إلى عمّي الذي رحل وهو يقاوم الحرب على طريقته
تشيع بين الموالين هذه الأيام مفردات يقينية توحي بالانتصار. وهذا يذكّرنا بالخرافات التي عمّمتها المعارضة قبل عامين من الآن عن حتمية انتصارها على النظام. لا أحد من الطرفين اهتمّ بما تمليه الوقائع اليومية من معطيات وحقائق. كانوا يهتمّون أحياناً، ولكن ليس من موقع الحرص على الأغلبية التي تسحق يومياً، فهي لا تعنيهم كثيراً بقدر ما يعنيهم استنزافها وجرّها إلى بيت الطاعة. وبما أنّها المعنية أكثر من غيرها «بانتصاراتهم» وتفاهتهم فقد قاومت ما أمكنها، ولفظتهم الواحد تلو الآخر. أوّلاً لفظت النظام وأحلّت سلطة محلّية مكانه، ثم ما لبثت أن تبرّمت من هذه الأخيرة وفسادها واستعانت بالسلفيين عليها، قبل أن تعلن في طورها الأخير أن لا قبل لها بسلطة على الإطلاق مهما كانت «شرعيتها». ثمّة حتمية إذاًً غير حتمية الانتصار التي يتباهى بها الطرفان المحتربان، وثمّة واقع يتغيّر باستمرار واضعاً الأغلبية الشعبية التي هي الحتمية الوحيدة هنا أمام احتمالات ليست جيّدة في المجمل. فإمّا أن تندثر «الأغلبية» في مواجهة قوى الحرب التي «ابتلعت» البلد واقتصاده، أو أن تواصل الصمود والتحكّم في التفاصيل التي تعجز قوى الحرب عن احتوائها بفعل تحوّلها إلى سلطة مكروهة ومنبوذة. بالطبع لم يعد الاختيار ترفاً هنا، فقد أجبرنا جميعاً على خوض الحرب بشكل أو بآخر، ومن لم يخضها منّا «تكيّف» معها ومع نتائجها الدموية. وهذا ليس بالأمر الجيّد، ولكنه يعبّر في أحد أوجهه عن وعي شعبي متعاظم بالدور الذي يلعبه المجتمع في غياب السلطة أو في ضوء تحوّلها إلى طرف من أطراف الاحتراب. لكلّ امرئ أن يقول ما يشاء في تفسير «حالة التكيّف» هذه، فهي بالنسبة إلى الموالين انتصار على المؤامرة والمجموعات الإرهابية، وبالنسبة إلى المعارضين تحجيم للنظام ومنعه من الإيغال أكثر في دماء السوريين، ولنا نحن أيضاً أن نقول في تفسيرها ما نشاء. إذ إنها ليست حالة معزولة وإنّما نتاج صيرورة تاريخية استمرّت سنتين ونصف سنة وأفرزت ظواهر لا يمكن اختصارها بالكلام عن نظام ومعارضة، أو عن نظام وثورة. هذه التصنيفات أصبحت وراءنا، وما لم نتجاوزها بالمعنى الرمزي فسنغدو عاجزين عن فهم السلوكيات التي يتخطّى بها الناس الحرب، و«يبتلعونها» بالمعنى الفعلي. لنأخذ مثلا ظاهرتي السكود والهاون. في الحقيقة هما ليستا ظاهرتين ولن تصبحا كذلك طالما بقيتا في إطار ما يفعله النظام وما تفعله المعارضة، فالأولى هي نتاج لتصميم النظام الفاشي على تدمير بيئات المعارضة وسحقها بكافّة الوسائل المتاحة، وهذا «أمر طبيعي» في ظلّ التحوّل الذي يطرأ على سلوك السلطة أثناء المواجهة. الوحشية هنا لا تعتبر ظاهرة لأنّها كامنة في بنية السلطة منذ الأزل، وتوقيت ظهورها هو المتغيّر الوحيد، ولذا يقال عن الحرب إنّها تحوّل السلطة إلى ميليشيا أو إلى طرف من أطراف الصراع، وتخرج منها «أسوا ما فيها». وما يصحّ على الحالة الأولى (السكود) يصحّ أيضاً على الثانية (الهاون)، فالمعارضة كفّت عن أن تكون «مثالاً أخلاقياً» مذ قرّرت التحول إلى سلطة والتعامل مع المجتمع غير الممتثل لسلطتها على أساس أنّه هدف مشروع يمكن التعامل معه بكلّ الأساليب المتاحة. ومن تجربتنا نعلم أنّ الاستعداد للتصرّف كسلطة كان موجوداً «منذ البداية» لدى المعارضة المسلحة، وما أخّره هو قلّة حيلتها تجاه الكتلة المتردّدة والرافضة للالتحاق بمشروع إسقاط النظام. وقد تدرّج الحال بهؤلاء شيئاً فشيئاً، فعندما بدؤوا يطردون النظام من بيئاتهم كانوا يحاذرون من المسّ بالمدنيين الموالين، وحين يحصل المساس بأحدهم يقال إنّه استهدف لأسباب لها علاقة بعمالته المباشرة للسلطة (مخبر أو ما شابه). جرت تحت