لا تصدروا حكماً مُستعجلاً ضد هذه الدعوة البريئة، ولا تتصلوا بقاضي «الأمور المُستعجلة» في بيروت (وهو منهمك في رصد أي نقد ضد أولاد منصور الرحباني لأن ذلك وحده يخلّ بالسلم الأهلي). إن الدعوة ليست وحشيّة، وهي لا تدخل في سياق خطاب الدم والنفير الذي يصدّره النظام السعودي حول المنطقة العربيّة برمّتها. قد تبدو الدعوة هذه مُستهجنة في هذه الأيام المُحتقنة. قد يبدو هذا الكلام بعيداً عن أجواء «ماراثون» بيروت (أو بالأحرى «كزدورة» على ما رأينا من المسافة ومن الوتيرة في المشي) التي يراها اللبنانيّون واللبنانيّات دليلاً فاقعاً على الرقيّ والألفة. والكلام يبدو نافراً إذا ما أطلقها من يقطن تحت شمس كاليفورنيا وكأنه (أي حضرتي) يريد أن يدفع باللبنانيّين دفعاً نحو حقبة عنف جديدة من أجل إضفاء المزيد من التسلية على البرامج التلفزيونيّة التي يترقّبها المغتربون في المهاجر (وعددهم وصل في آخر تعداد للكاردينال صفير إلى نحو مليار أو أكثر قليلاً) على أحرّ من الجمر. لكن قد يكون خلاص اللبنانيّين (لا هلاكهم) في العودة إلى حرب ضروس لا تبقي ولا تذر. طبعاً، سيستنكر اللبنانيّون هذا الكلام وسيتعانق الشيخ والقسّيس كما يحدث قبيل نشوب كل جولة من جولات الحروب الأهليّة في لبنان. وأشرف ريفي يجزم بأن زعران المحاور في طرابلس هم عشّاق سلم وليسوا في وارد الحرب على الإطلاق. واللبناني مُسالم طبعاً لأن هذا جزء من طبيعته الممزوجة بالطحينة. لكن وحشيّة الحرب الأهليّة اللبنانيّة ترد على أذهان اللبنانيّين من طراز «تنذكر وما تِنعاد» أو على طراز هذه كانت «غلطة وصارت» أو من طراز «نحنا ما خصّنا. هيدا الغريب والأغراب مناكيد». لكن أحتاج إلى أن أدعم حجّتي من أجل عودة سالمة وأمينة إلى الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي يمنعنا «الغريب» من إكمالها لا من إنهائها. ما دفعني إلى التفكير بالدعوة الجديّة هو دراسة مفصّلة في العدد الأخير من مجلّة «إيكونوميست» (الرصينة وإن شاب تغطيتها للعالم العربي في السنوات الأخيرة الكثير من النواقص والعيوب والدعاية السياسيّة مثل معظم الإعلام الغربي) عن الحروب الأهليّة. بعض الحروب الأهليّة ينتهي، وبعضها الآخر يستمرّ، أو (على الطريقة اللبنانيّة) يأخذ إجازة ثم يعود، وبزخم. لقد نشبت نحو 150 حرب أهليّة حول العالم منذ الحرب العالميّة الثانيّة، ولم يستمرّ منها إلا عشر، حسب تعداد المجلّة. وتقول الدراسة إنّ حرباً أهليّة تبدأ في بلد أو اثنين في كل سنة، لكن مدة الحرب الأهليّة بعد نهاية الحرب الباردة تقلّصت. ولقد تقلّصت آجال الحرب الأهليّة من 4.6 سنوات إلى 3.7 سنوات بعد عام 1991 حسب دراسة لكريستيان سكريد غلايديتش من جامعة «إسِكس» في بريطانيا. وطبيعة نهايات الحرب الأهليّة تغيّرت أيضاً في السنوات المنصرمة، إذ إن الحروب كانت تنتهي بنصر حاسم لطرف على آخر قبل 1989 (في 58% من الحروب الأهليّة حسب مدير «مركز دراسة الحرب الأهليّة» التابع لـ«مؤسّسة بحث السلام» في أوسلو. النصر الحاسم بعد تلك السنة تقلّص إلى 13% من نهايات الحروب الأهليّة.
