غزو، ولا عبر انتفاضة للضواحي وحربٍ أهلية (كما تخوّف، باستمرار، المنظمات المعادية للمسلمين)؛ بل إن وصول إسلامي الى الرئاسة جاء عبر احتضان النخبة الفرنسية، وجزءٍ مهم من الطبقة الوسطى، لهذا الخيار. "الإخوان" ليسوا سلفيين، بل إن من "ميزاتهم" لدى الجمهور هو أنهم تعهّدوا قمع المجموعات السلفية والجهادية في الأحياء العربية، وتسيطر شبكاتهم على شباب الضواحي وتحتويهم، فينخفض معدل الجريمة والشغب فيها الى ما يقارب الصفر. كما أن بن عبّاس ليس إماماً أو داعية، بل هو سياسي محنّك كان من أصغر خريجي مدرسة "بوليتيكنيك" النخبوية، ومن ألمع طلاب معهد الإدارة العليا في باريس، وهو يقدّم الإسلام كـ "حلٍّ" حضاري لأكثر مشاكل فرنسا، وكنموذجٍ للتعايش والسلم الإجتماعي. قرارات الرئيس لم تكن غير مدروسة: حين تمّ تخصيص التعليم مثلاً، والغاء التدريس العالي المجاني، قامت احتجاجات، ولكن المتعلمين سرعان ما انتبهوا الى أنّ قيمة شهاداتهم ستزداد، كما أن الكاثوليك واليهود والأثرياء قد ناسبهم أن يصيروا قادرين على بناء مدارسهم الخاصة، وتعليم أبنائهم كما يرغبون. وحين أقرّ بن عبّاس مشروع "المنحة العائلية"، التي تحثّ النساء على ترك العمل والعودة الى المنزل، اعترض ــــ في البداية ــــ اليسار والنسويون ومن يسمّيهم بطل هويلبك "ديناصورات 1968" (الذين حافظوا، بطريقة ما، على موقعٍ في الإعلام مع أنّه لم يعد لهم وجود بين الناس)، ولكنّ الإنخفاض الفوري المهول لمعدلات البطالة وعودة النمو الى الإقتصاد المنهك أخرس الإحتجاجات.
السبب الأعمق لصعود الإسلام في اوروبا، في عالم هويلبك، لا يتعلّق بالسياسات وأرقام الناخبين، بل أرقام الخصوبة. مصدر قوّة أي نظام لتنظيم الحياة لا تتأتى من صحّته أو نبل عقيدته أو رقيه الحضاري، بل من قدرته على إعادة انتاج نفسه، وهذا يعني، بعبارات أخرى، إنشاء العائلات وإنجاب الأطفال. يشرح أحد أبطال الرواية أنّ المعادلة سهلة: إحصائياً، من يكبر ضمن أي نظامٍ ديني (اسلامي، يهودي، مسيحي، لا يهم) سيتبع، على الأرجح، ديانة أهله. من يغيّر دينه أو يخرج منه هم أقلية لا قيمة لها إحصائياً. وبهذه المقاييس، النّظام الأفعل لإنتاج عائلاتٍ وأطفال هو النظام البطركي، الذكوري، الديني المحافظ. الملحدون "المتحررون" يتزوجون في سن متأخرة، أو لا يتزوجون، ولا يمكنهم إدارة عائلة كبيرة فيما المرأة تعمل، وحتى لو كان الرجل مقتدراً مادياً وراغباً، فهو لا يستطيع الزواج من عدة نساء وانجاب الكثير من الأولاد. حين قرّرت الحضارة الأوروبية اعتناق الإلحاد الإنسانوي، تجزم احدى شخصيات الرواية، فهي كانت ترتكب فعل الإنتحار.
بعد تبلّغه قرار صرفه من العمل، التقى فرانسوا أحد زملائه السابقين في هيئة التدريس؛ استاذ قليل الموهبة ولكنه طيّع ووصولي، تحوّل مباشرة الى الإسلام وتوظف في الجامعة الإسلامية الجديدة. شرح لفرانسوا، مغرياً اياه بالعودة، أن رواتبهم قد ارتفعت عدّة أضعاف، وأن القيود على المناهج بسيطة نسبياً (مسألة تحوّل الشاعر ريمبو الى الإسلام، مثلاً، تصير قطعية وتدرّس كواقعة)، وقد شجّعه الإخوان على الزواج من "صديقته"، وهي طالبة سابقة لديه. ثمّ التفت مستذكراً وهو يودّعه: "أعتقد أنّني سأتّخذ زوجةً ثانية". (يتبع)