هذه اللافتة أوسع عملية إجلاء للموالين غير الممتثلين بما يكفي للسلطة الآخذة بالتكوّن. واللافت أنّ إجلاء المعارضة للأهالي الموالين هنا جرى بالتزامن مع إجلاء السلطة لأهالي معارضين في مناطق محاذية أو قريبة، وفي الحالتين كانت الرغبة بالاستئصال وممارسة أكبر قدر ممكن من الإذلال هي ذاتها. لذلك يبدو غريباً استهجان المسلّحين لردود الفعل تجاههم في أكثر من منطقة، وبالتالي استمرارهم في التصرّف على الوتيرة ذاتها من العنجهية والصلف، وكأنّهم لم يتحوّلوا بعد إلى سلطة تمارس بحقّ الموالين و«الكتلة الصامتة» ما يمارسه النظام بحقّ البيئة المنتفضة ضدّه. على هذا الأساس تجري الآن في «بيئات موالية» تحوّلات غير منظورة، ولكنها ستكون فاعلة في المستقبل حين تتفكّك السلطة القائمة ويؤتى بأخرى على أنقاضها. الهاون هنا سيلعب دوراً مماثلاً لدور السكود بالنسبة إلى المعارضة وبيئتها. فما أقعد النظام عن الفعل والتأثير هناك ــ أي في ريف حلب حيث تسقط صواريخ السكود على رؤوس الناس بوتيرة منتظمة ــ هو سياسة المجازر وتدمير المدن التي أخذ بها بعد أن ثبت بالملموس أنّ مرحلة التفاوض مع البيئات المحلّية (هل من يذكر جلسات الحوار مع الأهالي في المدن والأرياف؟) لم تؤت أكلها. حينها فقط خرج النظام نهائياً من ضواحي حلب وريفها الفقيرين، وليس في أيّ وقت آخر. حصل ذلك لا لأنّه لم يعد يمثّل شيئاً، بل لأنّ القاعدة الشعبية التي يدّعي تمثيلها بدأت تحسّ بوطأة السلطة عليها. فحين تتوحّش هذه الأخيرة تفقد كلّ شيء، بما في ذلك قواعدها التقليدية من العمّال والفلّاحين، وهذا ما حدث بشكل أوضح في درعا، المدينة التي تعتبر حاضناً تاريخياً لحزب البعث، وخزّاناً بشرياً للكوادر العاملة والفلّاحية. لنعد إلى حلب قليلاً، فثمّة تحولات تجري هناك منذ فترة على قاعدة خروج النظام منها وتحوّل المعارضة إلى سلطة مطلقة. وقد رصدت على أكثر من مستوى، وهو ما يجعل منها «حقيقة صلبة»، بخلاف ما يمكن أن يحصل لو رصدتها أطراف قريبة من السلطة فقط. لنأخذ مثلاً ما أوردته «ذي غارديان» على لسان مراسلتها في حلب منذ أيام. فقد كتبت فرانشيسكا بوري عن معاناتها كصحفية هناك، وروت «كيف أنّ السكّان المحليين في حلب لا يتحدّثون اليوم عن المناطق «المحرّرة» في سوريا بل يشيرون إليها بالمناطق في غرب حلب وشرقها». وتضيف: «لم يعد الأهالي يطلعوننا على صور أبنائهم وإخوتهم الذين قضوا على يد النظام السوري، ولكن ببساطة على صور من حلب الجميلة قبل الحرب». ليس المهمّ هنا كيف توارت الثورة بحسب الصحيفة البريطانية، وإنما كيف «تطوّر الوعي الشعبي» إلى هذا الحدّ. فما نشهده الآن هو نتاج لعملية سابقة على الحرب وصيرورتها. الناس هنا بدؤوا يشعرون منذ فترة بتحوّل المعارضة إلى سلطة، وبزوال الهوامش التي كانت موجودة بينها وبين النظام. وهذا ردّ فعل أوّلي وغير معقّد، بمعنى أنّه لا يخضع بالضرورة لما تمليه الحرب من وقائع، فهو فعل تمرّد على السلطة. وهذه الأخيرة كانت قائمة قبل الحرب، وستبقى أيضاً بعدها، وجلّ ما فعلته الحرب أنّها سرعت من وتيرة التمرّد ونقلته في ظرف أقلّ من عام من ضفّة إلى أخرى. لنلاحظ أيضاً أنّ حصول الأمر في بيئات المعارضة له دلالة واضحة فيما خصّ النضوج الذي باتت عليه الكتل التي انتفضت، فهي لم تعد قادرة على تحمّل أي طرف يؤذيها أو يمارس عليها سلطة فائضة، وهذا ما لم يحدث بالقدر نفسه في البيئات الموالية (بالأحرى أنه لم يحدث إطلاقاً!). قد يسرّع استخدام الهاون بكثافة من حدوثه، فالوضع هنا بالفعل لم يعد يحتمل مزيداً من القتل، إذ إنّ الأمر مرتبط كما في ريف حلب ببيئات يجري العمل على إفنائها، وبالتالي يصبح الحفاظ عليها في ظروف الحرب والصراع من أجل البقاء