وفكرة ضرورة إكمال الحروب إلى خواتيمها السعيدة وردت في مقالة للصهيوني المتطرّف، إدورد لتواك، في مجلّة «فورين أفيرز» في آب 1999. يقول لتواك إن هناك «فضيلة عظيمة» للحروب لأنها «تحلّ الصراعات السياسيّة وتؤدّي إلى (إحلال) السلام». ويحدث ذلك عندما تُنهك قوى طرف من الأطراف المُتصارعة أو في حالة تحقيق انتصار حاسم لفريق على آخر. ويرى لتواك أن من الضروري إكمال القتال حتى تحقيق حلّ ما: «الحرب تؤدّي إلى السلام فقط بعد المرور في مرحلة ذروة من العنف». الرجل (أي لتواك) يريد من دعوته إنهاك أطراف معادية للعدوّ الإسرائيلي في الصراع مع أن وصفته تنتطبق أكثر ما تنطبق على الصراع العربي _ الإسرائيلي، بالرغم من نواياه المعاكسة في الموضوع. من يختلف (أو تختلف) على أن الحلّ الحقيقي للصراع العربي _ الإسرائيلي لن يتحقّق حتى بعد قرن من الصهيونيّة من دون تحقيق نصر حاسم وأكيد للطرف العربي ضد الصهيونيّة؟ إن استمرار حالة متأرجحة بين السلم واللاحرب (وذلك بسبب خوف الأنظمة العربيّة من إسرائيل وبسبب انصياعها التام للمشيئة الأميركيّة خصوصاً بعدما سلّمت العائلة السعوديّة المالكة مقدّرات السياسة والإسلام للوبي الصهيوني في واشنطن) لا ولن تؤدّي إلى تحقيق السلام بين العرب والصهاينة. على العكس، إن عدم تحقيق السلام _ أو المسير نحو سلام مخادع لا يعني أكثر من فرض المشيئة الصهيونيّة بالقوّة _ يعود إلى عدم تحقيق نصر حاسم ضد جيش العدوّ. إن السلام الحقيقي في الشرق الأوسط كان أقرب منالاً عندما كان العرب في وارد القضاء على الكيان الصهيوني. ولم يكن صدفة أن السلام بين النظام المصري الساداتي _ المباركي _ السيسي وبين إسرائيل زاد من عدد الحروب في المنطقة، وزاد من عدد ضحايا العنف. يتحقّق السلام بقدر ما يحزم العرب أمرهم لتحقيق نصر حاسم وأكيد ضد الكيان الصهيوني، وتحرير كل فلسطين من الاحتلال. إن السلم دون ذلك محال. لنعد إلى الحالة اللبنانيّة، وقد أفردت لها قسماً مجلّة الـ«إيكونوميست» (وتضمّنت رواية مسليّة عن حسين الحسيني وكيف أنه ببطولة ما بعدها بطولة هو الذي أنهى الحرب الأهليّة بيديه). ما علينا. إن الحرب الأهليّة في التاريخ اللبناني طقس من الطقوس. يقول المؤرّخ الفرنسي فرناند بروديل في مقدّمة الجزء الأوّل من كتابه «هويّة فرنسا» إنّ الشعب الفرنسي أثبت مهارة مميّزة في القتال الأهلي. لكن من الممكن دحض مقولة بروديل عبر تقديم النموذج اللبناني المُميّز في العنف الأهلي. إن قدرة الشعب اللبناني (العظيم فقط في منحى العنف الأهلي والصراعات) تكاد تتفوّق على قدرات شعوب أخرى. ولا ننسى أن الحرب الأهليّة اللبنانيّة تمتدّ على أكثر من قرن من الزمن. إن حرب الجبل في الثمانينيات من القرن العشرين لم تكن إلا امتداداً للحرب (أو الحروب) الأهليّة اللبنانيّة في القرن التاسع عشر. هناك من قتل خصماً له في «حرب الجبل» انتقاماً لمقتل جدّ (أو أب لجدّ أو جدّ لجدّ) في قرنٍ ماضٍ. ماذا يعني هذا غير أن الحرب الأهليّة اللبنانيّة (لو افترضنا تحليليّاً نشوبها في القرن التاسع عشر فقط مع أن من الممكن تأريخها لقرون سبقت، وخصوصاً إذا ما عدنا إلى زجليّة ابن القلاعي «مديحة على جبل لبنان» والتي كتبها في القرن الخامس عشر.)
