في يوم 2 شباط 1982 قاد ثلاثة مهندسين انتفاضة مسلحة ضد النظام السوري في مدينة حماه، هم عمر جواد ورياض الشقفة وفاروق طيفور، انبنت حركتها على أساس أن تكون بؤرة لتفجير الوضع السوري من جديد وصولاً إلى اسقاط النظام: قتل الأول وهرب الإثنان الآخران إلى العراق إثر فشل تلك الحركة بعد عشرة أيام من بدئها، تاركين أبناء المدينة يواجهون مصيراً بائساً ومؤلماً. كان التنظيم الذي ينتمي إليه هؤلاء الثلاثة، وهو «تنظيم الطليعة المقاتلة»، قد قام بمحاولة سابقة في يوم 16 حزيران 1979، عندما ارتكب مجزرة في مدرسة المدفعية في حلب أودت بحياة المئات من تلاميذ الضباط على أساس طائفي، لتفجير الوضع السوري الاجتماعي من خلال «بؤرة حلبية»، وهو ما فشل فيه بين صيفي 1979 و1980، مما دفعه للتوحد في الشهر الأخير من عام1980مع «التنظيم العام للاخوان المسلمين» (عدنان سعد الدين) و«تنظيم الطلائع الاسلامية» (عصام العطار) ولوضع البيض كله في سلة صدام حسين الذي لم يكن بعيداً عن الايحاء والدفع نحو ما جرى في حماه للضغط على النظام السوري المتحالف مع طهران أثناء حربها مع بغداد (منذ 22 أيلول1980).كان المهندسون الثلاثة تلاميذ للشيخ مروان حديد (مواليد حماه عام 1934) الذي تأثر أثناء دراسته للهندسة الزراعية في مصر بأفكار سيد قطب حول دور «الطليعة المؤمنة» في «احداث الانقلاب الاسلامي» ضد «المجتمع الجاهلي». منذ نيسان 1964 حاول الشيخ مروان تطبيق نظرية «البؤرة» ضد نظام البعث انطلاقاً من مدينة حماه وفشل، لينصرف بعدها إلى تأسيس «تنظيم الطليعة» في النصف الأول من عقد السبعينيات في حركة انشقاقية عن «التنظيم العام للاخوان المسلمين»، قبل أن يعتقل عام 1975 ومن ثم يموت في السجن عام 1976 إثر اضرابه عن الطعام. بين شباط 1976 ومجزرة مدرسة المدفعية دخل «تنظيم الطليعة» في سلسلة من الاغتيالات لمسؤولين سوريين، عسكريين ومدنيين تم انتقاؤهم على أساس طائفي، من أجل الدفع نحو احداث شرخ طائفي داخل الجهاز السلطوي الحاكم، قبل أن ينتقل إلى توسيع البيكار نحو المجتمع من خلال ما جرى في مدرسة المدفعية بالراموسة.
انبنت استراتيجيات «تنظيم الطليعة» من خلال نزعة من «الإرادة الثورية» عند «طليعة» لتحريك مياه راكدة (= المجتمع) عبر بؤر تفجيرية (16حزيران 1979 و2 شباط 1982) بعد فشل الصواعق التفجيرية التي حاولها هذا التنظيم لبنية السلطة السورية من خلال عمليات الاغتيالات. لم يتجاوب غالبية سنة سوريا مع «تنظيم الطليعة» ولا مع «الاخوان المسلمين» طوال أحداث حزيران 1979 ــ شباط 1982 عندما أظهرت برجوازية دمشق وأرياف حوران ودمشق وحلب وديرالزور قوة القاعدة الاجتماعية للسلطة وعبورها للطوائف، فيما اقتصرت حركة «الإخوان» على فئات مدينية وسطى متعلمة في غالبيتها في مدن حماه وحلب واللاذقية مع استثناء لافت في بلدات وقرى محافظة ادلب، حيث كان «الإخوان» ذوي قاعدة اجتماعية قوية.