أولوية بالنسبة إلى الناس. نحن هنا إزاء صراع على مستويين: أولاً صراع ضدّ السلطة بجناحيها النظامي والمعارض، وهو الصراع الذي سيؤسّس لقاعدة اجتماعية عريضة بعد انتهاء الحرب، وثانياً صراع مع الحرب نفسها ومع القوى المستفيدة من تغذيتها وإبقائها قائمة. المستويان بحسب مشاهداتنا لا يخصّان النظام ومعارضاته في شيء، ولا يعتبران مؤثّرين بالنسبة إليهما إلّا إذا انتقلا من مستوى «التنظير» إلى مستوى الفعل. وهذا بالتحديد ما يجب العمل عليه في المرحلة المقبلة. طبعاً ستبقى الأولوية لاحتواء آثار الحرب على المجتمع، ولكن مع الأخذ بالاعتبار أنّ «المقاومة» ليست فعلاً معزولاً أو خيار فردياً، وهو ما يظهر من ردود فعل المجتمع نفسه على جرائم السلطتين وتجاوزاتهما. الناس في البلد باتت مستعدّة أكثر من ذي قبل للردّ على استهدافها، وهي لذلك تخرج يوميّاً إلى العمل، ومن فقد عمله بفعل الواقع الاقتصادي أو النزوح يحاول بدوره أن يفعل شيئاً لمواجهة الحرب. على الجميع أن يدرك وهو يفعل ما يفعله أنّها مواجهة تتخطّى مصائرنا كأفراد أو كجماعات حتّى. هكذا هي الحرب عموماً، خيار تموّله مؤسّسات ودول وأجهزة استخبارات، لجعل الفوضى جزءاً من تركيبة المجتمع المراد تفكيكه. في البداية لم تكن حرباً، ولكنها أصبحت كذلك الآن، وبات لزاماً علينا التعامل معها على هذا الأساس فحسب. عندما كانت «ثورة» أو انتفاضة تعاملنا معها بوصفها حراكاً راديكالياً يصعد من تحت إلى فوق، ولم يتغيّر التعاطي إلا عندما ظهرت الفجوة بين التنظير والواقع. كان السكود حينها على أهبة الاستعداد، فيما الهاون لم يكن مطروحاً كخيار حتّى. لذلك كثر الحديث عن نظام وانتفاضة، واختفى التلميح إلى سلوك المعارضة. تغيّر المشهد فقط عند ظهور الهاون واستخدامه على نحو همجي وفظّ. المجتمع مدرك لهذا التغيّر أكثر من سواه، ولهذا السبب يقاوم استهدافه بالهاون، ويدفع بأفراده إلى المواجهة دفعاً، تماماً كما يفعل أهلنا في حلب عندما يواجهون السكود. لقد فرضت علينا السلطة منذ البداية واقع الاقتتال والاحتراب، وجرّت معها جزءاً من المجتمع. هذا الجزء الآن بدأ يراجع نفسه، ويفكّر في التخلّي عن خيار الاحتراب. سيبقى مصمّماً على إسقاط السلطة، فهذا أمر لا علاقة له بما أملته الحرب من وقائع، ولكنه سيحتاج إلى من يدعمه في مواجهة السلطة الجديدة التي ورثت النظام. البيئة التي يسقط أبناؤها يومياً بقذائف الهاون هي المؤهّلة أكثر من غيرها لفعل ذلك. تحتاج فقط إلى من يضغط على سلطتها، ويجبرها على التراجع والإذعان لما يريده المجتمع. وما يريده هذا الأخير هو أن يصبح احتواء الحرب إن لم نقل مواجهتها خياراً شعبياً بالمعنى الفعلي. بكلام آخر خيار يحظى بإجماع الطبقات التي لا مصلحة واضحة لها في استمرار الحرب. وهذا بحسب معطيات عديدة محلّية وخارجية أصبح «أمراً واقعاً». أمر لا يحتاج إلى ميليشيات ومنتصرين كي يصبح نافذاً، وهذه بالتحديد هي المعضلة التي نواجهها. في شهادتها عن الحرب تقول فرانشيسكا بوري: «في البدء، نحن كصحفيين كنّا مع المعارضة المسلحة لأنّها كانت تحارب من أجل الحصول على حريتها، ونحن شاهدنا بأنفسنا الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ضدّهم، أما اليوم فنحن نشاهد الجرائم التي ترتكب من قبل المعارضة المسلحة والأسد على السواء». بعد هذا الكلام أصبح ممكناً ضمّ الصحافة الغربية المحسوبة على اليسار إلى معضلتنا مع الحرب، وهو أمر يساعد رغم عبثيته في زيادة العزلة المضروبة حول الحرب وقواها. المهمّ أن يشعر المجتمع بكلّ ذلك ويأخذ زمام المبادرة بيده، فهو القوّة المادية الوحيدة القادرة على التحرّك بغياب السلطة، وقد فعل ذلك في السابق فلم لا يفعلها مجدداً؟
* كاتب سوري