لكن صلب القصّة أن اللبنانيّين لم يُتح لهم إكمال حروبهم الأهليّة حتى نهايتها _ السعيدة لطرف، والبائسة لطرف آخر. يجمع اللبنانيّون اليوم _ أو من يمتهن التخاطب والصراع باسمهم _ على أن لا قدرة لفريق على غلبة فريق آخر. يقولون إنّ لبنان لا يُحكم إلا بجناحيه (ولبنان طائر كما تعرفون، وهو يفيق من الموت مثل طائر العنقاء على ما تقول كليشيهات الكتابات السياسيّة في جريدة «النهار» المُحتضرة). ويقولون أيضاً إنّ الكل في لبنان اتعظ من عدم جدوى المحاولة لكسر شوكة الفريق الآخر مهما كان. لكن في هذا القول مبالغة. إنّ من الممكن المضيّ في الحرب الأهليّة حتى النهاية، ومن الممكن كسر شوكة فريق وهزيمته حتى النهاية، لكن بتوفّر شروط لا تستقيم في ظل هيمنة الأحزاب والقوى السياسيّة.
إن الحسم العسكري في الحروب الأهليّة هو المقدّمة الأولى لنهايتها، وقد حدث هذا في الحرب الأهليّة الأميركيّة وفي الحرب الأهليّة في الجزائر. وعندما تنتهي الحرب تعرف أنها تنتهي. في لبنان، لا يمكن الجزم بنهاية الحرب الأهليّة. ثم هل يُجمع اللبنانيّون على تاريخ نهاية الحرب الأهليّة؟ هل نتفق على موعد نهايتها؟ هل كانت في اتفاق الطائف، مع أن العنف استمرّ بعدها؟ هل يكمن في انتخاب رينيه معوّض، والرجل اغتيل بعد أيّام فقط من انتخابه؟ هل انتهت الحرب الأهليّة بعد ترحيل ميشال عون عن لبنان؟ ثم كيف تصنّف معارك الضنيّة؟ هل كانت هي في مرحلة السلم و«الرواق» والتعايش؟ وكيف تدخل مجزرة نهر البارد في حقبة السلم الأهلي، إلا إذا وافقنا عنصريّي لبنان على أن الشعب الفلسطيني لا يدخل في الحسبان الإنساني؟ وماذا عن المعارك المُستمرّة والمتقطّعة في طرابلس؟ هل هي سلم أم حرب؟ وكيف تتقرّر مسألة عودة الحرب الأهليّة لو عادت؟
أنا أقول إن الحرب الأهليّة في لبنان نشبت في 1958 واستمرّت بصورة أو أخرى مذّاك. صحيح، أن هناك رواسب (خصوصاً بين الدروز والموارنة كطوائف وليس كأفراد) تعود لقرن خلا، لكن المسائل التي تحارب اللبنانيّون حولها عام 1958 بقيت هي هي ولم تُحلّ بعد. إن المطالبة بنشوب الحرب الأهليّة والوصول بها إلى مرحلة الحسم القاطع هي دعوة تبغي السلم الطويل الأمد. عندما تنتهي الحرب الأهليّة «عن جدّ» يعرف سكّان البلد باليقين أنها انتهت. أنا ولدت عام 1960 وأذكر منذ طفولتي أن اللبنانيّين لا ينفكّون عن السؤال: «ستعلق»؟ هل ستعود الحرب الأهليّة؟ حالة القلق هي السائدة، وهي المسؤولة عن النسب العالية من الإدمان على الحبوب المهدّئة (وقد يكون ذلك سبب هذا التعلّق بحلوى الكبتاغون). والسؤال عن مآل مستقبل لبنان بديهي لأن المسائل التي اختلف حولها اللبنانيّون لم تُحلّ بتاتاً. على العكس، لا تزيد لفلفة وطمس الخلافات الصراع الكامن والدفين إلا تفاقماً.