لم تكن هذه «النزعة الإرادوية الثورية» شبيهة أو مماثلة لـ«نظرية الطليعة الثورية» عند لينين، عندما يقتصر على «تصدير الوعي السياسي الثوري إلى جسم اجتماعي ناهض ومتحرك ولكن لا يستطيع وحده من دون طليعة منظمة الوصول لأكثر من الوعي العفوي»، وإنما تهدف عبر «الإرادة الثورية» إلى «الاستنهاض» عبر صدمات كهربائية تمثلها «البؤر المشتعلة». في روسيا السبعينيات من القرن التاسع عشر حصلت تجربة مماثلة لجماعة الاخوان المسلمين عند «النارودنيين» (الشعبيين) الذين أرادوا اشعال الثورة ضد السلطة القيصرية من خلال الفلاحين. كان «النارودنيون» بأغلبهم من المثقفين وغالباً من المدن والعديد منهم كانوا يهوداً. عندما لم تحصل استجابة اجتماعية عند الفلاحين الروس، الذين جرى تحررهم حديثاً من القنانة بمرسوم من القيصر في عام 1861، اتجه قسم من «النارودنيين» في آب عام 1879 بعد ثلاثة سنوات من البدايات نحو «العنف الثوري» من خلال تأسيس منظمة «نارودنيا فوليا» (إرادة الشعب) قالت بـ«النضال عبر الإرهاب والتآمر الفردي». في 1 آذار 1881 اغتالت هذه المنظمة القيصر وقد كان منفذو عملية الاغتيال من الطلاب ومعظمهم يهوداً. خلال ربع قرن تقريباً حتى ثورة 1905 كانت ممارسة «الإرادوية الثورية» لخلق ثورة في محيط راكد عبر «العنف الثوري» سبباً في عهد من الإرهاب القيصري لم تكسره سوى الهزيمة أمام اليابان التي كانت مقدمة لثورة 1905 وبداية نهوض ثوري سياسي انطلق من الجسم الاجتماعي ولاقته الأحزاب ببرامجها ولم تخلقه «إرادوية ثورية».
مثل «الإخوان المسلمون» كان «النارودنيون» الذين أسسوا «حزب الاشتراكيين الثوريين»، في 1902 من الحلقات النارودنية، ينوسون بين السلمية والعنف في ضوء انقساماتهم بين ليبراليين يمينيين يعتمدون على قاعدة فلاحية غنية (الكولاك) ويساريين أقرب للنزعة الفوضوية عند باكونين وللنزعة التآمرية عند أوغست بلانكي كانوا يستندون إلى قاعدة عند الفلاح العادي (الموجيك). في فترة حكومة كرنسكي بعد ثورة شباط 1917 اقترب «الاشتراكيون الثوريون» من حزب «الكاديت» الليبرالي، ولكن مع انتصار البلاشفة في ثورة أكتوبر كان «الاشتراكيون الثوريون» أول من قرر حمل السلاح ضد السلطة الجديدة وبالتشارك مع بقايا سلطة القيصر وبالتعاون مع الأجنبي، قبل أن يلحق جناحهم اليساري بهم، بعد تعاون قصير مع البلاشفة استغرق حتى آذار 1918، ويدخل في سلسلة اغتيالات ضد القادة البلاشفة كانت ذروتها محاولة اغتيال لينين في 30 آب 1918.
مع بداية «الحراك السوري» منذ 18 آذار 2011 كان واضحاً أنه عفوي وغير منظم من أحزاب أو «طليعة»، ولكنه كان مختلفاً عن أحداث 1979 ــ 1982 من حيث إنه (مع استثناء مدينتي درعا وحمص) حراك ريفي من حيث القاعدة الاجتماعية في أرياف حوران وحمص وحماه وادلب وحلب ودير الزور، مما كان نتيجة لتدهور الزراعة وتحول القاعدة الاجتماعية للسلطة من قواعدها الريفية القديمة نحو قاعدة برجوازية جديدة أتت حصيلة تراكمية بطيئة لتحولات فترة 1974 ــ 2008 الاقتصادية ــ الاجتماعية. في فترة «الحراك السلمي ــ حتى أيلول2011» لم تشتغل «النزعة الإرادوية» عند الأحزاب بل حصلت «نزعة شعبوية» أرادت ملاقاة «الإرادة الشعبية». ولكن عندما حصل استعصاء سوري تمثل بعدم قدرة «الحراك» على تحقيق شعاراته، وإثر فشل الرهانات على الخارج بعكس ما جرى في العراق وليبيا، حصل استيقاظ لـ«النزعة الإرادوية الثورية» عند أصحابها القدامى من الاسلاميين، وعند بعض اليساريين السابقين الذين اتجهوا نحو الليبرالية الجديدة في فترة ما بعد السوفيات وعند «معارضي ربع الساعة الأخيرة»، كان «العنف المعارض» هو عنوانها الرئيسي.
خلال مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية في 2 ــ 3 تموز 2012 طلب الدكتور ناصر القدوة، معاون المبعوث الأممي ــ العربي المشترك كوفي أنان، من مجموعة من قادة الفصائل المعارضة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أن يختلوا معه في غرفة جانبية: طلب منهم الموافقة على بيان جنيف الصادر قبل ثلاثة أيام. قام نائب المراقب العام لجماعة الاخوان المسلمين في سوريا، وعضو المكتب التنفيذي لـ«المجلس الوطني» فاروق طيفور بالرد من خلال الكلمات التالية: «ليس لنا من حليف سوى الله. سنأخذ الأمر بأيدينا وعبر السلاح».
في خريف 2013 وضح وتبيّن وتكشف فشل «النزعة الإرادوية» من خلال وسيلة «السلاح المعارض» بعد استعماله الممنهج والكثيف بين صيفي 2012 و2013، كما في فترة 16 حزيران 1979 ــ شباط 1982.
* كاتب سوري