إن الخلاف عام 1958 كان حول عدة مسائل؛ بينها: (1) هويّة لبنان. (2) سياسة لبنان الخارجيّة وموقف الحكومة من الصراع الإقليمي. (3) الموقف من القضيّة الفلسطينيّة. (4) الخلاف حول العدل الاجتماعي. (5) مسألة الغبن الطائفي. (6) نوع نظام الحكم. إن كل تلك المسائل كانت فاعلة في الحرب الأهليّة في 1975، وهي لا تزال عاملة في المرحلة الحالية من الوقوف على شفير الحرب الأهليّة (باستثناء العامل الرابع لأن الفريقين المتصارعين في لبنان، وهذا ينطبق على حزب الله كما ينطبق على تيّار المستقبل، لا يعيران أي اهتمام لمصالح الفقراء والطبقات الشعبيّة وهما يؤمنان بنموذج متطرّف في الوحشيّة من الرأسماليّة). لكن الصراع حول العدل الاجتماعي كان أساساً في الحرب في عام 1975، وصعود الوعي الطائفي (والصعود ليس عرضياً وقد دخلت في إذكائه دول مُختلفة مثل إيران والسعوديّة على حدّ سواء، كما أن السعوديّة لا تنتهج سياسة تفعيل الوعي الطائفي فقط، بل تصعيد وتيرة الكراهية وضخ العداء الديني ضد الآخر) لم يُحسم الصراع في عام 1860. تدخّلت فرنسا والنمسا وبروسيا وروسيا وبريطانيا من أجل وقف الحرب آنذاك. وقبلت السلطنة العثمانيّة بتطبيق نظام خاص في لبنان يكفل تأجيل (وليس حسم) الصراع بين الطوائف والمجموعات. عام 1958، كان الصراع مثل كل الصراعات اللبنانيّة في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين (وفي قرون خلت طبعاً) عرضة لتدخلات خارجيّة سبقت وواكبت الصراع نفسه. كان الصراع اللبناني عام 1958 وليد نفسه، كما كان مرآة لصراعات إقليميّة باردة وساخنة: الحرب الكونيّة الباردة كانت متوازية مع حرب عربيّة باردة (على تسمية الراحل مالكولم كير في كتابه «الحرب العربيّة الباردة»). وكانت إسرائيل غير بعيدة عن الخط: إن علاقة حزب الكتائب اللبنانيّة بالعدوّ الإسرائيلي سبقت سنوات الحرب الأهليّة عام 1958 بعقود. لم تكن رواية جوزيف أبو خليل عن الرحيل في مركب في عرض البحر إلا أسطورة لم يصدّقها حتى كاتبها، لأنه كان يتجاور في المكتب السياسي الكتائبي مع السفير اللبناني السابق، إلياس ربابي، الذي بدأ بعلاقة ماليّة (يعني مواقف مقابل رشى) بالنيابة عن حزب الكتائب مع العدوّ الإسرائيلي.
تغفل الروايات اللبنانيّة عن الحرب الأهليّة عام 1958 (بما فيها كتاب عادل مالك الأخير عن الموضوع) الدور الإسرائيلي فيها. كما أمدّ النظام الناصري الفريق العروبي ببعض السلاح، فإن العدوّ أمدّ ميليشيا الكتائب يومها بالسلاح، مع أن المراجع الإسرائيليّة لا تزال تتكتّم عن الموضوع (لكن المراجع تلك كشفت عن مبالغ من العدوّ لحزب الكتائب منذ الخمسينيات). والعدوّ لم يكن غائباً يوماً واحداً عن الحرب الأهليّة في 1975 وفي كل السنوات التي تلتها، حتى يومنا هذا. بمعنى آخر، مثّل فريق في لبنان مصالح العدوّ الإسرائيلي في كل مراحل التاريخ اللبناني المعاصر، بحربه وسلمه. وهذا الفريق يستحق أن يُقضى عليه مرّة واحدة، وبضربة قاسمة وهذا لم يحدث. وهذا الفريق ليس من طائفة واحدة أبداً. كانت الغلبة في القيادة السياسيّة لهذا الفريق مارونيّة في سنوات الحرب وما قبلها، والقيادة لهذا الفريق (أي خليفة حزب الكتائب في تمثيل مصالح العدوّ) هي سنيّة اليوم. وهذا لا ينزّه الطائفة الشيعيّة أبداً: إن فكرة أن هناك عناصر دينيّة أو إيمانيّة تضع الشيعة ككلّ في مواجهة محتّمة ضد الإمبرياليّة وإسرائيل هي فكرة طائفيّة لا تتطابق مع وقائع التاريخ. كان هناك عناصر في حركة أمل عام 1982 في جنوب لبنان تعاونوا وتعاملوا مع العدوّ الإسرائيلي (وقد تفاوت الأمر بين منطقة وأخرى: كان التعاون بين فرع حركة أمل في الغازيّة عام 1982 قويّاً جداً مثلاً، بينما كانت قيادة الحركة في بيروت تنتهج موقفاً رافضاً للاحتلال الإسرائيلي). والسيستاني، وهو أكبر مرجع شيعي عربي، مثّل أكبر عون للاحتلال الأميركي، كما أنّ محمد مهدي شمس الدين نصح أهل الجنوب بـ«المقاومة المدنيّة» _ على طريقة السيستاني _ ضد العدوّ الإسرائيلي، لكن دور شمس الدين في المهادنة مع نظام أمين الجميّل الإسرائيلي يحتاج إلى دراسة خاصّة. لم تثبت طائفة واحدة في موقعها في لبنان _ وهذا برسم الذين واللواتي يروّجون لنظريّة التفوّق الأخلاقي لطائفة على أخرى لأن الطوائف، بحكم النظام الطائفي، هي مثل قبائل أفغانستان والعراق: معروضة للإيجار، وتنتقل من موقع إلى آخر بحكم الظروف. أي أن وليد جنبلاط هو الممثّل الحقيقي والفعّال للطائفيّة الضيّقة.
منع النظام المصري والأميركي الحرب الأهليّة من الاستمرار في عام 1958، ما يعني أنها تأجّلت حتى عام 1975. وحرب الـ 58 كانت بمثابة التمرين للحرب المقبلة، كما قال لينين إنّ انتفاضة 1905 في روسيا كانت بمثابة التمرين لثورة أكتوبر. والأطراف في الحرب في 1958 كانت نفسها، والحرب احتاجت إلى الاشتعال مُجدّداً. لكن الراعي الأميركي عبر تدخّله المُباشر منع الانهيار المحتم لجبهة شمعون _ الكتائب (عندما دُهش عناصر المارينز عندما وطأوا شاطئ بيروت بالترحاب الذي لقوه من السابحين والسابحات، وبعضهم ساعد في إنزال القوّات، على ما قالت تقارير أميركيّة عسكريّة من تلك الحقبة). الحرب الباردة لم تكن لتسمح بإضافة عنصر قوّة جديد في خانة الاتحاد السوفياتي.
والمرحلة الفاصلة عام 1976 قبل تدخّل النظام السوري في الحرب كانت ستكون النهاية الفعليّة للحرب الأهليّة. صحيح أنّ الغلبة غير ممكنة في لبنان، لكن هذا صحيح فقط في ما يتعلّق بالغلبة الطائفيّة أو المذهبيّة. إنّ فشل 7 أيّار يعود إلى أنّ حزب الله لم يمثّل جبهة عابرة للطوائف، ولأن الحزب فشل في البناء على التحالف (الطائفي في جوهره) بينه وبين التيّار الوطني الحرّ. الحزب الذي خرج من رحم العمل السريّ والذي بنى قوّة عسكريّة سريّة لا يتقن لعبة الجبهات العريضة غير الطائفيّة. إنّ الحسم العسكري على فريق الحريري المتحالف مع العدوّ الصهيوني في 2008 كان ضروريّاً (بمعيار المصلحة الوطنيّة وبمعيار القضيّة الفلسطينيّة _ كان ذلك في زمن كان مروان حمادة يدور على عواصم الدول المتحالفة مع العدوّ الإسرائيلي لتقديم خريطة بشبكة اتصالات حزب الله)، لكن البنية الطائفيّة لحزب الله وعقيدته الدينيّة منعتا ذلك.
إن الحسم العسكري الحاسم ضد الفريق الإسرائيلي في لبنان عام 1976 كان فرصة نادرة في تاريخ الحرب الأهليّة اللبنانيّة (وهل تاريخ لبنان إلا تاريخ للحرب الأهليّة _ الجارية والمؤجّلة والمُقبلة) لإنهاء الصراع الأهلي لمصلحة فريق على آخر. كانت تجربة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة آنذاك (قبل أن تصل إلى يدي وليد جنبلاط الذي أمعن فيها قتلاً على الهويّة) واعدة وفريدة ونادرة، وكان القضاء على الفريق الانعزالي في لبنان كفيلاً بتقصير أمد الحرب. لكن تكالب ضد فرصة الحسم العسكري آنذاك تحالف إسرائيلي _ سعودي _ أميركي _ سوري _ فرنسي وكان فريق متنفّذ في حركة «فتح» ضد انتصار الحركة الوطنيّة في الحرب. (كان موقف ياسر عرفات نحو الحرب الأهليّة اللبنانية مطابقاً لموقف كيسنجر من الحرب العراقيّة _ الإيرانية، أي أنه لم يرد النصر لأي من الفريقين). هذه هي معضلة حزب الله اليوم: الصراع مع العدوّ الإسرائيلي في لبنان وفي المنطقة يحتّم ضرورة كسر شوكة 14 آذار (الوريث الشرعي لفريق القوّات اللبنانيّة في الحرب الأهليّة) لكن موانع هائلة تحول دون تحقيق ذلك النصر المؤجّل. إن نصر حزب الله ضد خصومه سيكون نصراً طائفيّاً ومذهبيّاً لأن الحزب ليس علمانيّاً عابراً للطوائف، كما أنه لم يبن جبهة مساندة للمقاومة (كما بنى كمال جنبلاط جبهة عربيّة مُساندة للثورة الفلسطينيّة). النظام الطائفي الذي انخرط فيه حزب الله لا يسمح إلا بمساومات طائفيّة وتحالفات طائفيّة على حساب المواجهة الاستراتيجيّة مع العدوّ.
لهذا، فإن الحرب الأهليّة المُقبلة حتميّة. لكن طبيعتها وصيرورتها تتعلّق بظروف النشوب (على وزن أسباب النزول). إن تحالفاً دوليّاً (سورياً _ سعوديّاً _ أميركيّاً _ فرنسيّاً) توصّل إلى صيغة (أو هدنة) «الطائف» لإنهاء سلسلة من الحروب الأهليّة (تحوّلت الحرب الأهليّة «النقيّة» في عام 1975 _ 76 إلى سلسلة من الحروب الأهليّة ذات الطابع الطائفي بين الطوائف وفي داخلها، وإن كانت الحروب في داخل الطائفة أكثرها وحشيّة). لكن أمر اندلاع الحرب يتقرّر بناءً على حسابات بعضها طائفي وبعضها إقليمي ودولي. وتستمرّ حالة القلق بين الناس في لبنان مع أن الأغنية («راجع، راجع، يتعمّر راجع لبنان») تعدنا أن لبنان الذي سيخرج من جولة أخرى من الحروب سيعود حتماً «أجمل مما كان». فلمَ الخوف؟
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)